الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن "التطابق" الروسي التركي

عن "التطابق" الروسي التركي

14.07.2016
د. مدى الفاتح


القدس العربي
الاربعاء 13/7/2016
كيف يمكن أن يكون هناك تطابق بين تركيا التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين وبين روسيا التي تسببت، من خلال دعمها لنظام بشار الأسد، في تعقيد هذه الأزمة التي لا يبدو أنها في طريقها لحل قريب؟
هل يمكن أن تتطابق الدولة التي تحدثت منذ وقت مبكر باسم الثورة السورية وحقوق الثوار مع من تحدثوا باسم الديكتاتور، رافضين تنحيته باعتباره رئيساً شرعياً؟ ثم، هل يمكن لمن كان كل طموحه هو تمتع المدنيين بمنطقة عازلة ومنطقة حظر جوي أن يتساوى مع من شارك في القتل بفعالية عبر طيران متقدم وأسلحة منها ما هو محرّم وممنوع؟
لا شك أن هذه الأسئلة التي تدور بخلد القارئ منطقية، فقط أقول إنها يجب أن لا تتوجه لكاتب المقال، بل لوزير الخارجية التركي مولود أوغلو الذي تناقلت وسائل الإعلام تصريحه عند لقائه بنظيره الروسي بعد عودة المياه لمجاريها بين الدولتين، وقوله إن تركيا وروسيا تشتركان في وجهة النظر ذاتها، فيما يتعلق بـ"الإرهاب".
بدا للمراقب وكأن أحد الطرفين قد غيّر قناعاته بالكامل، فإما أن روسيا قد توقفت عن دعم بشار الأسد، الذي يعتبر أس البلاء وأصل المشكلة، حسب المنطوقات التركية الرسمية السابقة، وإما أن تركيا تراجعت عن موقفها السابق لترى أن علاقات استراتيجية جيدة مع روسيا يجب أن تمر عبر بوابة النظام السوري.
انتقل الحديث للتركيز على الاتفاق التركي الروسي على وصف كل من "تنظيم الدولة" و"جبهة النصرة" بالتنظيمات الإرهابية، لكن التصريح الأول الذي يتحدث عن تماهٍ تركي روسي حول موضوع الإرهاب كان ما يزال يتناقل عبر وسائل الإعلام. الطريف في الأمر أن التصريح اهتمت به وسائل الإعلام المقربة من تركيا والمخاصمة لها على حد سواء، فأما المقربون فقد أرادوا أن يقود اهتمامهم إلى استدراك أو تصحيح من الجانب التركي الرسمي لإيضاح الالتباس، وأما غيرهم فقد بدا شامتاً في الدولة التركية التي ابتلعت مواقفها القوية السابقة لتبدو براغماتية بشكل أكبر مما يتخيل الجميع.
أما أنصار "تركيا الإسلامية" من العرب فقد أصبحوا في موضع لا يحسدون عليه، ففي حين كانوا يروّجون أن الخلاف بين روسيا وتركيا هو في أصله خلاف بين الإسلام والصليبية، وأنه ليس سوى معركة "جهادية" يؤثم من وقف مع الجانب الخطأ فيها، إذا بالجانب التركي يصفعهم بقوة بإعلانه أن الخلاف سياسي يحل بالتفاهمات الدبلوماسية والتنازلات المشتركة.
هذه المرة لم يكن لدى أولئك ما يقولونه ولم يعد لديهم ما يعتذرون به. الواقع أن لا أحد قد طالبهم في أي وقت بالتبرير أو الاعتذار. لكنهم كانوا دائماً يرون في تركيا المثال السامي لتجربة الحكم الإسلامي المفقود، رغم أن ذلك هو أمر يكذبه الواقع، كما تكذبه تصريحات الساسة الأتراك الذين لا يعتبرون بلادهم إسلامية، بل علمانية تتساوى أمامها الأديان والمذاهب.
حينما بدأ التقارب بين تركيا والكيان الصهيوني كان للأنصار العرب مبررات جاهزة أهمها أن هذا التقارب سيقود إلى فك الحصار عن قطاع غزة وهو بهذا الشكل مفسدة في ذاته لكنها مفسدة تقود إلى مصلحة أكبر، أي أنها "مفسدة محمودة". إلا أن أولئك سرعان ما أصابهم الإحباط بعد إعلان الكيان الصهيوني ترحيبه بهذه المصالحة التي لا تتضمن سوى الاعتذار عن حادثة سفينة مرمرة. لقد قال قادته بوضوح أن مسألة حصار القطاع هي مسألة لا تهاون فيها لما تمثله من أمن قومي. بإمكان أصحاب النظرة الأخلاقية أن يراهنوا بالقدر ذاته على أن علاقات موسكو وأنقرة الجديدة قد تساهم في تغيير دفة الحرب، لكن هذا يبقى رهاناً خيالياً لا مؤشرات فعلية عليه، فبعد مرور أكثر من أسبوعين على "تصفية اللبن" بين الجانبين فإن موسكو ما تزال تضرب بقوة وبعشوائية وضراوة في أكثر من مكان.
أما إذا نحينا الأخلاق جانباً وبقينا ضمن الحسابات السياسية المادية التي تبتعد قليلاً عن موضوع نصرة الشعب السوري، فسنكتشف أولويتين رئيسيتين تربطان تركيا بروسيا: الأولى هي المتعلقة بالحركات الكردية التي لا يشك الأتراك في تلقيها دعماً وتسهيلات روسية تضاعفت خلال شهور تصاعد العداء بين الطرفين.
إذا حدث تطابق في وجهات النظر في ما يتعلق بموضوع الأكراد، فإن هذا ربما يعني إيقاف الدعم الروسي للمقاتلين الذين استطاعوا خلال الفترة الماضية تسديد ضربات موجعة في الداخل التركي، وحيث أن الموضوع الأمني بات أولوية ماسة للشعب وللحكومة التركية، خاصة الحزب الحاكم، فإن كل ما يؤدي للتأمين سيصبح أولوية كذلك وعلى رأسه المسألة الروسية. الأولوية الثانية هي ضرورة التنسيق الجاد لمحاربة "تنظيم الدولة الإسلامية" الذي استطاع تنفيذ عمليات نوعية لا تقل إجراماً عن تلك التي نفذها الأكراد، فهو التنظيم الذي يتوعد الدولة التركية بإصرار عبر إعلانه السعي لما يسميه بـ"فتح القسطنطينية".
التنسيق الجاد يعني تجاوز الحديث عن أصل المشكلة المتمثل في إرهاب النظام من أجل مكافحة هذه الخلايا الإرهابية، التي باتت تشكل تهديداً أكبر وأهم لتركيا من النظام السوري المترنح. هذا كله طبعاً إلى جانب الاحتياج الاقتصادي، فإذا كانت الأولوية الحالية لدى الأتراك هي الأمن، فإن الرفاه والانتعاش الاقتصادي وضخ مياه جديدة في سوق الاستثمارات والسياحة والتجارة كل تلك أولويات متفاوتة يمر أكثرها عبر الحدود الروسية.
إن البحث عن المصلحة المجردة أو ما يسمى بشكل أكثر تهذيباً بالبراغماتية السياسية ليس إلا لعبة رهان خطرة، لعبة على صاحبها أن يكون شديد الحرص، وهو يزن كل الافتراضات والاحتمالات المتاحة. على سبيل المثال فإن تحسين العلاقة مع تل أبيب وعدّها من بين "الأصدقاء" الذين يجب التكثير منهم قد يقود بالفعل إلى طي صفحة الجمود الذي شاب العلاقة مع الولايات المتحدة، خاصة إدارة أوباما مما قد يؤدي إلى دور أكبر لتركيا ضمن حلف الناتو والمنظومة الغربية عامة. أيضاً يحقق طي صفحة الخلاف مع موسكو عدداً من المكاسب الاستراتيجية على النحو الذي ذكرناه آنفاً.
بالمقابل فإن هناك خسارة كبيرة يجب التفكير فيها وهي المتمثلة في التضحية بالكثير من الداعمين الشعبيين لتركيا داخل وخارج العالم العربي. بالتأكيد فإنه سيظل هناك على الدوام من يدعم تركيا ويرى في أردوغان خليفة إسلامياً جديداً مهما بدر منه، إلا أنه يجب الاعتراف بأن الأمر قيد التغيير، فباستبعاد شخصية محبوبة مثل داود أوغلو وإعلان تركيا كدولة "عادية" تبحث عن مصلحتها الوطنية المجردة التي قد تقودها للتطابق مع وجهة نظر من يعدهم الناشطون والمتحمسون أعداء للأمة الإسلامية، بهذا كله ستخسر تركيا بلا شك سنداً شعبياً مهماً ساهم في تسويقها، حتى بالمعنى التجاري، في عدد كبير من الأقطار.التطابق مع روسيا قد يكون زلة لسان أو مجرد عبارة للمجاملة الدبلوماسية وهي عبارة استخدمها معظم القادة العرب، حتى من أولئك الذين وقفوا بجانب الثورة السورية، لكن المشكلة تبقى عند أولئك الذين ظنوا أن لتركيا دوراً مختلفاً عن غيرها من دول المحيط، والذين بدأ بعضهم بمراجعة قراءته للمواقف التركية منذ بداية الأزمة السورية. على سبيل المثال فإن تصريحات أردوغان كانت قوية ومتحمسة، لكن تصريحات أوباما وغيره من الأوروبيين كانت كذلك أيضاً وجميعهم يتساوون في عدم تقديمهم دعماً فعلياً سواء باتجاه تقوية الثوار أو باتجاه إضعاف الديكتاتور.
استضافت تركيا عدداً كبيراً من اللاجئين فعلاً، لكنها لم تكن تملك خياراً آخر لضرورة الجغرافيا وللمأزق الأخلاقي الذي وضعت نفسها فيه، وإذا كان ذلك كافياً لجعل أردوغان "خليفة" فإن ميركل التي ناضلت من أجل فرض الآلاف من السوريين على الاتحاد الأوروبي هي خليفة أيضاً.
كنا نسخر من المنطق الغربي الذي اعتبر أن مكافحة تنظيم "داعش" يمثل بالنسبة له أولوية قصوى لأن النظام السوري، على وحشيته، لا يمثل لدوله تهديداً مباشراً. الأوروبيون والأمريكيون كانوا على استعداد للتعاون مع الجميع، بما في ذلك التنظيمات التي عدوها هم أنفسهم في السابق تنظيمات إرهابية، من أجل القضاء على التنظيم. الآن يبدو أن البوصلة التركية تسير في الاتجاه ذاته الذي مفاده أن العيش بجوار نظام فاشي ممكن، ولكنه مستحيل بجوار كيان إرهابي لا يعترف بالحدود.
"التطابق" الجديد سيقود إلى التشكيك في أطروحات مدرسة "التفسير الإسلامي" للأحداث، فلا تصبح روسيا دولة صليبية معادية للإسلام أو شيوعية إلحادية، بل تصبح مجرد دولة تبحث عن مصلحتها التي تتلخص بسعيها لإيجاد موطئ قدم على أرض المشرق وبحاره الدافئة.
لا شك أن في هذا التشكيك تحديا كبيرا، لكن أكبر منه تحدي الشعبية الداخلية التي سوف يغامر بها "البراغماتيون" ، فكيف يمكن إقناع الملايين التي أبهجها إسقاط الطائرة الروسية التي تجاوزت الحدود والتي اعتبرت إسقاطها عملاً لإثبات الكرامة، كيف يمكن إقناعهم بضرورة الاعتذار للروس وفتح المجال الجوي أمامهم من أجل المصلحة الوطنية؟
شعبية حزب العدالة والتنمية ما تزال كبيرة، لكن استمرار الحزب كحزب أغلبية ليس أمراً محسوماً. السؤال الأهم هو المتعلق بمصدر هذه الشعبية، فهل يتعلق الأمر فقط بالمكاسب الاقتصادية والأرزاق المادية، أم أنها شعبية قامت على مناصرة حزب ذي توجه أخلاقي؟ الأتراك وحدهم يمكنهم الإجابة على هذه السؤال المفتاحي.