الرئيسة \  واحة اللقاء  \  عن الوشاية التي تهدم الإنسان – الوطن

عن الوشاية التي تهدم الإنسان – الوطن

05.03.2016
أسامة إبراهيم


القدس العربي
الخميس 3-3-2016
في بداية المرحلة الإعدادية في سوريا، يبدأ تجنيد الأطفال للوشاية ببعضهم بعضا، وتعليمهم أحدث أساليب التبعية والاستصغار وطرق الذل والمهانة، وأنك إذا كنت طموحا لترتقي فما عليك إلا أن تحافظ على علاقة وطيدة مع مديرك المباشر بالوشاية برفاقك، حفاظاً وصيانةً للمصلحة العامة وتبريراً لحملك لأرذل خلقٍ إنساني عرفته البشرية وهو "الوشاية".
ومروراً على تفاصيل الأمر يدخل موجه القسم ويقول للطلاب: "من منكم يود أن يكون حاملاً للأخبار لكل ما يحدث في الصف وناقلاً أميناً لأحاديث الأصدقاء"؟ هذا ما يسمى بالمخبر العلني الذي عرفه الجميع. أما في ما بعد فكنا نكتشف – نحنُ الأطفال بأنفسنا – أن هناك خبراً أو حادثاً نُقِلَ إلى الموجه أو مدير المدرسة البعثي حكماً، ولم نتمكن من أن نعرف من نقل الحدث بكل تفاصيله من أقراننا في الصف.
منذ أكثر من عشرين عام لم تفارق ذهني كلمات الموجه في أيام السنة الدراسية الأولى، وكأنها كلماتٌ حفرت في ذاكرتي ووجداني ورافقتني على الدوام، لتكون معياراً لي لأعرف أهل الأمانة من أهل الرذيلة والخونة.
وعلى ذلك كان من السهل أن أعرف حال أهل بلدٍ يعيش تحت حكمٍ استبدادي حاكمه أوحد، يسكن نفسه في كل مكاتب وأجهزة الدولة في بلده بل يتعداها ليسكن في بيت أي مواطن، وأبعد من ذلك يسكن داخل كل مواطن. فلن ينجو ها هنا من أن يعمل برذيلة السلطان إلا من رحم وهم كثرٌ طبعاً.
لكن المناخ حينذاك حمل السوريين على أن يصطنعوا عدة أمثالٍ منها "الحيطان لها آذان". ما أعاد الشرخ والموقف ذاك مع الموجه هو أنني عدت للتفاصيل بقصة مؤرخٍ بريطاني زار برلين نهاية الثمانينيات – وفي القصة منهجٌ تفصيلي عن كيف يفسد الديكتاتور وحكمه بلداً وشعباً بالادوات والتقنيات المعمول بها، وهذا اثر سقوط جدار برلين. سارعت حكومة برلين في المانيا الشرقية إلى تفكيك وحل "شتازي" (جهاز مباحث أمن الدولة القمعية المسؤول عن كتابة تقارير بأنفاس المواطنين الألمان حينذاك)، ودعت المواطنين كي يأتو ويستلموا نسخاً من ملفاتهم الأمنية التي قيَّدها مخبرو شتازي على مر عقود طويلة.
من هذه الشخصيات، التي استوقفتني مؤرخٌ وأكاديمي بريطاني معروف عالمياً قال حينها: "ما إن سمعت الخبر وأنا في لندن حتى سارعت في الحجز والسفر لهفةً مني لأقارن ما كتبته أقلام مخبري شتازي بما كتبته أنا عن نفسي خلال زيارتي لجامعة برلين ومكتبتها العامة لإجراء بحثٍ واستخدام بعض المصادر الحصرية فيها، حين زرتها لأقل من أسبوع والتقيت بأقل من ثمانية أشخاص خلال أيام زيارتي. وحين طلبت تقريري الخاص من شتازي لهذه الزيارة كان يربو على 350 صفحة. فتحت التقرير وبدأت أقارن بين ما خطّته يدي على أجندتي اليومية الخاصة وما خطته أقلام مخبري شتازي في هذه الزيارة القصيرة.
"وأبحرت وبدأت أتذكر حتى الأستاذ المرافق لي خدمني: وكتب ما لم يحصل وما لم أفعله أنا وإنما وشاية عميقة منه بي تقرباً منه وتعبيراً عن وفائه لرئيسه بأن يحملني جزءاً لا يستهان به من الشر الذي أريده بمصلحة الأمة، ومن أكثر منه وطنية ليضع لي حداً عبر تقريره. وذلك كان طموحا من جانبه للارتقاء لمنصب عميد الكلية. "سكرتيرة المكتبة الجامعية أيضا كتبت عني ما لم افعله وما فعلته حقا، لكن بطريقتها التي ترهب المسؤولين وتشير لي على أنني عدوٌ محتمل وإن أثبتُّ عكس ذلك، فرأيي وأنا غير مهمين.
صديقتي موظفة الجامعة التي رافقتني في جولة سياحية في برلين ايضا كتبت بأ سلوبها وبعينها الخاصة. أقارن بين مفكرتي وما كتبه مخبري شتازي. بلحظة أحسست نفسي – أنا الأربعيني الكهل – اتجسسُ على ذلك الشاب العشريني الذي كنته. يا لهذا الشعور المقرف بإنسانيتك وانت تتجسس على نفسك".