الرئيسة \  واحة اللقاء  \  مصير السوريين من باريس إلى فيينا

مصير السوريين من باريس إلى فيينا

21.11.2015
بكر صدقي



القدس العربي
الخميس 19/11/2015
افتتح تنظيم داعش، من خلال هجمات باريس الدموية، مرحلةً جديدة في السياسة العالمية لا يمكن فصلها عن المشكلة السورية. فالصدمة التي خلقتها العملية الإرهابية المنسقة في عاصمة النور، دفعت بأصحاب القرار في فيينا، في اليوم التالي، إلى الإسراع في التوافق على خريطة طريق محددة الملامح لوقف الحرب في سوريا، أبرز نقاطها توافق الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن على وقف إطلاق النار، من المحتمل أن يصدر قرار بشأنه من مجلس الأمن.
فعملية باريس المنسقة التي راح ضحيتها 132 قتيلاً ومئات الجرحى، هي الأولى من نوعها لتنظيم داعش ضد "العدو البعيد" وفقاً لقاموس مصطلحات الجهادية العالمية، وتشبه من نواح عدة هجمات منظمة القاعدة في نيويورك وواشنطن في 11 أيلول/سبتمبر 2001، والهجمات اللاحقة في مدريد ولندن وغيرهما.
فالمنظمة الإرهابية التي أعلنت دولة الخلافة من الموصل، حزيران/يونيو 2014، وتسيطر اليوم على مساحات واسعة من سوريا والعراق، ركزت جل جهودها، في المرحلة السابقة، على قتال "العدو القريب" في البلدين وتوطيد أركان حكمها البربري على السكان الواقعين تحت احتلالها، وتوسيع مساحة الأراضي التي تسيطر عليها، قدر المستطاع، على حساب القوى المجاورة من جيوش نظامية أو فصائل مسلحة.
ويمكن إدراج الهجمات الإرهابية التي نفذتها داعش في الأشهر السابقة على الأراضي التركية، في ديار بكر وسروج وأنقرة، في إطار قتال "العدو القريب" من حيث أنها استهدفت جماهير حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) الذي يعتبر الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، وتقاتل داعش فرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه المسلح "وحدات حماية الشعب". كذلك الهجوم الإرهابي الذي تبناه داعش واستهدف، قبل يوم من هجمات باريس، برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية الواقعة تحت سيطرة حزب الله اللبناني، فهو بدوره يندرج في إطار قتال "العدو القريب" الشيعي هذه المرة.
تميل التقديرات الاستخبارية الفرنسية، بالنظر إلى دقة التنظيم واختيار الأماكن المستهدفة، إلى أن عملية باريس تم التخطيط لها منذ فترة ليست بالقصيرة. من المحتمل أن التنظيم الذي لم يسجل انتصارات يعتد بها منذ بعض الوقت، وتعرض لهزائم عدة في مواقع مختلفة في العراق وسوريا، كان آخرها طرده من سنجار، أراد أن ينتقل إلى قتال "العدو البعيد" في حواضر العالم ليحقق إنجازات مبهرة تعيده إلى دائرة الضوء، بما يساهم في زيادة استقطاب "المجاهدين" من أنحاء العالم، وبما يربك الخصوم ويدفعهم إلى ردود فعل متوترة لن تؤذي التنظيم في شيء.
من هذا المنظور يمكن اعتبار إعلان حال الطوارئ في فرنسا لمدة ثلاثة أشهر وحالة الهلع التي سادت فرنسا والعواصم الأوروبية، من "إنجازات" عملية باريس التي تسجل لصالح داعش.
هذا ما تتحدث عنه النظرية الجهادية: تكفي عملية صغيرة في إحدى المدن الغربية، تقوم بتنفيذها خلية صغيرة، لاستنفار الرعب بصورة دائمة وإشغال أجهزة الأمن، بشرط توفير الإبهار الإعلامي المناسب. كانت "غزوة باريس" مثالية في تطبيقها لهذا الجانب من النظرية الجهادية، وحققت كل الثمار المرجوة منها من قبل داعش.
لكن جانباً آخر من عملية باريس فرض نفسه على المجموعة الدولية المجتمعة في فيينا لبحث المشكلة السورية. ليس فقط لأن العملية "تم التخطيط لها في سوريا" كما أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، أو بسبب عثور الشرطة الفرنسية على جواز سفر سوري قرب جثة أحد الانتحاريين (وهذه مفارقة أثارت سخرية كثير من المراقبين)، بل لأن عملية باريس قالت بوضوح إن الحرب في سوريا التي سبق وطفحت على الجيران، في لبنان وتركيا والعراق، باتت تهدد أوروبا نفسها، بتداعياتها الإرهابية على الأقل. وقبل عملية باريس، كان تفجير الطائرة المدنية الروسية فوق شرم الشيخ إيذاناً مشؤوماً بأن الحرب في سوريا ستحرق كل من يقترب منها.
من المحتمل أن هذا الإدراك هو الذي أنتج، في فيينا، أول تفاهم دولي واسع حول المشكلة السورية منذ الثلاثين من حزيران/يونيو 2012، فيما سمي ببيان جنيف الأول الذي تحول إلى مرجعية نظرية ثابتة لحل المشكلة السورية، لكنه لم يتحول إلى حيز التطبيق خلال ثلاث سنوات ونصف بعد إصداره.
غير أن خريطة الطريق التي تبناها اجتماع فيينا لا تبدو قابلة لتحقيق أي تقدم جدي بالنظر إلى الألغام التي تمتلئ بها. أولها لغم تجنب مصير الأسد الذي من دون تحديده لا يمكن توقع أي عملية سياسية بين النظام والمعارضة كما يقترح بيان فيينا. وتؤكد تصريحات وزراء الخارجية ممن شاركوا في اجتماع فيينا هذا الخلاف العميق بين الطرفين الدوليين ـ الإقليميين حول فهمهم لتفاهم فيينا: الأمريكيون والسعوديون والأتراك من جهة، والروس والإيرانيون من جهة أخرى.
ويتمثل اللغم الثاني في تصنيف الفصائل المقاتلة على الأراضي السورية بين إرهابية ومعتدلة، الأمر الذي من المتوقع أن يثير خلافات قد لا يمكن حلها، خاصة وأن الروس والإيرانيين يرفضون تماماً إدراج الميليشيات الشيعية متعددة الجنسية المحسوبة على إيران، وتقاتل دفاعاً عن النظام السوري، في قائمة المنظمات الإرهابية. وكذا في تحديد المعارضة السياسية "المقبولة" للانخراط في عملية سياسية مع النظام.
أما اللغم الثالث فهو يتعلق بمرحلة متقدمة من خريطة الطريق، ويشترط تحقيق خطوات قبله، كوقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة انتقالية من النظام والمعارضة، ووضع دستور جديد، في غضون ستة أشهر كما تقترح خارطة الطريق. ونعني به لغم الانتخابات الرئاسية والنيابية تحت رقابة دولية. وكأن المشكلة السورية هي مشكلة انتخابات لم تكن غائبة يوماً طوال حكم آل الأسد، في حين أن الأمر يتعلق ببناء دولة دمرها هذا النظام وجيش حوله إلى ميليشيات وآلة تدمير للبشر والحجر.
أرادت روسيا من تفاهم فيينا أن يكون أداة تشريع لحربها المتواصلة على سوريا ولإعادة تأهيل النظام الكيماوي، من خلال تصوير الأمر على أنه حرب "الدولة السورية" ضد الإرهاب.
وسبق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن أعلن كل من يحمل السلاح ضد نظام دمشق بوصفه "إرهابياً". صحيح أن بيان فيينا أشار بالاسم إلى داعش والنصرة كمنظمتين إرهابيتين لا يشملهما وقف إطلاق النار، ولكن تم تكليف الأردن بإعداد قائمة بالمنظمات الإرهابية التي ستبقى مستهدفة إذا تم وقف إطلاق النار.
ما زال الطريق طويلاً قبل الوصول إلى رؤية ضوء في آخر النفق، ما دامت الصفقات الكبرى بين اللاعبين الدوليين والاقليميين لم تنضج بعد، وإن كان استشعار الخطر الجدي قد بلغ ذروته بعد عملية باريس.
 
٭ كاتب سوري