الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معارك الشمال السوري المؤجلة

معارك الشمال السوري المؤجلة

07.06.2016
د. علي حافظ


القدس العربي
الاثنين 6/6/2016
اتضحت معالم الخريطة العسكرية تقريباً لسيطرة القوى في الشمال السوري (حلب وادلب)، التي تعمل فيما بينها ـ بشكل غير معلن ـ على اقتسام مناطق الثوار في المحافظتين المذكورتين منذ بداية العام الماضي، بعدما أصبحت فصائلهم الحلقة الأضعف في المعادلة السورية المعقدة جداً.
برزت هذه القوى ـ الجيش السوري النظامي والشبيحة والمرتزقة ـ "قوات الأسد"، الدولة الإسلامية في العراق والشام ـ تنظيم الدولة، جبهة نصرة أهل الشام وجند الأقصى والحزب التركستاني وأحرار الشام وجيش السنة ـ "جيش الفتح"، وحدات حماية الشعب الكردية وجيش الثوار ـ "قوات سوريا الديمقراطية" ـ نتيجة غفلة الثوار، وضعف تخطيطهم العسكري وتفكيرهم الاستراتيجي، وتراجع الدعم المقدم لهم لتشرذمهم وعشوائيتهم، وغياب الرؤية والهدف الواضحين، وعدم وجود عقيدة وطنية ثابتة، وتردد أبرز الداعمين الأساسيين ـ السعودية، قطر، تركيا ـ في تقديم أسلحة نوعية تحدث الانقلاب المطلوب وترجح كفتهم، وذلك بسبب تعنت الجانب الأمريكي!
رغم التناقض والتنابذ والاختلاف بين هذه القوى الشريرة، إلا أنها اتفقت ـ بطريقة ما ـ على تقاسم تلك المناطق حسب القرب الجغرافي من أماكن تواجدها وتجمعها
الأسد الذي بدا مهزوزاً بعدما أصبح سقوطه وشيكاً بداية عام 2014، اضطر إلى إيجاد تفاهمات ذكية أولاً مع "تنظيم الدولة"؛ ثم مع "جيش الفتح" و"قوات سوريا الديمقراطية" ـ حسب مبدأ "خذ وأعطي"؛ متخلياً لهم عن مناطق كاملة مع سلاحها وذخيرتها وعناصرها ومؤسساتها وإدارتها، مقابل احتفاظه الآمن بمناطق أخرى. ومن ثم العمل على استعادة عدد منها بعد فترة من الزمن. لكن هذا غير كاف، فلم يبق له غير الاستعانة بآخر صديق ـ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ـ طالباً منه التدخل دون قيد أو شروط؛ لاسترجاع ما بات يعرف إعلامياً بـ "سوريا المفيدة"!
بعد استعادة الأكراد، والعرب المقاتلين معهم، بلدة عين العرب "كوباني" ضمن غرفة عمليات "بركان الفرات"، اعتقد الجميع أن الأمر سيتوقف عند هذا الحد، وسيكتفي الأكراد بهذا الانتصار على "تنظيم الدولة"؛ الذي تحقق نتيجة التدخل الحاسم لطائرات التحالف الدولي ـ العربي. لكن هذا الانتصار المحدود أوقظ حلم الاستقلال النائم في أذهانهم منذ عشرات السنين؛ لتصبح كوباني "رأس جسر" للانطلاق نحو ربط الكنتونات الكردية السورية فيما بينها، أملاً في الوصول قريباً إلى منفذ على البحر الأبيض المتوسط، يؤمن تصدير النفط والغاز الموجود بكميات واعدة في المناطق التي احتلوها من سوريا!
إن حزب البي. كي. كي. ـ للعلم فقط ـ لم يُدعم ويقوى لولا هجوم "تنظيم الدولة" غير المبرر على المناطق الكردية.. لقد استغل الحزب هذا الهجوم بشكل ناجح جداً، ليروج بأن الأكراد معرضون للإبادة من قبل هذا التنظيم الباغي؛ وهذا ما جعل الكثير منهم يلتحقون بصفوفه مضطرين تحت ضغط هذه "البروباغاندا" الفعالة.. إضافة إلى وصول الدعم العسكري إليهم من كل حدب وصوب، باعتبارهم (مقاتلين أشاوس ضد برابرة تنظيم الدولة الإسلاميين)؛ حيث ساعد الأسد وبعض العناصر الفاسدة من الجيش الحر والفصائل الإسلامية المعتدلة بإيصاله إلى "كنتون عفرين"، لاسيما عن طريق باب السلامة الحدودي.. بعد ذلك تم تجميع عدد لابأس به من المتطوعين السوريين العرب في تركيا تحت مسمى "جيش الثوار"، ودعموا بالسلاح والذخيرة والمال؛ وأدخلوا إلى سوريا بحجة قتال أخوة المنهج ـ تنظيم الدولة والنصرة ـ، لكن اتضح أنهم راحوا يقاتلون أبناء مناطق ريف حلب الشمالي، ويحتلون أراضيهم تحت وصاية "وحدات حماية الشعب الكردية" وضمن ما عرف لاحقاً بـ "قوات سوريا الديمقراطية". في حين مُنع عناصر "الفرقة 30" التابعة للجيش الحر، والمجهزين تجهيزاً عسكرياً جيداً، من الوصول إلى جبهات "تنظيم الدولة"، ولوحقوا من قبل "جبهة النصرة"، وحدثت اشتباكات دامية بينهما أدت إلى قتل العديد من الطرفين، وأسر ضباط الفرقة والاستيلاء على سلاحها!
انطلى الأمر على الكثير من هؤلاء المرتزقة العرب، حيث وضعوا في الواجهة، لكن ليس لمقاتلة "تنظيم الدولة" و"النصرة"، بل لمقاتلة أبناء المناطق التي هاجموها؛ وكادوا يحتلون مارع ـ مهد الثورة في حلب وريفها ـ إلا أن استبسال الشباب هناك وإصرارهم على الصمود والثبات، منعهم من تحقيق حلمهم الشرير.. اتضح فيما بعد أن هؤلاء مجرد أدوات ارتزاقية في يد البي. كي. كي. الذي يسعى لإقامة "روجا آفا" (دولة غرب كردستان) في الأجزاء الشمالية من سوريا!
في الطرف المقابل، قام "جيش الفتح" بتحرير ادلب وريفها خلال وقت قياسي (حوالي 20 يوماً)؛ لكن فعلياً لم تجر معارك حقيقية هناك، وكادت الأحداث أن تكون أقرب إلى المسرحية الهزلية؛ فقد انسحبت قوات الأسد ضمن خطة تكتيكية معينة واتفاقات موضوعة مسبقاً، مقابل ترك حماة وجزء من ريفها لها؛ ولم يجر القتال إلا عند أطراف مشفى جسر الشغور، حيث نجحت قوات الأسد والميليشيات الداعمة لها من فك حصارعنه، وإنقاذ بعض الضباط والمسؤولين المتواجدين هناك، وبرفقتهم الكثير من الوثائق والأموال والتحف الأثرية والفنية، وكميات كبيرة من الذهب
لم يحقق الانتصار في ادلب وريفها شيئاً استرتيجياً كبيراً للثوار، ولم يخفف العبء عن باقي المناطق، ولم يجلب الحرية والكرامة المنشودتين للأهالي؛ فقد استلمت "جبهة النصرة" زمام الأمور وأخذت تطبق قوانينها الجائرة بحق السكان المحليين؛ مع تراجع غريب وغير مفهوم للفصائل الإسلامية الأخرى، التي شاركت بقوة وزخم في تحرير ادلب ـ حركة أحرار الشام، فيلق الشام… ـ ولم تحرك ساكناً أمام تجاوزاتها، وسعيها غير المعلن للسيطرة الكاملة على المحافظة من أجل إقامة "منطقة توحش" هناك، وتحقيق حلمها الذي راود قاداتها طويلاً بإنشاء إمارة قريبة من البحر الأبيض المتوسط وأوروبا!
غرق "جيش الفتح" في ادلب، ولم يعد له وجود ونشاط تقريباً في حلب، وبقي مكتوف الأيدي تجاه الهجمات الشرسة التي تعرضت لها عاصمة الشمال السوري وريفها. ولم يقم سوى بتعزيز وجوده في مناطق ريفها الجنوبي تحسباً لأي هجوم غير منتظر، وحماية لحدود إمارته غير المعلنة!
وليس غريباً أن يتشكل "جيش فتح" جديد في هذا الريف بقيادة الجبهة، ويضم خلطة سلفية معتبرة ـ حركة أحرار الشام، جند الأقصى، جماعة تركستان، جيش السنة… ـ كان قد أعلن منذ عدة أيام عن بدء معارك تحرير ذلك الريف، لكنه لم يسيطر إلا على بلدة خان طومان المدمرة كلياً؛ وتوقف هناك إلى أجل غير مسمى.
الغريب في الأمر أن طائرات الأسد وبوتين لم تتحرك لقصفهم وإيقافهم؛ في حين جن جنونها، عندما تحركت الفصائل المعتدلة ـ حركة نور الدين الزنكي، جيش المجاهدين… ـ من الريف الغربي لتخفيف الضغط عن حلب، وحرقت المنطقة كلها تقريباً بقصفها بكل أنواع الأسلحة الثقيلة!
في المقابل استطاع "تنظيم الدولة" السيطرة على مناطق واسعة من سوريا والعراق نتيجة انسحابات الجيش الأسدي والمالكي، واستمر تفوقه بين مد وجزر على مرأى ودهشة وانبهار العالم أجمع؛ وعدم قدرته على الفعل والتصدي لهذا المشروع المدمر؛ حيث تركوه يكبر ويتمدد وينتفخ ويتورم مثل الإمبرطورية الرومانية!
أصبح "تنظيم الدولة" يجيد لعبة القط والفأر مع "قوات الأسد" في الكثير من المواقع ومناطق التماس بينهم.
يتحرك عناصر وآليات هذه القوى الشريرة ضمن مناطق قريبة من بعضها بعضاً، وعلى خطوط متوازية، تكون قوات الأسد دائماً أحد أطرافها، دون حدوث أية اشتباكات قوية أو نزاعات محتملة فيما بينها.. هذا يدل على أنها تسير وفق خطط مرسومة مسبقاً، واتفاقات معلومة، وتفاهمات أولية ـ حسب الموقع والأطراف المشاركة فيه ـ لتلافي المجابهة والمضايقات والقتال البيني قدر الإمكان
وهكذا ستكون مدينة حلب ـ القسم المحرر من قوات النظام ـ إضافة إلى ريفها الغربي من نصيب الأسد؛ بينما ستذهب إعزاز ومعبر باب السلامة الحدودي إلى البي. كي. كي. ومن يقاتل معه من المرتزقة العرب؛ في حين سيأخذ "تنظيم الدولة" مدينة مارع وما حولها؛ وتسيطر "جبهة النصرة" ومن لف لفيفها من الفصائل الإسلامية الراديكالية على ريف حلب الجنوبي.
وقد تختلف الخطط، وتتبادل الأدوار في حال تعثر أحد الأطراف بالسيطرة على منطقة ما.. مثلاً يمكن لـ "البي. كي. كي." أن يأخذ مارع وما حولها؛ و"تنظيم الدولة" ـ اعزاز؛ والنظام ـ ريف حلب الجنوبي؛ و"النصرة" ـ ريف حلب الغربي
الأسد يلعب لعبة قذرة، ساعياً بكل جهده وخبثه لوضع العالم أمام خيارات صعبة: إما هو أو إحدى تلك القوى الشريرة الأخرى!
اليوم كل الأنظار موجهة إلى الشمال السوري، لاسيما مدينتي مارع وحلب، وهذا الشمال المنهك المتعب المدمر مفتوح على جميع الاحتمالات.. القوة فقط هي التي تحدد كل شيء على أرضه؛ لذلك من دون انتصارات أو تحرير أو سيطرة من قبل الجيش الحر، لا يمكن تحقيق أي إنجاز يستطيع أن يصنع أفقاً سياسياً مقبولاً، يمكن الثوار من المناورة في رحابته غير المربكة!
 
كاتب وصحافي سوري