الرئيسة \  واحة اللقاء  \  لقاء موسكو… هرولة نحو الهاوية

لقاء موسكو… هرولة نحو الهاوية

07.02.2015
باسل أبو حمدة



القدس العربي
الخميس 5-2-2015
من الناحية البنيوية، تعاني جميع المقاربات السياسية للقضية السورية من عسر في قراءة التشكيلات السياسية السورية غير النهائية التي ظهرت حتى الآن، ولم يتمكن أي منها، لا منفردا ولا مجتمعا من الارتقاء إلى مستوى التمثيل الحقيقي للقضية.
بسبب الافراط في الادعاء والمغالاة في الاقصاء والتفرد في بيئة اقليمية ودولية شجعت بدورها على ترسيخ حالة الاستعصاء التي آل إليها الصراع على السلطة، في بلد ظل الحراك السياسي والمدني فيه متواريا تحت رماد الدولة البوليسية طوال عقود، وما أن هبت رياح الربيع العربي وتناثرت معها أكوام الرماد فيه حتى تمظهرت تحتها مكونات جمر متقد راح لهيبه يحرق كل محاولات تشذيبه وتقنينه ووضعه على سكة الحل، والخروج من عنق زجاجة تلونتٍ بألوان سائر أطراف الصراع ومصالحها، بينما غابت أو غيبت مصلحة صاحب الشأن الأول متمثلا بالشعب السوري نفسه.
في هذا السياق الزائف والمدمر، وليس بعيدا عن أجواء اجتماعات فصائل سورية معارضة توصلت في القاهرة، أخيرا، إلى توافق حول "نقاط عشر" للتسوية، جاء لقاء موسكو بنقاطه العشر المماثلة أيضا، ليظهر في نتائجه وتصريحات القائمين عليه والمشاركين فيه بوضوح أنه يندرج، في أحسن الأحوال، ضمن إطار تلك الجهود المستميتة الرامية إلى إطالة عمر نظام الأسد، وذاك النوع من التمرين السياسي، الذي لا تتعدى صلاحيته حدود مقاعد الدراسة، لطلبة لا يزالون يتلمسون منهاج إحدى كليات العلوم السياسية في مكان ما من العالم، ذلك أنه يعج بالمغالطات التي تبدأ من تطبيق مفردة التشاور والحوار، على حالة هي أبعد ما تكون عن إمكانية عكس الحقيقة الماثلة على الأرض، التي تشي بأننا أمام صراع وجودي من الدرجة الأولى، لا صوت يعلو فيه على صوت القتل والدمار والمعاناة والتهجير، ما يسقط صوابية استخدام مصطلح الحوار ويطرح ضرورة تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية. والقول إن الحالة السورية بحاجة إلى مفاوضات تجمع بين اطراف متناحرة وليس حوارات تضم أطرافا تجمعها قضية واحدة، ولا تفرق بينها سوى بعض الاختلافات في هذه النقطة التفصيلية أو تلك، ما من شأنه أن يحدث خلطا عجيبا في أوراق اللعبة برمتها ليحتـــل الجلاد مكان ضحية يفترض هذا المنهج أنها تتحمل تبعات الحالة ومسؤوليتها أو يتساوى معها في مطلق الأحوال.
بشاعة محاولة خلط الأوراق هذه تشمل راعي الحوار نفسه، الذي تدرج، من موقعه كشريك في الجريمة، من مد النظام السوري بكل ما يلزم من عتاد وسلاح لسحق التمرد السوري، إلى توفير الغطاء السياسي له إقليميا ودوليا، إلى أن اصبح يشار إليه بالبنان، بوصفه الناطق الرسمي باسم النظام والمعبر الحقيقي عن مصالحه، ما يسقط عنه صفة الحياد اللازمة في مقام كهذا، وما يذكرنا بقوة بأمريكا بوصفها الطرف الراعي لمفاوضات السلام العبثية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي لم تفض إلا لمزيد من تقديم التنازلات والحاق مزيد من النكبات بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، مثلما يذكرنا بعدم تمتع الطرف الفلسطيني المفاوض بما يكفي من أهلية وكفاية لتمثيل أصحاب القضية أنفسهم، ومدى قناعتهم بأنفسهم أولا وقبل كل شي، في ظل غياب مكونات وتشكيلات سياسية فاعلة عن لقاء موسكو.
أما من الناحية العملية، فإن جميع النقاط التي ناقشها هذا اللقاء الجليدي المتدحرج مستقبلا، تنسف نفسها بنفسها، ومعها مقررات جنيف الستة، التي تحظى باجماع وطني وأممي من حيث المبدأ، من خلال التعامل مع النظام بوصفه جزءا من الحل وليس أصل المشكلة ومقدمتها، والتركيز على تبعات الكارثة السورية ونتائجها بدون مقدماتها الحقيقية، وعلى الجوانب الانسانية واللوجستية فيها وارجاء الجوانب الأمنية والسياسية، التي تشكل العمود الفقري للحالة السورية برمتها، وعلى رأسها ضرورة رحيل النظام، الذي يشكل العقبة الكأداء الأولى أمام أي تسوية سياسية ممكنة، ما يصب في خانة مساعي النظام نفسه باتجاه تجميد متدرج لجبهات القتال السورية المشتعلة والحراك السياسي المناهض له لالتقاط انفاسه ومواصلة الانقضاض على ما تبقى من مفاعيل الثورة السورية بمستوييها الأمني والسياسي.
ألا يخجل المشاركون في لقاء موسكو من أنفسهم عندما يضعون ما يسمى محاربة الإرهاب على رأس سلم أولويات التسوية، ويغفلون عامدين متعمدين إرهاب النظام الأوسع انتشارا والأكثر فتكا، ليس بالشعب السوري فحسب، وانما بشعوب الجوار السوري أيضا؟ نشك بأنهم لا يدركون أن هذا البند بالذات ما هو إلا محاولة رديئة الاخراج، الهدف الوحيد منها، في المرحلة الراهنة، ابعاد الأسباب الحقيقية للثورة المتمثلة بالتغيير السياسي عن واجهة الأحداث، وإزاحتها عن صدارة أولويات الشعب السوري في هذه اللحظة الحرجة من تاريخه السياسي، ثم ألا يوحي الحديث عن حصر السلاح بيد الجيش بأننا أمام جيش وطني يتبنى عقيدة عسكرية مستقلة عن أيديولوجيات وبرامج ومصالح وتوجهات الأطراف السياسية المتنازعة، ويبرؤه من جريمته وينزع عنه صفته الجوهرية التي لازمته على مدار الوقت، والتي تشي بأنه جيش النظام وليس الوطن، الحريص على تنفيذ أجندته بحذافيرها والمتعارضة جزئيا وكليا مع أجندة سوريا كدولة ووطن وشعب؟ وكذلك الحديث عن اخراج الميليشيات المسلحة من الأراضي السورية، على أن يستثنى منها ما ترتضي به دولة النظام، التي برعت قبل غيرها في استقدام المرتزقة من جهات الدنيا الاربع، لمؤازرتها في حربها ضد الشعب السوري والفتك بأبنائه، فضلا عن الدعوة إلى تحرير الأراضي السورية المحتلة في هضبة الجولان، تلك الإسطوانة المشروخة التي لم تعد تنطلي على أحد.
ألا يضرب الحديث عن حل سوري – سوري بعرض الحائط حد الوقاحة السياسية إحدى أهم سمات الصراع المتمثلة في بعديه الاقليمي والدولي، اللذين لا يخفيان على أحد، بعد أن أصبحا بجدارة عنوان هذا الصراع ومحركاه الأساسيين؟ فمن المعروف أن مصالح الخارج السوري قد شكلت ومنذ مستهل الثورة البوصلة التي راحت توجه كتل اللهب إلى صدور السوريين وتحرمهم من حقهم في صوغ مستقبل بلادهم ومن أبسط مقومات الحياة.
لكن الأهم من كل تلك التفاصيل العجينية يكمن في أنها تشكل بمجملها سقف بعض القوى السياسية المحسوبة على المعارضة السورية، التي تبدو بوضوح أنها تعكس بلا مواربة توجهات النظام للحل، التي يبدو أنها كانت ماثلة في أذهانهم عندما سمحوا لأنفسهم بتبني هذا السقف الواطئ، الذي من شأنه أن يطلق رصاصة الرحمة على تطلعات من يفترض أنهم يمثلونهم في هذا الحوار، أي أبناء الشعب السوري الطامحين إلى التغيير السياسي باتجاه الانعتاق من قبضة الطغيان والاستبداد.
إن ادراج مساعي هذه التسوية وأي تسوية أخرى محتملة تحت عنوان التشاور والحوار، وليس التفاوض، يعني تبسيط مجريات الأحداث ونسفا للعقل السياسي وحتى الضمير الأخلاقي، لأن الحوار يجري عادة بين أطراف تتباين وجهات نظرها حول مسألة ما، بينما واقع الحال يشي بوضوح أن مفردة التناحر تتسيد منطق الصراع بين الأطراف الميدانية الفاعلة على الأرض السورية، التي تحتكم في استراتيجياتها وتكتيكاتها إلى ميزان قوى يشي بحالة من الوهن يعيشها النظام وتحرج حلفاءه الاقليميين والدوليين، الأمر الذي يقف وراء حمى هذا النوع من اللقاءات ويميط اللثام عن أسباب تبنيها ورعايتها من قبل عواصم معروفة بعدائها الشديد لمخرجات الربيع العربي، التي ما كان لها أن تدخل على خط الأدوات اللينة للحل لولا إدراكها للمأزق الذي حشرت نفسها فيه عندما وقفت بكل قوتها إلى جانب الطغاة، مستعدية بذلك شعوبا بأكملها لن تغفر لها فعلتها على مر الأيام.
٭ كاتب فلسطيني