الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عشرية "التوازن الكارثي" لبنانيا… فسوريا

عشرية "التوازن الكارثي" لبنانيا… فسوريا

17.02.2015
وسام سعادة



القدس العربي
 الاثنين 16-2-2015
قبل عشر سنوات، لم يتحوّل الغضب الشعبي على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه بتفجير مروّع إلى غضب "سني فقط"، بل امتدٰت دائرة الغضب لتشمل فئات واسعة من المسيحيين، وكذلك الدروز، ونسبة نخبوية من الشيعة، الأمر الذي عبّر عن نفسه بجلاء في الحشد الجماهيري يوم الرابع عشر من آذار 2005، أي بمناسبة مرور شهر على الاغتيال، وكذروة بلغها الحراك الميداني الذي اتخذ لنفسه عنوان "انتفاضة الاستقلال"، لكن أيضاً كرد متفوّق في العدد على ما جمعهم "حزب الله" وحلفاؤه، يكاد يكون من الطائفة الشيعية فقط، قبل ذلك بأيام قليلة، يوم الثامن من آذار/مارس، وتحت عنوان "الشكر" للنظام السوري.
بدت الأكثرية الشعبية اللبنانية واسعة، ومصمّمة على انهاء وصاية هذا النظام، وكان لدى هذه الأكثرية أيضاً مزاج شديد السلبية من التمديد القسري للعماد اميل لحود في سدّة الرئاسة، لكنه تبيّن سريعاً أنه مزاج يصعب تحققه في فعل سياسي  حاسم، بسبب من جملة عوامل أبرزها موقف البطريركية المارونية الرافض لاسقاط رئيس الجمهورية الماروني في الشارع، الأمر الذي قد يعرّض لاحقاً مارونية الرئاسة للسقوط في الشارع أيضاً. ويضاف تعذّر اتفاق الحركة المناهضة للوصاية السورية آنذاك على شخصية بديلة، وتعذّر اتفاقها مع "حزب الله" على شخصية توافقية أيضاً، الأمر الذي نتج عنه رحيل الجيش السوري عن لبنان وبقاء إميل لحّود في قصر بعبدا حتى انقضاء فترة التمديد له دون زيادة ولا نقصان.
كل هذا في وقت تتابع فيه مسلسل الاغتيالات لعدد من الشخصيات المتقاطعة على مناهضة حكم الوصاية والتمديد للحود، وتأييد القضاء الدولي في ملف اغتيال الحريري. ولم تغب المفارقات في تلك السنة الرهيبة في التاريخ اللبناني المعاصر، وليس أقلٰها تحالف "حزب الله" الانتخابي مع أقطاب "انتفاضة الاستقلال" عدا الجنرال عون، ما سيتبدّل بصخب كثير بعد ذلك بسنة، وتحالف عون العائد من المنفى الباريسي الطويل مع وجوه معروفة بشدة الولاء للنظام السوري، ورفض نواب "حزب الله" تلقي "النصيحة من ضابط"، يوم توجه لحود بكتاب إلى المجلس النيابي يحذّر فيه من قانون الانتخاب المعتمد، في حين تسجل محاضر مجلس الوزراء من ذلك العام حديث للحود في احداها باسم انتفاضة 14 آذار/مارس التي كانت، شعبياً، لاسقاطه، ثم نجاته من مصير رفاقه الضباط الآخرين المرتبطين مباشرة بالنظام السوري، والذين أوقفوا بطلب من لجنة التحقيق الدولية، ورزحوا في السجن لسنوات، قبل أن يخلى سبيلهم ويستدر الاتهام الدولي باتجاه شبكة أمنية منتمية إلى "حزب الله".
عشر سنوات يحق للبنانيين التساؤل فيها – والمحكمة الدولية كصبر أيوب، هل ضاعت عليهم سياسياً سدى، أم شهدت حيزاً من التراكم السياسي الايجابي. الواضح أنها عشر سنوات بددت مقولات كثيرة. منها أنه بخروج الجيش السوري يلملم اللبنانيون تدريجياً وحدتهم الوطنية.
وهذا لم يصح، استفاد الجميع من الحرية الناتجة عن رحيل هذا الجيش ومخابراته عن لبنان، بما في ذلك "المتشكرون" للوصاية، كـ"حزب الله"، ولم ينتج عن ذلك قاعدة تفاهم وطنية مشتركة على مرحلة ما بعد الوصاية، بل العكس. "حزب الله" الذي كان غائباً عن خطاب المتجمهرين في يوم الرابع عشر من آذار، الا من باب التنديد بـ"زلّة" تشكره الجماهيري لنظام بشار الأسد، والذي تحالف مع "انتفاضة الاستقلال" المناهضة للوصاية في الانتخابات التي تلت جلاء الأخيرة مباشرة، سرعان ما تحوّل إلى الخصم الرئيسي، الأمر الذي تصاعد بعد انتقال العماد عون للتحالف معه، وبعد الانشطار المجتمعي والكياني على خلفية حرب تموز، ثم استخدام الحزب سلاحه في الداخل، في نقض لمقولة راجت وقتذاك بأنه لا صالح له في الفتنة المذهبية المباشرة، وكان هذا طبعاً قبل أن يوجّه الاتهام الدولي لنخبة من عقول الحزب الأمنية باغتيال الرئيس الحريري، وقبل أن يتدخّل الحزب عسكرياً في الحرب السورية إلى جانب قوات النظام.
من المقولات التي راجت ثم بادت أيضاً أن المُحرّر يحكم. لا من تصدّر مشهد اخراج الوصاية السورية "حكم"، ولا من أخرج الاحتلال الاسرائيلي من جنوب لبنان "حَكَم". ما حدث أن أزمة الحكم ظلّت تستفحل في هذا العقد الذي دشنته سنة 2005. تفوق 14 آذار في الاستحقاقين الانتخابيين، عام 2005 و2009، لم ينفعها كثيراً في وجه الاغتيالات ثم السلاح المكشوف. تفوق "حزب الله" العسكري والأمني، لم ينجح في اعطاء الدعوات المتقطعة لـ"اعادة تشكيل السلطة" و"المؤتمر التأسيسي" أي بعد برنامجي واضح. وأكثر، هذا التفوق العسكري للحزب في الداخل اللبناني لم يعد ذلك المعطى الحاسم مع دخول الحزب في الحرب السورية الطويلة، وما لحق ذلك من استهدافات تفجيرية طاولت نقاطا من الضاحية الجنوبية، بما فيها الهجوم الانتحاري الذي استهدف السفارة الإيرانية، الأمر الذي فرض مناخاً من "الاحتراس الأمني" تنتابه أحياناً حالات من الهلع، على جمهور الحزب وشريحة واسعة من الطائفة الشيعية اللبنانية التي تشيع يومياً أبناء لها في سوريا.
ومن المقولات التي بادت أن سوريا بانسحابها من لبنان وانقسام اللبنانيين على انسحابها وما بعده، أكثر من انقسامهم تحت وصايتها، سوف يقوي ساعد نظامها وينتعش اقتصادها. بعد ست سنوات على انسحابه من لبنان، زجّ الجيش السوري بالمدفعية التي استخدمها مطولاً لتسوية الأمور لبنانياً  وفلسطينياً ـ لبنانياً، ضد الأهالي في مختلف أنحاء سوريا. لكن انفجار الثورة السورية لم يسفر عنه تحقيق لمقولة الشهيد سمير قصير التي تربط بين استقلال لبنان وديموقراطية سوريا.
ما حدث هو سريان مقولة المفكر الشيوعي الايطالي انطونيو غرامشي في البلدين، أي مقولة "التوازن الكارثي". في لبنان، نجح المنتفضون على الوصاية السورية باخراج جيشها، مستفيدين من عباءة قرار دولي، ولم ينجحوا في مقارعة حلفائها الداخليين، وهؤلاء توثقت علاقتهم بالنظام أكثر فأكثر إلى يوم دخولهم سوريا لانجاده، ولا يزالوا.
ونجح "حزب الله" في توسيع نطاق نفوذه، سياسياً بتحالفه مع عون، وعسكرياً، بتدخله المسلح في بيروت الغربية وبعض المناطق الدرزية في الجبل، مع استفادته التلقائية من رخاوة الجبهة السياسية الداخلية المناهضة له، لكنه لم يستطع أن يفرض على لبنان ما فرضه حلفاؤه الحوثيون على العاصمة اليمنية، وصورة "المجتمع المقاوم" الزاهية التي سعى إلى تقديمها، لا سيما ابان حرب تموز وفي اثرها، ظهرت استعارة جميلة على الأكثر، كما هي استعارة "ثورة الأرز" عند القوى والجماهير المناهضة له. "التوازن الكارثي" على الطريقة اللبنانية سفكت في اطاره دماء "موضعية"، كالاغتيالات والاشتباكات، من 7 ايار/مايو 2008 إلى مواجهات طرابلس وصيدا. لكنه لم يتطور إلى حرب أهلية. أما "التوازن الكارثي" على الطريقة السورية بين ثورة لم تطح بنظام ونظام لم يستطع اخماد ثورة فتطور إلى تدمير مجتمعي هائل ومستمر، ونزيف دموي واسع، وكارثة انسانية شرّدت الملايين خارج منازلهم وديارهم، ونقض "الدولة الإسلامية" لفكرة سوريا نفسها.
"شعب واحد في بلدين"، كان يحب حافظ الأسد تردادها. لكنها اليوم، شعبان سوري ولبناني في لبنان بعد عشر سنوات على رحيل وصاية الجيش السوري على لبنان، وبعد اضمحلال رقعة سيطرة هذا الجيش في سوريا نفسها. وهي أيضاً توازن كارثي في صيغتين مختلفتين بين البلدين.
واحدة محتبسة حرارياً، والثانية حريق لا يتوقف. فالحرب الاهلية السورية بخلاف سابقتها اللبنانية لم تشهد حتى الآن يوم وقف اطلاق نار واحد. الحرب اللبنانية نصفها فترات هدنة ووقف اطلاق نار، ومناطق تأخذ "الحمل" عن مناطق، وخطوط تماس تحولت مع الوقت إلى معادل لجدار برلين. مدن بأكملها ظهرت في لبنان في سني الحرب.
الحرب اللبنانية كانت تدميرية لا سيما لوسط بيروت ولقرى المجازر المروعة في الجبل. لكنها كانت أيضاً، بحدّ ذاتها، نهضة عمرانية نتج عنها ما عرف في وقت من الاوقات بـ"بيروت الكبرى". ليس هذا حال المواجهة على جبهة دمشق وغوطتها