الرئيسة \  واحة اللقاء  \  قصة من الثورة السورية… "التشويل" و"الطشت الأحمر"!

قصة من الثورة السورية… "التشويل" و"الطشت الأحمر"!

26.10.2014
وائل عصام



القدس العربي
السبت 25-10-2014
مدى نجاح اي حراك اجتماعي يرتبط كثيرا بمدى تفوق منظومة القيم الاخلاقية التي يمتلكها، فاذا كانت الثورة السورية اظهرت صورا نادرة من التضحية والشجاعة والسمو، فانها ايضا كسائر ثورات "الربيع العربي" كشفت امراضا خطيرة في العقل الجمعي العربي واظهرت تصدعا بمنظومة القيم.
قدمت القرى والمدن التي احتضنت الثورة السورية تضحيات كبيرة، مقابل القليل جدا من المكاسب السياسية، ولعلها تدفع بذلك ثمن قبولها بنظام الاسد اربعين عاما وصحوتها المتأخرة، لكن يبدو ان الاسد استغل واستثمر تصدعات كبيرة في الوعي الجمعي لهذه المجتمعات ل"سنة" سوريا ريفا ومدينة، والاهم ان نظام الاسد نجح في اضعاف قيم وروابط هذه المجتمعات، التي تتحمل هي ايضا مسؤولية كبيرة بعيدا عن دور الاسد، لينجح النظام الاقلوي بمواصلة سيطرته، امنيا وسياسيا، على مراكز السيادة الاساسية في سوريا عاصمة ومراكز محافظات، عدا الرقة، رغم ثلاث سنوات من تمرد تقوده اغلبية سكانية.
صحيح ان النظام مدعوم بقوى خارجية، لكن الاغلبية السكانية تبدو ايضا عددية فقط وبلا تأثير حقيقي، ولعل ضعفا بنيويا مجتمعيا تعيشه حاضنة الثورة ادى لهذا العجز عن مواجهة نظام اقلوي بعد ثلاث سنوات من الثورة وعلى مدى نصف قرن قبلها.
قبل عامين خرج للسطح مصطلح "التشويل" ويعني السرقة، وبات حديث الساعة في كل المجالس، وانتشرت ظاهرة الفصائل التي تسرق المصانع وتستولي على البيوت ومطاحن الدقيق باسم الثورة، ورغم محدودية هذه المجموعات، مقارنة بالفصائل الكبرى التي حاربتها وحدت من تجاوزاتها، الا ان التكسب غير المشروع و"التجارة بالثورة" كانت تهمة توجه من قبل الناس للكثير من قادة الجيش الحر وبعض الفصائل الاسلامية ايضا. لكن التشويل كان داء منتشرا ربما في يوميات الحياة، كل حسب قدرته! ففي تلك الفترة أقمت في منطقة الشيخ نجار شرق حلب في مبنى يضم مجموعة من الناشطين السوريين الاعلاميين، ومنهم المرتبطون بأكثر الفصائل الاسلامية احتراما في حلب. وجاء ليسكن في المبنى شاب صغير من احدى مدن الريف الحلبي، لم يتعد عمره الخامسة عشرة، كان مشاكسا وظريفا ومتمردا، كالكثير من ابناء الريف المعروفين بطيبتهم وعنادهم ايضا! وبدأت تصرفاته العجيبة يوما عندما كنا نياما، واذا بنا نسمع اصواتا تشبه زخات الرصاص داخل المبنى، فاسيقظنا لنكتشف ان الفتى المشاكس ينزل الدرج ب" القبقاب" وبسرعة ليصدر صوتا يوازي طلقات الرشاش. يومها غضبنا منه وكان معي الصحافي السوري الصديق احمد كنجو، وقلنا له بأدب، هل تعرف ان الساعة بعد منتصف الليل واننا نيام؟
بعدها بيومين، وكنا قد احتفلنا يومها بشراء "طشت" للاستحمام، بعد ان ظلت الطرق مقفلة لايام بسبب الاشتباكات، واخترناه احمر اللون لتمييزه عن طشت الشاب المشاكس الموجود في الطابق الارضي. وبدأت القصة عندما ذهبت للاستحمام ولم اجد الطشت الاحمر الخاص بفريقنا، وعندها سألت الشباب، وبينما كنا نتساءل اين ذهب " الطشت الاحمر" رد الشاب المشاكس مجيبا بكل برود بانه استخدمه لانه اعجبه! فضحكنا وقلنا له حسنا، هلا ارجعته؟ فاجاب بكل برود بانه يمكننا الذهاب لاسترجاعه بانفسنا! فضحكنا خاصة انه بعمر صغير ولا يبدو ملما ببعض قواعد التعامل.
مر هذا اليوم، واعدنا الطشت الاحمر، ولكن في اليوم التالي تكرر الموقف ذاته، واتذكر جيدا كيف حاول العزيز مؤيد سلوم مراسل الاورينت الذي خطفه "داعش" بعدها باسابيع حل الاشكال بان نزل بنفسه وجلب الطشت تجنبا لوقوع اشكال، وهنا قلت للاصدقاء ان القضية تربوية تتعلق بالاصول وقيم التعامل مع الاخرين، وان علينا ان ننبه الشاب بدلا من ان نغطي عليه، فتحدثنا مع الفتى الشقي واذا به يرد بجفاء قائلا "ما بدي ارجعه، لا تعملوها قصة ياخي بكرا بشتريلكم واحد تاني".. فقلت له ان الموضوع يتعلق بأدب التعامل مع الغير، ولذلك كان عليه اعادته بعدما انهى حاجته منه، وان التفكير بمصلحتك بعيدا عن الاخرين تعني الانانية التي ستنعكس على جوانب اخرى في الحياة عندما تكبر.. "فكر بغيرك" هكذا انهيت حديثي معه.. بدا الشاب وكأنه احس بذنبه، وبدأ يفهم من خلال جلوسه معنا ان طرق التعامل تؤثر في قيم المجتمع الثائر وترابطه، وهذا قد يسهم في افشال او انجاح الثورة.
كنا سعداء باننا نجحنا في التأثير عليه واقناعه، لتغيير جانب من سلوكه، ولكن المفارقة انه جاء بعد ايام لاهثا يتساءل اين الطشت الاحمر؟ وقال انه بحث عنه في كل مكان ولم يجده، ثم ذهب وعاد بعد ساعتين غاضبا ليقول ان من في البناية المجاورة اخذوا الطشت الاحمر من غير استئذان، وانهم اعطوه ايضا لاحد اصدقائهم الذين غادروا لوسط حلب!
بدا الشاب انه قد فهم الدرس تماما، ولكن وبعد ايام اختفى شيء اخر من المبنى! ماكينة خاصة لتنظيف البلاط ومعها ادوات كهربائية.. بحثنا عن الفاعل فلم نجده، سألنا العامل الذي كان مختصا بالنظافة فقال انه لا يعرف.. بعد اسبوع جاء رجل كان يجهز لتأسيس مشفى ميداني في الطابق الارضي للمبنى نفسه الذي كنا فيه، وقال لنا ان "كيبل" نحاسي اختفى من المعدات ويبدو انه قد سرق، بحثنا عنه لم نجده، بحثنا عن عامل النظافة المنتمي ايضا للريف الحلبي فلم نجده، ليخبرنا احد الاصدقاء انه شاهد العامل وهو يغادر بسيارة بيكب محملا ماكينة تنظيف البلاط والكيبل النحاسي خارج منطقة الشيخ النجار وانه لم يخطر بباله انه سرقها!
من مبنى واحد وفي شهر واحد، اختفى "طشت احم" لا قيمة له الا المعنى الكامن وراء الاستحواذ عليه من دون علم صاحبه، وبعد الطشت الاحمر، سرقت ماكينة تنظيف البلاط وكيبل نحاسي! هذا فقط في مبنى واحد وبشهر واحد!
وبعدها بشهرين نشبت معارك بين كتائب الثوار وكتيبة اشتهرت بالتشويل والسرقة في الشيخ نجار بحلب، وجاء للمبنى الذي نقيم فيه عشرون مقاتلا وتمترسوا فيه محولين المبنى الى خط جبهة، وعشنا اياما لا تنسى، خاصة ان جدران المبنى كلها من الزجاج فاضطررنا للاختباء في المخازن الداخلية وغرف التبريد خلال زخات الرصاص، وبعد ان انتهت الاشتباكات خرجنا لنهنئ الشباب ونشكرهم، فوجدناهم قد حملوا معهم "كرتونة" كاملة من الملابس التي كنا نجهز لتوزيعها على مخيمات اللاجئين! وطبعا قالوا بانهم اولى من غيرهم بها.
اصبحنا نتندر بهذه القصة، ويومها خرجنا مع الاصدقاء الصحافيين السوريين في المبنى الذي نقيم فيه لنتناول العشاء وبعدما انتهينا وغادرنا، تذكرت اني تركت موبايلي على الطاولة، وتضايقت كثيرا لان به الكثير من الارقام، فقال لي الشباب سنعود وسنجده ان شاء الله لا تخف، فقلت لهم لا تتعبوا انفسكم .."الموبايل تشول"، وهذا ما حصل!
ومن يومها وانا اتساءل كيف لثورة ان تنتصر وبها هذا القدر من الخلل في قيم مفترض انها جاءت للدفاع عنها، صحيح ان مجتمعات وفصائل الثورة تبقى انقى اخلاقيا من مجتمعات شبيحة النظام بألف مرة، لكن الثائرين بحاجة لتفوق اخلاقي كبير، يساعدهم على ابقاء مجتمعاتهم متماسكة وقوية، ولديها مناعة من امراض مجتمعات الاستبداد والفساد، لتكون نموذجا للتغيير.
اسس بعدها ناشطون سوريون حملة توعوية لاقت رواجا كبيرا، تتصدرها عبارة لعمر بن الخطاب "نحن قوم ننتصر بقلة ذنوبنا وكثرة ذنوب الأعداء، فلو تساوت ذنوبنا غلبونا بكثرة العدة والعتاد".
كنا نردد قصص التشويل هذه دائما مع الزملاء متندرين بها ومتأسفين لواقع بعض فصائل الثورة.. واصبحت اقول عند كل قصة "تشويل" جديدة نسمعها "لن تنتصر الثورة السورية حتى يعود الطشت الاحمر"!
٭ كاتب فلسطيني