الرئيسة \  واحة اللقاء  \  محور بوتين ـ نتنياهو: رميم "الممانعة" وغرام "المبادرة"

محور بوتين ـ نتنياهو: رميم "الممانعة" وغرام "المبادرة"

12.06.2016
صبحي حديدي


القدس العربي
السبت 11/6/2016
إذا كانت دبابة، فقدتها إسرائيل خلال اجتياح لبنان سنة 1982، هي هدية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المادية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بمناسبة زيارته إلى موسكو مؤخراً؛ فإنّ هدية الأخير إلى بوتين معنوية، ثمّ سياسية بامتياز: إدخال الكرملين على خطّ التسويات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، والإسرائيلية ـ العربية عموماً، في موازاة السلّة التي كان البيت الأبيض يحتكرها، وفيها يضع العرب كلّ البيض. ليس دون مقابل إضافي (إذْ أنّ الدبابة الهدية ليست كافية في حدّ ذاتها!)، يتمثل في سعي بوتين إلى إدخال تل أبيب على خطّ التنسيق العسكري الأمريكي ـ الروسي في سوريا؛ كما سرّبت وسائل إعلام إسرائيلية على صلة وثيقة بصنّاع القرار في إسرائيل.
وتلك خطوة تستوجب، من موسكو دائماً، استدراج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وضمان بعض الرضا ـ أو، على الأقلّ، الصمت ـ من الجانب السعودي. وفي أوّل برهان عملي على انخراط موسكو في تجريب الفكرة، قررت موسكو تخفيض مشاركتها في المؤتمر الوزاري الذي شهدته باريس مطلع الشهر، حول التسوية العربية ـ الإسرائيلية، فاكتفت بإرسال ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية سيرغي لافروف. ليس هذا فحسب، بل حرص بوغدانوف على تقديم اقتراح بصدد المستوطنات الإسرائيلية، أقرب إلى صورة طبق الأصل من مقترح أفيغادور ليبرمان القديم: منح السلطة الفلسطينية أراض "إسرائيلية" ذات أغلبية سكانية عربية، مقابل تخلّي السلطة عن أراض داخل الضفة الغربية تتكدس عليها المستوطنات.
ولكي يتخذ مشروع هذا المحور الروسي ـ الإسرائيلي الجديد صيغة تطبيقية ميدانية، لها أيضاً صفة اختبار النوايا والجاهزيات، فقد شاء نتنياهو منح بوتين امتياز تنظيم مؤتمر دولي، فلسطيني ـ إسرائيلي في الجوهر، لا يسحب البساط من تحت المبادرة الفرنسية، والشريك الأمريكي فيها، فحسب؛ بل يفرغها من محتواها أيضاً، ضمن تكتيك إسرائيلي مزدوج: رفض ما يُعرف باسم "المبادرة العربية"، في قمة باريس؛ وقبولها، ولكن ضمن إعادة تصنيع روسية، في مؤتمر موسكو الذي يُخطط له. لهذا كان لافروف هو الذي تولى قصب السبق في إعلان موافقة نتنياهو على المبادرة، مؤكداً أنه لم يسمع من رئيس الوزراء الإسرائيلي أي شرط مسبق، أو تعديل، لها؛ الأمر الذي "يجعل من الممكن النظر في تفاصيل الخطوات التالية لتطوير تسويات سلمية إسرائيلية ـ فلسطينية وإسرائيلية ـ عربية". في السياق ذاته، ولكن من باريس هذه المرّة، أكد وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أنّ المبادرة العربية تضم "جميع العناصر التي تتيح التوصل إلى السلام"؛ نافياً أي تعديل لأيّ من بنودها، ومؤكداً أنّ المملكة تعتبرها "الفرصة الأفضل"، وآملاً أن "تسود الحكمة في إسرائيل وأن يوافق عليها الإسرائيليون".
والمرء، بادىء ذي بدء، يحقّ له أن يتساءل عن معنى إعادة تفعيل مبادرة أُقرّت في قمّة بيروت سنة 2002، وعُرفت باسم آخر أوضح مغزى في الواقع، أي "مبادرة الأمير عبد الله" وليّ العهد السعودي يومذاك: أهذا نبش من باطن الأرض، لما بات من عاديات الزمن، بعد 14 سنة حفلت بعواصف هوجاء وهزّات عاتية؟ وبأيّ رميم عظام سوف يُبنى كيان تلك المبادرة، ومَن سيفعّل ماذا، مع مَن؟ وما رُفض في الماضي، من جانب إسرائيل أولاً، ومحور "الممانعة" تالياً؛ كيف يُقبل اليوم من إسرائيل، ولماذا؟ وهل يكون رميم تلك "الممانعة"، المشغولة بقتال الشعب السوري، جنباً إلى جنب مع نظام الاستبداد وجرائم الحرب والإبادة، هو الملاط وحجر الأساس؟
للمرء، مع ذلك، أن يستذكر تفصيلاً طريفاً وذا دلالة في آن معاً: أنّ "المبادرة" اتخذت، في الأصل، شكل مقترح تبسيطي، تكشّف في سياق دردشة (غير بريئة على الأرجح) بين الأمير عبد الله والصحافي الأمريكي الشهير توماس فريدمان؛ قبل أن ينقلب المقترح سريعاً إلى "مبادرة سلام" هلّلت لها الأمم شرقاً وغرباً. الجديد الخطير لم يكن يكمن في صدور المقترح عن المملكة العربية السعودية (بما كان يعنيه ذلك من شحنة سياسية ورمزية دالّة)، وعن الأمير عبد الله بالذات، وليّ العهد والحاكم الفعلي والرجل الذي عُرف عنه التشدّد في القضية الفلسطينية ومسألة القدس (الأمر الذي كان لا يستبعد غياب الإجماع حول المقترح في صفوف الأمراء السديريين، أو عدم اتضاح أيّ نوع من التوافق بين آل سعود والمشايخ الوهابيين، في أمر يمسّ ثوابت المملكة وجوهر موقعها السياسي والديني في المحيط العربي والعالم الإسلامي).
الجديد الخطير كان يكمن في تلك المقايضة، الجديدة بالفعل على الأجندة الرسمية العربية: الأرض مقابل التطبيع، والتطبيع الشامل كما لاح آنذاك (وكما توجّب أن نفهم من كلام فريدمان، وليس من التعليقات السعودية)؛ من النوع الذي تريده الدولة العبرية، وكانت وما زالت تسعى إليه. التطبيع الذي يُدخلها في عَقْد الشرق الأوسط كدولة مشارِكة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وكعامل "منشّط" و"محرّض" وضامن لولادة "الشرق الأوسط الجديد". هذا ما حلم به الصهاينة الأوائل، وهذا ــ وليس "السلام" التعاقدي، أيّاً كان محتواه ومفرداته ــ هو ما يسعى إليه الصهيوني ـ السياسي، والصهيوني ـ العسكري، والصهيوني ـ رجل الأعمال، والصهيوني ـ المبشّر الثقافي
والحال أنّ قرارات الأمم المتحدة ذاتها، و242 بصفة خاصة، لا تشترط كلّ هذا "الغرام" بين الدول العربية وإسرائيل، مقابل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. كذلك فإنّ مبدأ "الأرض مقابل السلام"، الذي استند إليه مؤتمر مدريد وبات حجر الأساس في إطلاق "العملية السلمية" العربية ـ الإسرائيلية؛ لا يقول بما قالت به المبادرة، أي: التطبيع التامّ بين إسرائيل والدول العربية كافّة. وفي هذا تكون "دردشة" الأمير عبد الله قد ذهبت أبعد ممّا ذهبت إليه مبادرات وجهود ومؤتمرات أخرى حول السلام في الشرق الأوسط، من مشروع الملك فهد في العام 1981 (الذي عُرف بعدئذ باسم "خطة فهد") إلى مفاوضات كامب دافيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، مروراً بمؤتمر مدريد دون سواه.
وفي الأساس، ما الذي كانت الرياض تريده من طرح المبادرة؟ بل ما الذي أراده الأمير عبد الله بالذات، استطراداً؟ لماذا ـ إذا صدّقنا رواية فريدمان، كما نقلها عنه ناحوم برنياع في "يديعوت أحرونوت" آنذاك ـ كان مكتب الأمير عبد الله متلهفاً على نشر مقال فريدمان حول المبادرة، أكثر بكثير من لهفة الصحافي الأمريكي نفسه؟ ولعلّ أولى مفاتيح الإجابة على هذه الأسئلة كانت تلك الريبة الغريزية التي تقود إلى القول بأنّ المبادرة موجهة إلى البيت الأبيض أكثر من أرييل شارون، رئيس وزراء إسرائيل في حينه؛ وأنّ حاجة المملكة إلى ترميم علاقاتها مع الإدارة الأمريكية، وتحسين صورتها أمام الرأي العام الأمريكي بعد هجمات 11/9، كانت أشدّ إلحاحاً من رغبة الأمير عبد الله في إطلاق مبادرة سلام لا يمكن أن تحظى بشعبية داخلية، في أوساط مشايخ الوهابية بصفة خاصة.
وفي الخلاصة فإنّ ما يقترحه محور بوتين ـ نتنياهو، اليوم، لا يتجاوز ذرّ الرماد في العيون واللعب في الوقت الضائع، ومن الإنصاف الترجيح بأنّ رميم "الممانعة" العربية، الذي يخلّفه أمثال خامنئي وحسن نصر الله وبشار الأسد، مروراً بأمثال قاسم سليماني وهادي العامري وقيس الخزعلي؛ هو مادة الترميم الأولى، التي لن تزيد العظام إلا تسوّساً ونخراً.
 
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس