الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مسرح جنيف أو التفاوض من أجل حل مسبق الصنع

مسرح جنيف أو التفاوض من أجل حل مسبق الصنع

23.04.2016
بدرالدين عرودكي


القدس العربي
الخميس 21-4-2016
هل من المبالغة القول إن ما نشهده اليوم بجنيف، مما أطلق عليه وصف المفاوضات بين ممثلي النظام الأسدي وممثلي المعارضة بإشراف الوسيط الأممي وبمعونة مستشاريه من النساء والرجال الذين على زعمهم المعارضة لم يحظوا بشرف التواجد ضمن الوفد الممثل لمعظم أطيافها، ليس إلا مسرحيات مُعدّة بإتقان، بعضها يعرض أمام العامة وتنقله وسائل الإعلام وبعضها أمام الخاصة ويُسرَّبُ منه ما شاء له المخرج أن يُعرف وثالثها أمام خاصة الخاصة لا يُعرف منه شيئاً إلا استنتاجاً أو بالأحرى تخميناً؟
يدرك كل من بذل جهداً بسيطاً في متابعة مجريات الحدث السوري منذ بداياته أنّ كل محاولات العثور على ما أطلق عليه منذئذ "الحل السياسي" لم تكن إلا ترويضاً على قبول ما لم يكن وما لا يمكن أن يقبل به شعب يكابد القتل اليومي والتهجير والحصار والتجويع منذ خمس سنوات من دون أن يتنازل عن حقه الأساس الذي خرج يطالب به في إسقاط النظام من أجل تحقيق الحرية والكرامة.
إسقاط النظام يعني، من دون أي مواربة أو مراوغة أو لعب بالألفاظ: إسقاط النظام الأسدي بكل رموزه وممثليه، أشخاصاً ومؤسسات؛ يعني: إسقاط نظام المصالح الفردية/الفئوية الذي أقامه الأب المؤسس من حول شخصه وأسرته وحفنة من طائفته، بعد أن جمع عصبة من الأفراد والجماعات ذوي انتماءات قومية ودينية وطائفية مختلفة، مدنية وعسكرية، وربطها إليه بمصالح أتاحها لها، فصارت من بعدُ جزءاً لا يتجزأ من هذا النظام بحيث بات دفاعها عنه هو، في الوقت نفسه، دفاعاً عن نفسها بالدرجة الأولى. لم يكن الأمر، وليس هو بأي وجه من الوجوه، عبودية بقدر ما هو تماهي أشخاص ومصالح ومصائر في نسق عصبة مصلحية، وهذا ما يفسر هذا التلاحم من حول شخص رئيس النظام ماضياً وحاضراً، وما يؤدي بالتالي، منطقياً، إلى جعل مطلب إزاحته أساساً جوهر أي عملية انتقالية لابدّ لأي حلٍّ تفاوضي يوصف بالسياسي أن يتضمنه كاملاً غير منقوص.
لكن البعض ممن يقدمون أنفسهم بوصفهم "المعارضة البناءة" ويضعون قوسين صغيرين من حول كلمة الثورة كلما تطرقوا في أحاديثهم إلى ثورة السوريين يأخذون على من تصدّوا لحمل هذا الحق والدفاع عنه أمام من ينكرونه عليهم محاولين تجسيده قولاً وفعلاً وممارسة أنهم لا يزالون يراوحون عند مطلبهم الأساس في الوقت الذي "تفوّق" فيه خصمهم على نفسه و"تطور" فصار ينطق بما يريد سادته وحُمَاتُه منه أن يقول.
كما أن البعض من القوى الإقليمية والقوى الدولية ممن لم ينظروا يوما إلى ثورة السوريين إلا بوصفها حادثاً طارئاً يمكن السيطرة عليه وتكييف مآلاته أو إعادة صنعه عملت ما بوسعها كي ترتقي بمطلب وقف القتال إلى مقام أولوية مطلقة بالنسبة إلى المطالب الأخرى بما فيها الحرية والكرامة وإسقاط النظام، ليسهل بعد ذلك الالتفاف على الجرائم المرتكبة وإعادة تأهيل مجرمي الحرب حكاماً يكتسبون الشرعية عن طريق صناديق اقتراع ما كانت يوماً أكثر من سجل استبدادهم ونفاقهم وتزويرهم والتي لم يتوقفوا يوماً عن الاستناد إليها من أجل تبرير بقائهم أو تفسير عودتهم التي يطمئنون إليها بفضل حلفائهم وحماتهم.
وكان مدخل هؤلاء وأؤلئك إلى هذا التكييف الحديث عن "مؤسسات الدولة" وضرورة المحافظة عليها؛ والإصرار على ضرورة "احترام الشرعية" التي لم يتقدّم أحد منهم لشرح معناها أو التذكير بمصدرها بله تبرير شرعيتها ذاتها! والحقيقة أن هذه "الشرعية" بالذات، التي نودي بها منذ البداية وحُكيَ عن "فقدانها" و"ضرورتها"، لم تنكرها، باستثناء الغالبية العظمى من الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية، الغالبية العظمى من الدول الكبرى أو الصغرى الفاعلة بدليل استمرار وجود النظام الأسدي ممثلاً لدولة كاملة العضوية ضمن منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها وكذلك استمرار التعاون الأمني الدولي معه سراً أو علانية. كما بقي الحديث طوال السنوات الأخيرة إما رفضاً صريحاً لموضوع رحيل رئيس النظام من قبل ممثلي النظام الأسدي وكذلك من قبل سادته الإيرانيين والروس معاً ومن ورائهم سيد البيت الأبيض الذي ما برح يكرر القول عن "فقدان الشرعية" ويفعل كل ما يعززها، وإما رفضاً ضمنياً معطوفاُ على "الشعب السوري" الذي يعود إليه أمر تقرير مصير "رئيسه"، وكأنّ أحداً لا يعلم من هو هذا "الشعب" الذي قام بانتخاب رئيس النظام عام 2014 وهو يُقتل ويُشرّدُ ويهجَّر، وكيف دُعي في الظروف ذاتها مؤخراً إلى "انتخاب ممثليه" في مجلس الشعب!
على غرار النظام الذي أتقن لعبة الشكليات في كل مجال من مجالات السياسة والحكم والدبلوماسية: الانتخابات الرئاسية والنيابية أو النقابات او الدستور المُفصَّل على مقاس سيد النظام وتبعاً لرغباته على الصعيد الداخلي، والابتزازات المالية ذات الطابع المافيوي على الصعيد الإقليمي، وكذلك ممارسة لعبة المفاوضات أيضاً بعد أن سبق له ممارستها على الصعيد الدولي، بدعم مكشوف وفعلي من حلفائه الذين صاروا اليوم سادته، يقوم هؤلاء السادة بالتعاون مع خصومه المفترضين وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية باستخدام لعبة الدلالات والشكليات ذاتها: الانتخابات، و"قرار الشعب السوري"، وسوى ذلك من الترهات التي صدعوا والحق يقال رؤوس السوريين بها، فضلاً عن رؤوس مواطنيهم.
لكن السؤال الأهم، أو إن شئنا السؤال/العذاب، يبقى: ما طبيعة هذه المفاوضات؟ وبين مَن ومَن تجري فعلاً؟ ومَنْ يُراد له أن يقوم بدور شاهد الزور؟
يُقال إن الحل بات جاهزاً. وربما كان الأدق القول إن الحل كان مقرراً سلفاً ولم يبق سوى إخراجه على نحو يبدو معه وكأنه نتيجة مفاوضات عسيرة وتنازلات متبادلة! سوف يُستعاض في صياغة هذا الحل عن بعض التعابير أو عن دلالاتها بتعابير أو دلالات أخرى. فبدلاً من "هيئة انتقالية بكامل الصلاحيات"، ستكون ثمة "حكومة انتقالية مشتركة بكامل الصلاحيات" يرأسها الأسد الذي سيقرر "الشعب السوري" مصير بقائه من عدمه. وسيكون هناك دستور تشرف على وضعه هذه الحكومة، ثم انتخابات رئاسية ونيابية.. إلخ.
يُحكى في سوريا دوماً عن "عقدة النجّار"! تلك التي تحول بينه وبين إنجاز عمله على النحو الذي يريد وبالسرعة المُلائمة. العقدة هنا كانت، ولا تزال، وستبقى "بشار الأسد" شخصاً ونظاماً. ذلك أن العناصر التي تسكت عنها المقترحات الأممية، أكان مصدرها حلفاء النظام الأسدي أم "أصدقاء" الشعب السوري، تجهل أو بالأحرى، وهو الأدق، تتجاهل طبيعة النظام التي أشرنا إليها في مستهل هذا المقال: "العصبية المصلحية، أي تلك التي تتجاوز العائلة إلى حلقات أكثر عدّة وعدداً. فكيف يمكن لنظام قوامه هذه العصبية على وجه التحديد أن يسلك سلوك نظام عقلاني قوامه النهج الديمقراطي أو المؤسساتي الذي يزعمه نهجه؟ وكيف يمكن لحلفائه وخصومه المُفترضين أن يجعلوا منه في صياغة مقبولة شكلاً مرفوضة قواماً لقمة سائغة في فم شعب عانى مرارة مذاقها خلال نيف وأربعين عاماً؟
وحدها الصياغة الواضحة البليغة تقول شيئاً ذا معنى: هيئة انتقالية بصلاحيات كاملة من دون الأسد وزمرته. لكنها ليست على جدول الأعمال.
إذ من الواضح أن الاستغباء الذي يمارسه النظام الأسدي بات قانون الجميع اليوم بجنيف: مسرح يراد أن يكون أبطاله دمىً يجسدها كلٌّ من النظام والمعارضة. من الواضح أن النظام وقد فقد على الأرض كل شيء وبات بفضل حلفائه قادراً على أن يقف على أقدامه بعض الوقت قد استحال دمية كاملة الأوصاف لا ينطق إلا بما يريد له حامله أن ينطق به. أما ممثلو المعارضة فهم يملكون حرية اختيار رهان الشعب المصيري الذي تصدّوا لتمثيله: الانتقال من الاستبداد إلى الحرية والكرامة: الخيار الوحيد.
٭ كاتب سوري