الرئيسة \  واحة اللقاء  \  غيبون يجترح حَلاً

غيبون يجترح حَلاً

08.03.2016
غازي أبوعقل


القدس العربي
الاثنين 7/3/2016
اعتاد السوريون في عصر ما بعد الحداثة، مغادرة وطنهم لأسباب شتى من دون عراقيل تُذكر… ومع إعلان وحدة مصر وسوريا أخذت العراقيل بالظهور والتزايد مع تغير أفراد السلطة وثبات جوهر الدولة المستبدة، إلى أن انقلب موقف "الحكومة" مع إطلالة عقد الثلاثينات من القرن الخامس عشر 1430 الهجري، الذي صار "تهجيرياً" حيث فتحت "الحكومة" بوابات تصريف المياه الضاغطة خلف "سد الثورة " وسرعان ما غمرت الموجات الأولى تخوم الدول المجاورة "باستثناء وحيد.. وذاق ملايين السوريين متعة التخييم صيفاً وشتاءً. كما استوعبتْ " المناطق الآمنة " أعداداً لا يستهان بها من الناس.
ولما انتشرت أنباء تيسير الحصول على جوازات السفر تدافعت "الرعية " إلى الخروج تأميناً لمستقبل أبنائها، فوصلت الموجة إلى قلب أوروبا.
كانت بدايات "الأزمة" قد شهدت عمليات مهدت لاتساع نطاق التهجير، وتحقيق نوايا الحكومة، عندما اختار من يحملون السلاح "الكلاشن بالأفضلية" أن يتحصنوا في الأماكن المأهولة، ولم يفطنوا إلى كون تكتيكاتهم تقدم الذريعة الأكثر أهمية لكي تطبق الحكومة استراتيجيها الموضوعة سلفاً، والتي أثبتت كفاءتها في زمن مضى. ذلك أن إخراج المسلحين من العمران يقتضي تقويضه بالأسلحة الثقيلة تدعمها الغارات والغازات، وهي أقل تكلفة من المخاطرة بأرواح الجنود الذين تنتظرهم مهام تحرير الأرض المحتلة، بعد تحرير الوطن من ساكنيه
لم يفهم حمَلةُ الكلاشن استراتيجية الحكومة برغم شرحها لهم عملياً بالذخيرة الحية، والمدهش أن من لم يحملوا السلاح كانوا أقل فهماً لها، لسبب بسيط، فهم انهمكوا في وضع ترتيبات الحصاد قبل أن يحرثوا التربة ومن دون أن يرشوا البذار
رفضّ كثيرون تحقيق رغبة الحكومة بتهجير الناس، وتحملوا مصاعب البقاء في بيوتهم، بلا دفء ولا كهرباء وأحياناً بلا ماء، دون نسيان إنهيار القيمة الشرائية للنقود وتفاقم الغلاء. ولما كانت الحكومة لا تحب من يسبح في غير تيارها، أبتكرتْ سلسلة من الإجراءات التي لا مثيل لها على هذا الكوكب. فزرعت الحواجز بكثافة، وضاعفت الاعتقال الكيفي وإخفاء المعتقلين نهائياً، ناسية أنها مسؤولة عن سلامة ضيوف سجونها المجهولي العديد، كما عديد سجونها.
لم تُفاجا الحكومة من بلوغ أعداد المهجرين أكثر من نصف عديد السكان قبل "الأزمة" لأنها كانت قد استعدت للأمر، فشرعت باستجلاب مواطنين شرفاء، من ما وراء النهر لملء الفراغ ولموازنة كثافة ساكني المخيمات على تخوم الوطن.. سابقاً.. وهكذا وجد المهجرون أنفسَهم في بيئات مألوفة لكنها غير أليفة، حيث كانوا يتوقعون أن يُعايشوا جزءاً من الشعب الواحد في بلدين بشكل خاص، لولا أن أفسد عليهم توقعاتهم جبران باسيل ومَن علَّمه الدبلوماسية.
في مملكة سيرا
بعد أن وجد المهَّجرون من سوريا أنفسَهم في بيئات غير أليفة، وجدتُ أنا ضالتي في مملكة سيرا التي يحكمها الملك غيبون الأول بيد من حديد،حكماً مستبداً وغير عادل حتماً، لتنافر فطري بين المفهومين "الاستبداد والعدل"
في هذه المملكة من الأمور " الخيالية " ما تمنيتُ لو كانت واقعاً اليوم، كما أن فيها من الأمور المماثلة لواقعنا الراهن، ما تمنيت لو أنها بقيت في دنيا الخيال الفني على المسرح.
تقع مملكة سيرا في واحدة من المسرحيات الرحبانية هي"ناطورة المفاتيح" التي عُرضت في دمشق في 1972.
الهجرة إلى مملكة من أعمال الواقع الإفتراضي قد تثير السخرية، لكن ما العمل والواقع الواقعي يضيق عليك ويضعك أمام الهجرة إلى.. ألمانيا، أو البقاء في "تقاطع نيران " البساطير واللحى..؟
أتاح لي تجسيد مملكة سيرا مسرحياً، ترف مضاهاتها بواقع سوريا اليوم، ففي فصلها الأول نكتشف مملكة همُّها الدوران حول محورها، الملك غيبون الأول، المستبد واهب الموت أكثر من الحياة، والمهووس بالسلطة، والقابع بين الحاشية والحرس. بينما يحاول أفراد "الرعية "التعايش مع الظلم والإضطهاد. كما نجد بين الرعية من يجرب إقناع الملك بتخفيف قبضته على حياتهم.
ويبعثون أيقونتهم زاد الخير لتغني له، وتذكره بأن الحب وسيلة إلى حياة سعيدة للجميع.
وتقول له: "يا ملكنا لولا بتنزل عَ ممالكنا.. مملكة السهر.. مملكة الهوى.. كنت بترضى وبتباركنا. وبتقول لحرسك يتركنا.. " لكن غيبون ينهمك في القمع والاعتقال والإغتيال.. حتى مستشار الملك جاد الحكيم فإنه يردد على مسمعيه : "يا مولانا ما فى حدا بيقدر يحبس المي والناس مثل المي إلا ما تلاقي منفذ تتفجر منو"..
لا يكتفي غيبون بتجاهل الرعية والمستشار، وحيث ظن الناس أنه استنفد أساليب الظلم، خرج عليهم فجأة بفرمان يجعله "شريكَ النص" في ما يملكه أي شخص من الرعية.
كان هذا الأمر أفظع من أن يقبله أحد، فتقرر الرعية كلها الرحيل عن المملكة، ويقول زعيمها بَربر: "ما زال بدو الأرض، بدو البيوت، رح ناخد الإنسان.. وساعتها يضلو ملك ع العتْم والحيطان"..
رمزية الرحيل الجماعي تشير إلى أن العصيان المدني بتجلياته كلها، من الإمتناع عن تسديد الضرائب، والتهرب من خدمة الاستبداد في قواته المسلحة بشكل خاص، ينبغي لها إحداث الأثر المطلوب في تعديل سلوك المستبد. فهل أوصل الرحيلُ رعيةَ مملكة سيرا إلى تحقيق مطالبهم.؟
يمهد الفصلُ الثاني درب زحف مملكة سيرا إلى الأفق المسدود، الذي يهدد بانهيارها عبر أحداث تبدأ بعودة الملكة من زيارة أبويها، صخر الأول ملك رود وأمها جلبهار.
أمر الملك غيبون بإقامة حفل استقبال "شعبي" ولما باشر قائد الحرس بدعوة "الرعية" لم يجد إلا زاد الخير ليسألها غاضباً أين الناس؟ ويوقن من ردها أنهم رحلوا كرفوف السُنونو وهي تغادر سطوح القرميد، فيهددها بسحبهم من بيوتهم : "حاج تهددهم.. صاروا أبعد من التهديد.. ضهروا برات الخوف، لا بينطالوا ولا بيرجعوا".
يُقال إن أول فضائل الربيع العربي: "طلوع الرعية برات الخوف". يُجرى للملكة استقبال "رسمي" يحضره الملك والحاشية والحرس،وهؤلاء تضعهم المسرحية خارج الشعب، وهذه إلماحة مهمة، لأنهم فعلاً كذلك.
أفسدَ غيابُ الرعية أول ما أفسد، العلاقة داخل الأسرة الحاكمة، لأن الملكة كانت تتمنى وجود الناس في الإستقبال: "لأنهم بيعطوا منظرا في المهرجانات.. مما شكّل عنصراً يفاقم تأزيم الموقف العام، لأن تعكير مزاج المستبد له تبعات. وسرعان ما يثور في وجه مستشاره وقائد الحرس، وتلوح في الأفق بوادر عاصفة قريبة.
هنا تحدس "الرعية" بما فُطرت عليه الشعوب عند اشتداد الخطر وتأزم الأحوال من البحث عن "منقذ" ولو في عالم الغيب.. فما كان منها وهي العزلاء المُسلحة بإيمانها إلا أن وَلت وجهها صوب " شمس المساكين "في صلاة رتلتْها زاد الخير بخشوع يهز أعماق النفوس "بيتي أنا بيتك وما إلي حدا"..
أكانت ناطورة المفاتيح تتوقع أو تتنبأ بما سوف يفعله السوريون بعد أربعة عقود، حين واجهوا القصف الهمجي وتخلي العالم "المتحضر" عنهم، بنداء "مالنا غيرك يا الله"؟
وهل سينجح "شمس المساكين وساكن العالي" في لَي ذراع ساكن "القصر العالي" (فرعون في لغة مصر القديمة!) ؟ القصر لا ساكنه.. لسببٍ ما تركتْ المسرحية الجواب للتأويل. برهن ساكن القصر عن لا مبالاته بمصير "الرعية" وصار كمن أخذته العزة بالإثم قائلاً: "أنا بموّت مملكة وما بموت؟.. هذه الجملة "الإفتراضية" صارت واقعاً في أيام سقراط الثاني (عنوان مسرحية منصور الرحباني: آخر أيام سقراط).
لكن إدراك مغزى هذا المشهد يفترض الإشارة إلى أن زاد الخير رفضت "الرحيل" مع سكان سيرا، لأسباب تشرحها لبربر، فأصبحت"الرعية " لكي يستمر وجود المملكة والملك..
في ناطورة المفاتيح من المشاهد والمواقف ذات المغزى ما يغري بالإسترسال، وهذا ما أحاول تفاديه والإكتفاء بالمشهد الختامي.
يرضى الملك ببقاء الرعية زاد الخير طالما بقيت السلطة في يده، فيناديها ذات يوم لمعرفة حال الرعية فتعطيه صورة كئيبة لمملكة هجرها سكانها، فيتذرع بأنه لم يُقل لهم أن يرحلوا، ويتلقى الرد الحاسم: "ظلمك قال لهم" وتتابع الرعية حملتها ليدرك أن بقاءها أبقاه ملكاً، وأنها لن تبقى من دون عودة الناس إلى بيوتهم: "رح أحمل فقري وتعاستي.. وصوب أرض جديدة اتمشى.. وكل ما ببعُد مسافة عرشك بيغرق شبر لتوصل أنت للأرض وأنا للحرية.."
هنا تجلى أثر المبضع الرحباني الذي عالج غيبون من داء الإستبداد وجعله ملكاً دستورياً ينزل على إرادة الشعب، فيهتف مُطالباً بعودة الناس إلى بيوتهم:
"بدي ياهن.. شو بينفعني ملكي بلاهن.. هلأ لشفت حالي قشة على بيدر مهجور معول في حقلة متروك.. ياصحاب البيوت الملك جايه لعندكن يدق بوابكن. شحدوني كلمة حلوة".
يوم عُرضت ناطورة المفاتيح في دمشق تناولتْها أقلام " نقاد مُعلبين " منتشرين في وسائل الإعلام، آخذين عليها ضعف ثوريتها وميلها إلى المهادنة والإستسلام.. ما فات هؤلاء أن المسرح الرحباني يمقت العنف، وهو ليس حلبة مصارعة عنيفة كما كان يرجو الثورجيون.. والأكثر أهمية أنهم لم يفرقوا بين غيبون الذي يمّوت مملكة ولا يموت، وبين غيبون الذين يتسول كلمة حلوة من الشعب..
لو أن المستبد في مملكة سيريا قال للناس "كلمة حلوة"؟ هذا الحل البسيط البعيد عن العنف أما كان أبقى على حياة الملايين من القتلى والمصابين والمهجرين.. أليس هذا الدليل الحاسم على أن نية التدمير هي المتحكمة: أنا أو لا أحد.. غاب الرحبانيان وأمثالهما، وامتلأ الإعلام والثقافة بالعنفيين الموالين للغيبونيين المتفاقمين، بين المحيط – الهندي – وخليج البنغال -.
ثار مواطنو مملكة سيرا، في المسرحية، وأعلنوا العصيان المدني يوم أعلن غيبون (فرمان حصة الملك) أما في الواقع، فإن سكان مملكة سيريا لم يتحركوا يوم إنتقلتْ ملكيتُهم جميعاً- بالتوريث – إلى خليفة " فاتك المتسلط. ولو قلدَ السوريون السيريين وأعلنوا العصيان المدني مثلاً، لكانوا عجلّوا في إندلاع المجزرة عشر سنوات، ولكانوا اليوم في مرحلة جديدة، لكن ناطورة المفاتيح غُيبت وشهدتْ دمشق "صح النوم" بحضور الوريث والحاشية والحرس
كلما أختليتُ بناطورة المفاتيح، في السنوات القليلة المنصرمة، كنتَ أفكر في وجوه التماثل بين مملكتي سيرا وسيريا، وهي موجودة فعلاً، لكنني أكتفي بوجه بارز من ملامح التناقض بين الواقع والمسرحية، تجلى في موقف غيبون "سيرا" الذي نجح علاجه من داء العنف، فتحول إلى ملك دستوري.. أما ملك سيريا، فهو يتشبث بالكرسي كما غيبون الفصل الأول من المسرحية.
هل يستشرف الفنُ المستقبل؟ ربما
يبدو أنني وجدت أخيراً من شاهد المسرحية، وذلك أن الصحافي عبدالوهاب بدرخان وضع عنواناً لمقاله الأسبوعي في "الحياة 28 كانون الثاني / يناير".
أميركا تختار رحيل الشعب السوري بدل رحيل الأسد
فهل شاهدت الولايات المتحدة ناطورة المفاتيح واستخلصت منها الدرس الذي أقامت عليه سياستها حيال مملكة سيريا..؟
كاتب سوري