الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معارك كسر "جوز" تنظيم "الدولة" القاسي

معارك كسر "جوز" تنظيم "الدولة" القاسي

26.06.2016
د. علي حافظ


القدس العربي
السبت 25/6/2016
ابتلع "تنظيم الدولة" لقمة كبيرة من الأراضي السورية والعراقية، وراح يهدد دول الجوار محاولا قضم المزيد من المناطق، لكنه لم يستطع؛ حتى تلك اللقمة التي ابتلعها لم يقدر على هضمها جيداً، نتيجة الدم الغزير الذي سال تحت سكاكين معدته الحادة الطويلة الشرهة
لجأ "تنظيم الدولة" إلى استعداء الجميع، وفتح جبهات عريضة ضد كل من لا يبايع خليفته البغدادي، ودخل في صراعات حادة مع أغلب المكونات العسكرية الموجودة على الأرض، بما في ذلك أخوة المنهج: "تنظيم القاعدة" وأفراخه… استطاع في البداية أن يستقطب أعداداً كبيرة من الجهاديين والمجرمين والناقمين والضائعين، ويحارب على كل الجبهات الممكنة، من أجل إخضاع معارضيه ومنافسيه، أو طردهم بعيداً عن أماكن تواجده ، معتمدا على قوة تدخل متنقلة، مؤلفة من "بيكابات" حديثة سريعة، وتحمل جنوداً أقوياء ـ من مختلف الجنسيات ـ مسلحين بعقيدة صلبة، ويملكون خبرة قتالية جبارة اكتسبوها في أماكن ساخنة عدة من العالم، لاسيما في أفغانستان وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق ودول البلقان والشيشان… تحركت هذه الأرتال من جبهة إلى أخرى بكل حرية وأمان وثقة، بسبب غياب المراقبة الفعلية لتحركاتها وعدم ملاحقتها من قبل طائرات النظامين السوري والعراقي.. كذلك تم تسليمها مدنا بأكملها، وثكنات ومواقع عسكرية بعديدها وعتادها، دون قتال أو مقاومة تذكر.. اعتقد تنظيم الدولة ـ للوهلة الأولى ـ أنه كلي القدرة، وبإمكانه القيام بأعمال إعجازية إسطورية، ويستطيع ابتزاز القوى الكبرى على الساحة من أجل الحصول على مزيد من الرُشاوى والمنح المجانية.
وظل هكذا حتى تشكل التحالف الدولي لمحاربته وبدأت طائراته تلاحق أرتاله وتوجه الضربات الموجعة إليها في كل مكان، لذلك أخذ يسترجع التاريخ ويستحضر ماضويته التي تخدم سياسته واستراتيجيته حينذاك، فكان "الإدعاء الدابقي" المأخوذ من أحد الأحاديث النبوية (لا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَنْزِل الرُّوم بِالأعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ)، والذي فسره شيوخه وشرعيوه كما يحلو لهم، مؤكدين أنه لابد من اجتماع جيوش "دول الكفر" في المعركة ضد جيش البغدادي (جيش الدولة الإسلامية) التي ستجري رحاها على أرض دابق؛ مثلما استحضر الخميني اقتراب ظهور المهدي لدفع آلاف الشيعة للتضحية بأرواحهم في الحرب ضد صدام حسين؛ وكذلك فعل جورج بوش الابن عندما أعلن اقتراب موقعة هرميجدون، لتحل نهاية التاريخ مع بدء العمليات الحربية ضد العراق عام 2003
لكن كل هذا لم يؤثر على التنظيم بالشكل المطلوب، بسبب عدم جدية قوات الأسد والمالكي في محاربته، لأنه كان يخدم أهدافهما في البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، ويساعدهما في قتال تشكيلات المعارضة، التي كادت تسقطهما شر سقوط.. كذلك لم تكن هناك قوة حقيقية أخرى منظمة منضبطة على الأرض تستطيع مقاومته وإيقاف تقدمه ولجم طموحاته، لذلك راح يضرب في كل الجهات ـ كالثور الهائج ـ غير مهتم بشيء، معتقدا أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من فتح روما!..
بقي على هذه الغطرسة الدموية حتى وقع أخيراً في فخ عين العرب "كوباني"، لتبدأ معركة استنزافه عبر الضربات الجوية المكثفة لطائرات التحالف العربي ـ الدولي، والتي أدت في النهاية إلى إخراجه من هناك، وهو يجر أذيال الخيبة والمرارة؛ طبعاً بعد أن دُمرت المدينة بشكل كامل تقريباً!
وهنا بدأ نجم حزب "البي كا كا" ـ من خلال أفرعه السورية (وحدات حماية الشعب وحماية المرأة) ـ بالظهور شيئاً فشيئاً، كفصيل عسكري عقائدي منظم قادر على قتال تنظيم الدولة لو توافرت له الإمكانات المطلوبة من سلاح وذخيرة ومتطوعين. وكان له ما أراد، حيث أصبح خلال وقت قصير القوة رقم واحد في خطط الأمريكيين والأوربيين الموضوعة لمحاربة التنظيم.
ثم كانت معارك جبل سنجار وتل أبيض والحسكة، ومعارك التبادل والتسليم مع قوات الأسد في تدمر وحقول النفط وغيرها… بعد ذلك حدثت المفاجأة غير المنتظرة للتنظيم، فقد استطاعت مارع ـ البلدة الصغيرة الواقعة شمال حلب ـ أن تقف وحيدة في وجه جحافله المنفلتة من عقالها، وتصمد صموداً أسطورياً بفضل مقاتليها الأحرار دون مساعدة التحالف أو أحد غيره.. حاول التنظيم دخولها عدة مرات، وحشد مئات الانغماسيين من أجل احتلالها وإركاع ثوارها (كان آخرها في 28 أيار/مايو 2016)؛ لكنه كان يفشل في كل مرة، ويسقط له الكثير من جنود النخبة على أسوارها المنيعة!
وفي الوقت نفسه الذي تحركت فيه الوحدات الكردية مع الفصائل العربية المتحالفة معها، بدعم ومساندة المستشارين الأمريكيين، باتجاه الرقة ـ العاصمة غير الرسمية للخلافة ـ ما لبث أن تحول، بعد ذلك، قسم كبير من قوات ذلك التحالف الشكلي الكردي ـ العربي نحو مدينة منبج؛ لأن الرقة كانت ـ على الأغلب ـ مجرد طعم دعائي وحرب إعلامية ضد التنظيم. ومع ذلك أراد الأسد أن يشارك في تقاسم كعكة تنظيم الدولة، فقام بتحريك قواته نحو الرقة أيضاً، بدلاً من توجيهها إلى مدينة دير الزور.
السؤال الهام الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يتسابق الجميع بالوصول إلى الرقة ويتركون المناطق الشرقية من سوريا الغنية بالنفط والغاز تحت سيطرة تنظيم الدولة؟
بعد بدء معارك الرقة ومنبج أخذ "تنظيم الدولة" يسحب عناصره من بعض المناطق في حلب وريفها للدفاع عن هذه المدن الهامة بالنسبة له، كخطة تكتيكية أولية هدفها الاختباء والتحصن فيها أطول فترة ممكنة؛ ومن ثم جر خصومه إلى معارك المدن الصعبة التي يتقنها أفراد التنظيم أيما اتقان.. سيعتبرون الأمر نوعاً من أنواع تحدي جبروت "دولة الإسلام" وشيئاً من الامتحان الرباني، لذلك لن يستسلموا بهذه السهولة وسيقاومون حتى آخر رمق، مستخدمين الكمائن والمفخخات والانتحاريين..، مما سيؤدي ـ في النهاية ـ إلى تدمير هذه المدن وقتل عدد كبير من سكانها المحاصرين، الذين يتخذهم التنظيم دروعاً بشرية ـ كما حصل في أماكن عديدة.
من الممكن أن فورة التنظيم، التي شغلت العالم لمدة ثلاث سنوات تقريباً قد توقفت، وأن العد التنازلي لتراجع تنظيم الدولة وتحجيمه قد بدأ، بعدما أتم مهمته بنجاح يفوق الوصف؛ والتي انحصرت في استقطاب أكبر عدد ممكن من الجهاديين الإسلاميين وشذاذ الآفاق والمجرمين من جميع بقاع الأرض وتصفيتهم خلال معاركها العبثية الدائرة على الأراضي السورية والعراقية منذ عدة أعوام؛ ومن ثم وضعت الأسس اللازمة لتقسيم هاتين الدولتين على أسس مذهبية عرقية قومية طائفية بعد إعلانها الحرب ضد كل مكوناتهما السكانية؛ وأعطت حكام دمشق وبغداد أوكسير الحياة والأمل بإمكانية العودة الجديدة من بوابة مقاتلة الإرهابيين والتكفيريين، بعدما عاثوا ـ هؤلاء الحكام ـ في بلديهما فساداً وقتلاً وتدميراً وتهجيراً
أعتقد أن التنظيم لن ينتهي بهذه السهولة المتوقعة ـ كما يتصور بعضهم ـ رغم تقلصه وتراجع مساحات سيطرته الفعلية، بل سيستخدم تكتيكات جديدة تعتمد على العمليات الإرهابية الخاطفة، والكمائن (كما حدث في موقعة الشركراك بالرقة)، والخلايا النائمة التي تصحو فجأة وتضرب بعدد محدود من العناصر، ومن ثم تختفي لبعض الوقت مدللة على وجودها بين والحين، مؤكدة على استمرارها في جهادها الدموي المقدس، الذي لم يدخل مكاناً إلا وخربه وشرد شعبه وقتل أحلامه بالحرية والعدالة والمستقبل المدني الكريم
المعارك الجارية من أجل كسر جوز تنظيم الدولة القاسي قد تُحدث فيه بعض الشروخ الخفيفة، لكنها لن تستطيع كسره تماماً وتفتيته نهائياً، فهناك مفاجآت كثيرة تنتظر كل الذين يحاولون فعل ذلك!
من يرغب في الانتصار على "تنظيم الدولة" يجب أن يحشد مقاتلين من جميع مكونات للشعب السوري الرئيسية، ولا يعتمد على مكون دون آخر، فهذا سيصعب الأمر ويجعله مستحيلاً ـ كما يحدث الآن في منبج والرقة وغيرهما