الرئيسة \  واحة اللقاء  \  ما بعد عفرين أهي حرب بين نيران صديقة؟

ما بعد عفرين أهي حرب بين نيران صديقة؟

31.01.2018
د. مثنى عبدالله


القدس العربي
الثلاثاء 30/1/2018
في السادس والعشرين من الشهر الجاري، أعلن الرئيس التركي أردوغان عزمه توسيع تدخل بلاده العسكري في سوريا ضد المقاتلين الأكراد. قال إن العملية العسكرية في الأراضي السورية ستشمل بعد عفرين منبج ثم شرقا حتى الحدود العراقية. وإذا ما أخذنا بالاعتبار وجود المئات من الجيش الامريكي في منبج، رفقة حلفائهم "وحدات حماية الشعب الكردية"، فهذا يعني أن الحلفاء سيكونون وجها لوجه في ساحة المعركة، وأن أي خطأ غير مقصود أو مفتعل سيؤدي إلى مواجهة عسكرية بينهما.
هنالك أزمة فعلية بين البلدين العضوين في حلف الناتو، وهي ليست وليدة التدخل العسكري التركي الأخير، الذي جاء تتويجا لسلسلة طويلة من الاختلافات الجذرية على أكثر من صعيد بين الطرفين. ومع ذلك فإن المواجهة مستبعدة بينهما، لأن المصالح المشتركة وحاجة كل طرف إلى الآخر أكبر من أن تحصل مواجهة مقصودة ومخطط لها. كما أن الأهمية السياسية والاستراتيجية لتركيا في العقل السياسي الامريكي، هي العامل الفاعل في تحديد أي موقف من سياسات الرئيس أردوغان. يضاف إليه أن واشنطن لا تملك أوراق ضغط على أنقرة من أجل كبح جماح عملياتها العسكرية الحالية على الأرض السورية، على الرغم من أن الغضب التركي من الولايات المتحدة وصل إلى حدود غير مسبوقة، فأنقرة ترى أن تحركات واشنطن على الساحة السورية هي ضد التوجهات التركية. فمنذ عام 2014 تخلت أمريكا عن تدريب الجيش السوري الحر حليف تركيا، واختارت دعم الأكراد في كوباني، واستخدامهم كورقة في السيطرة على 30 في المئة من الجغرافية السورية.
ولقد اتبع الرئيس السابق أوباما سياسة استخدام قوى محلية على الارض، وكانت قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردية، هي القوى الاكثر فاعلية على الأرض. حينها كظمت أنقرة غيضها ونظرت إلى هذا الأمر بامتعاض شديد، ولم تخف موقفها في أن ما تقوم به واشنطن هو تهديد للأمن القومي التركي. ثم جاء الرئيس ترامب وبقيت السياسة الامريكية حيال تركيا والاكراد في المسار نفسه، بل إنها تطورت لصالح الاكراد بالضد من مصالح تركيا، خاصة بعد إعلان أمريكا عن نيتها تدريب قوة حدودية قوامها 30 ألف مقاتل أغلبهم من الاكراد الذين تصفهم تركيا بالإرهابيين. وقد برر أشتون كارتر وزير الدفاع الامريكي دعمهم للاكراد في سوريا، لتحقيق هزيمة مستدامة ضد تنظيم "الدولة"، من خلال تخويل الناس الذين يعيشون في تلك الاراضي بحكم أنفسهم. كما صرح ريكس تيلرسون وزير الخارجية بأن أمريكا تستمع إلى مخاوف تركيا وتأخذها على محمل الجد. بينما يُعرب ترامب عن قلقه من التصعيد في عفرين، ويؤكد أن بلاده لم تزود الاكراد بالاسلحة. وعندما طلب أردوغان على لسان المتحدث باسمه سحب جميع الأسلحة من أيدي القوات الكردية، رفضت واشنطن ذلك مُعزية الأمر إلى أن قوات سوريا الديمقراطية تضم مقاتلين عربا وليسوا أكرادا فقط، وأن القتال ضد تنظيم "الدولة" لا يزال نشيطا في سوريا، ما يتطلب استمرار الشراكة مع الاكراد. كل هذه مواقف أمريكية متضاربة كما تراها أنقرة، وهو ما يزيدها إصرارا على المضي قُدما في عمليتها العسكرية. لكن ما الذي تريده أنقرة من استهداف عفرين؟
لقد تحركت أنقره نحو مدينة عفرين لانها هدف سهل، فالمدينة محاصرة من قبل القوات التركية شمالا، وشرقا من حليفها الجيش السوري الحر. وأن السيطرة عليها تعني قطع الطريق على الأكراد من التوسع شمال غرب سوريا لربط منطقة درع الفرات بأدلب. كما أن العملية ستتيح لأنقرة التوسع شرقا نحو مدينة منبج العمود الفقري لوحدات حماية الشعب الكردية. ومع ذلك فإن أهداف العملية ما زالت غامضة وتفتقر إلى دقة التحديد. هل ستكتفي أنقرة بمحاصرة المدينة والضغط على القوات الكردية لمغادرتها؟ أم أن عفرين مجرد بوابة لإحداث تسويات بين كل اللاعبين في المشهد السوري؟ قد تكون هذه وتلك موجودة في عقل صانع القرار السياسي والعسكري التركي، فهدف الامن القومي التركي الرئيسي هو منع قيام كيان كردي على حدودها، وتأمين منطقة نفوذ لها، والجغرافية السورية باتت مقسمة بين اللاعبين.
بادية الجزيرة شرق الفرات باتت منطقة نفوذ أمريكي.. وبادية الشام منطقة نفوذ روسي إيراني. فلماذا لا تكون عفرين وجبل الكرد وصولا إلى رأس البسيط حصة أنقرة؟ هكذا يتساءل العقل السياسي التركي، خاصة بعد أن انسحب الروس منها وأعطوا الضوء الاخضر لدخولها. وفي هذه النقطة بالذات نرى أن تركيا عقدت صفقة مع روسيا (إدلب مقابل عفرين). أدلب كانت منطقة نفوذ تركي بواسطة الجيش السوري الحر، الذي كان يسيطر عليها، والذي تعرض مؤخرا لهجمات من الجيش النظامي مدعوم بالطيران الروسي. فبحثت تركيا عن منطقة نفوذ أخرى فكانت عفرين. وفي خضم معركة البحث عن النفوذ هذه، الذي تحاول كل الاطراف الفوز بما تريد، تجتمع وتتقاطع الأجندات بعضها مع بعض. الروس يريدون زيادة سعير الخلاف التركي الامريكي خدمة لمصالحهم، فانسحبوا من أمام القوات التركية في عفرين. الاتراك يريدون تفجير حرب تركية كردية لزعزعة جهود واشنطن في شرق سوريا، فتضطر لإعادة النظر بعلاقتها مع قوات حماية الشعب الكردية، وهذا ما تريده موسكو بالضبط كي تقول بأن الامريكان يخذلون حلفاءهم ويتخلون عنهم. وهنا يظهر وجود حساب سياسي مشترك بين الروس والاتراك في عملية عفرين، قوامه الضغط على الامريكان لتخفيض وجودهم العسكري في سوريا، والضغط على الاكراد كي يتخلوا عن شمال سوريا، لأن الروس يريدون كل المناطق من جرابلس إلى البوكمال تحت سيطرة النظام، وقد طلبوا من الاكراد تسليم عفرين للقوات الحكومية، لكنهم جوبهوا بالرفض. فكان أن أعطوا الضوء الأخضر للاتراك لدخولها، وها هم الاكراد اليوم يستنجدون بالنظام ويعلنون استعدادهم للتخلي عن المنطقة له.
قد يقول قائل لماذا تقبل تركيا أن تكون إحدى أدوات تنفيذ الاجندة الروسية في سوريا؟ في الحقيقة أن تركيا جاهزة لفعل كل شيء من أجل هزيمة قوات حماية الشعب الكردية والحفاظ على أمنها القومي، وحتى عندما تخلّت عن حلب وطلبت من المعارضة الانسحاب منها، كان الهدف التركي هو منع الاكراد من وصل مناطق سيطرتهم في عفرين بعين العرب كوباني.
الخاسر الوحيد في هذه اللعبة السياسية هو الطرف الكردي، فمنذ عقود والاكراد لا يُشكلون سوى عامل مناورة في السياسة الدولية، ويتم التخلي عنهم بسهولة عند إتمام الصفقة. هذا الموقف يثلج قلب أنقرة فيدفعها للتقدم من عفرين إلى منبج، وشمال العراق، والجزيرة وعين العرب كوباني لاحقا. كما أن موافقة الروس والايرانيين والعمل الامريكي الحثيث من خلف الكواليس، لطمأنة تركيا ومحاولة إرضائها، كلها في جيب صانع القرار التركي. أما النظام في سوريا فهو الوحيد المفعول به في هذه المعادلة، ولا يمانع الاتراك من التفاهم معه في مراحل لاحقة، بعد تحقيق أهدافهم. فربُ السياسة المصالح الدائمة وليست العداوات الدائمة