الرئيسة \  واحة اللقاء  \  فك الارتباط على جبهة الربيع السوري

فك الارتباط على جبهة الربيع السوري

15.03.2016
باسل أبو حمدة


القدس العربي
الاثنين 14-3-2016
تقتضي الضرورة الحفاظ على الفارق بين السياسي والعام، بين تعاريج السياسة بوصفها وسيلة وبين السياسة بوصفها غاية قائمة بحد ذاتها.
الأمر الذي أخفقت فيه الثورة السورية طوال سنوات عمرها الخمس الماضية عندما سمحت لنفسها بالدخول في لعبة المحاور الإقليمية والدولية، وأعطت هذا الجانب من العمل السياسي أهمية مبالغا فيها، طغت على ركائز وطنية وتقدمية حساسة لا تستقيم بدونها عملية التغيير السياسي المنشودة في سوريا، أو في غيرها من تجارب "الربيع العربي"، بينما فتح غيابها أو تراجعها إلى الصفوف الخلفية من سلم الأوليات الثورية الأبواب والنوافذ على مصاريعها أمام أولويات غير وطنية عابرة للحدود، سرعان ما راحت تأخذ مكانها بقوة وتدمغ المشهد كله بألوانها، التي تسللت بالفعل إلى المشهد السياسي السوري وطغت عليه، ما يستدعي، في واقع الأمر، حالة من الاستنفار الشامل ودق ناقوس خطر التغافل عن التعاطي مع ضرورة فك ارتباط هذه الثورة المباركة بأي أجندات مقبلة من خارج الحدود الوطني،ة تفوح منها روائح التقسيم الكريهة التي لطالما زكمت الأنوف.
لا يختلف اثنان على أن القضية السورية متداخلة في التاريخ وفي الواقع وفي المآلات مع ملفات إقليمية وعالمية عديدة وحساسة، تبدأ من موقع سوريا الجغرافي المتاخم للكيان الصهيوني، والدور التاريخي الذي يلعبه النظام السوري في تأمين هذه التخوم، ولا تنتهي عند استعداد هذا النظام للمساومة على مقدرات وحقوق الشعب السوري في سوق السياسات الدولية، حتى لو طالت وحدة الأرض السورية وشعبها، فلقد شهدنا نماذج لا حصر لها من سلوكيات النظام في ميدان المتاجرة بكل شيء وبأي شيء مقابل بقائه في السلطة، الأمر الذي لا يراه المسيطرون على المناخ السياسي الإقليمي والدولي معضلة، حتى لو ارتكب هذا النظام جرائم من العيار الثقيل بحق الشعب السوري، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمحاولة انفاذ استراتيجياتهم طويلة الأمد، التي لا ترى واقع ومصائر الشعوب سوى خطوط ونقاط ضحلة على خرائطهم الصفراء، التي يجري الحديث كثيرا عنها في يومنا هذا، وعن إعادة رسمها من جديد، والتي لا تعني تلك الشعوب بشئ سوى زيادة جرعة معاناتها وآلامها وما تدفعه من أثمان باهظة تجني الطغم المحلية الحاكمة ومراكز الاحتكار العالمية أرباحها.
لكن ألا يشي واقع وتاريخ الخريطة الجيوسياسية، على المستويين الدولي والشرق أوسطي باستحالة فك ارتباط من هذا النوع؟ نعم، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا أن قراءة المشهد الجيوسياسي الآخذ بالتشكل بعد ثورة السوريين على نحو سليم توفر مصدرا إضافيا لقوة ومنطق استحقاق التغيير السياسي في سوريا، قراءة لا بد أن يخلص المنكبون عليها ممن لهم مصلحة في انفاذ هذا التغيير إلى نتيجة تبدت واضحة عبر حناجر السوريين التي علا صوتها إثر إعلان الهدنة الأخيرة، على هشاشتها، وراحت تنادي وتعيد للأذهان شعار "الشعب يريد اسقاط النظام"، الذي يعد أصل الحكاية ومآلها، ما يعني على مستوى النخب السياسية المعارضة ضرورة التوقف عن الخلط الفج بين الأحداث الاقليمية والدولية وبين قضية الصراع على السلطة في سوريا، أو توضيح هذه الاشكالية المميتة، التي صبغت المشهد السياسي السوري برمته إثر إدخال النظام لحلفائه على خط الصراع السياسي السوري- السوري، وطغيان قضية محاربة الارهاب على ما عداها من قضايا عادلة في المنطقة وعلى رأسها قضية فلسطين وقضية الديمقراطية والحرية.
لم يتسن لأحد بعد نسيان ما ترتب على التورط في سياسة المحاور خلال حرب الثلاثين عاما في الامبراطورية الرومانية، وحرب الثمانين عاما بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتحدة، التي تمخضت عن معاهدة ويستفاليا، التي أعادت رسم الخريطة الجغرافية للقارة الأوروبية، بينما لا يزال العالم يعيش تداعيات اتفاقية سايكس  بيكو، التي قسمت الشرق الأوسط على النحو الذي نراه، في مشهد لا يستبعد تكراره في اللحظة الراهنة، التي تشهد عملية ترويض مدروسة من خلال الحرب والحصار، تمهيدا لفرض ما يناسب الطغم الحاكمة المحلية ومراكز الاحتكار العالمية من حلول فوقية، يمكن قراءة أحد سيناريوهاتها الجهنمية من خلال ما تمخضت عنه عقلية عراب السياسة الأمريكية الخارجية هنري كيسنجر، من أفكار طرحها على طاولة صديقه الحميم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارة قام بها لموسكو في الثالث من شهر فبراير الماضي، وتتلخص في دفاعه عن معاهدة سلام جديدة أو "وستفاليا جديدة" تتجسد في نظام جديد في الشرق الأوسط، دور البطولة فيه تتشاطره الولايات المتحدة وروسيا والصين، بمعنى آخر، نظام جديد يحول دون مواجهة عالمية جديدة في عالم متعدد الأقطاب، بدءا من الشرق الأوسط يكون فيه، إلى جانب الولايات المتحدة، موطئ قدم لكل من روسيا والصين، أو نظام عالمي جديد يرضي هذه الأطراف الثلاثة من دون أن يكون لأي منها موقع السيطرة فيه. وإذا كان هذا النظام الجديد، الذي جاء على لسان سياسي مخضرم تدينه الكثير من شعوب الأرض، لا يلحظ دولا متقدمة مثل دول أوروبا، ولا دولا ناشئة مثل الهند والبرازيل، فإنه لن يلحظ، بطبيعة الحال، دولا اقليمية في الشرق الأوسط يعتقد البعض على الساحة السورية، على سبيل المثال، أنها تشكل رؤوسا لمحاور شرق أوسطية مثل، تركيا وإيران والسعودية، ما يدفع هذا البعض إلى الظن بأن الضرورة تقتضي الانضمام إلى أحد تلك المحاور بوصفها روافع لمشاريع سياسية في المنطقة، ما يشكل تذكرة دخول مجانية إلى عالم قوامه الوهم وخداع الذات، ويضع تضحيات الشعب السوري الهائلة في مهب الريح، وفي خدمة أطراف إقليمية تحلق أصلا في فضاء محاور دولية أوسع، تمتلك ما يلزمها من أدوات لفرض أجنداتها على سائر اللاعبين الثانويين الواهمين المحليين، في مشهد يذكر بمثل شعبي كوبي يقول: "إذا أردت أن تبتل مرتين، فقف تحت الشجر أثناء هطول المطر".
النتيجة التي يمكن أن نخلص إليها في هذا المقام لا تقل غرابة عما تقدم، فبينما تتشكل المحاور الاقليمية والعالمية من أنظمة الحكم ومراكز الاحتكار حول العالم، فإنها تغيب تماما عن الوجه الآخر من المشهد، الذي يغص بالشعوب المضطهدة وقضاياها العادلة، لا بل أن مجرد الحديث عن تضامن هذه الشعوب وقوى التغيير فيها مع نفسها ومع بعضها أصبح ضربا من الخيال والمثالية، إن لم نقل نوعا من المراهقة السياسية، بينما تقتضي القراءة الموضوعية والحاجة التاريخية رؤية معطيات الواقع كما هي، وليس كما يراد لها أن تكون، حيث تشي هذه المعطيات بأزمة بنيوية يعيشها النظام الاقليمي العربي والشرق أوسطي منذ تشكله على هذه الصورة القطرية، بإرادة خارجية لم تراع تطلعات شعوب المنطقة، ولن تأخذها في الاعتبار ساعة إعادة رسم خرائط المنطقة من جديد، وبالتالي، فإن الاستمرار بالتعلق بحبال المحاور الدولية على حساب محاور التضامن بين الشعوب وقواها الحية لن يؤدي إلا إلى مزيد من التبعية والتشرذم، وإلى مزيد من إحكام قبضة الأنظمة الشمولية المحظية والقوى الخارجية على مقدرات الشعوب ومستقبلها.
٭ كاتب فلسطيني