الرئيسة \  واحة اللقاء  \  معركة عرش زنوبيا؟

معركة عرش زنوبيا؟

13.04.2016
د. علي حافظ


القدس العربي
الثلاثاء 12-4-2016
بعدما أحرزت قوات الأسد وشبيحته وميليشياته الطائفية، مدعومة بسلاح الجو الروسي، انتصارات مهمة في حلب وريفها، مسترجعة العديد من المناطق التي خسرتها سابقاً، لاسيما بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في ريف حلب الشمالي من أيدي الثوار والجيش الحر، والمحطة الحرارية وأكثر من 30 قرية في ريف حلب الشرقي من أيدي تنظيم "الدولة"؛ لتطرق أبواب مدينة الباب ـ المركز الاقتصادي للتنظيم ـ ذكرت بعض المصادر أن الأسد سيوجه قواته، المنتشية بانتصاراتها الأخيرة، نحو الرقة ـ عاصمة الخلافة ـ مؤكداً بأن رجاله سيصلون إلى هناك نهاية شهر آذار 2016؛ طبعاً من أجل غسل أوساخهم في مياه الفرات. لكن فجأة تغيرت الخطط والخرائط العسكرية للجيش الباسل، وأصبحت تدمر ـ عروس البادية السورية ـ هدفهم ووجهتهم الأهم، مع سحب القيادة السياسية الروسية أهم طائراتها وسفنها الحربية من الأجواء والمياه الإقليمية السورية؛ ووجود فيتو أمريكي غير معلن ـ على ما يبدو ـ حول الرقة، لأن استرجاع هذه المدينة سيحرم الأكراد ـ حلفاء الأمريكيين الأساسيين ـ من البعد الاستراتيجي داخل الأراضي السورية، وسيبقي وجودهم مقتصراً على الحدود فحسب؛ ما يهدد كيانهم المصطنع بالزوال في حال وصلت قوات الأسد أو فصائل الثوار إلى هناك.. ما يؤكد هذا الأمر هو إعلان قوات سورية الديمقراطية ـ الغطاء التمويهي لحزب البي. كي. كي. ـ منذ عدة أيام، عن بدء معركة تحرير الرقة من تنظيم "الدولة"!
دارت معارك طاحنة فوق رمال البادية السورية المتحركة بين عساكر الأسد وجنود البغدادي؛ حيث تبادل الطرفان عمليات الكر والفر لمدة 10 أيام تقريباً، وضع الأسد خلالها كل ثقله العسكري محاولاً استرجاع المدينة الأثرية من أيدي تنظيم "الدولة"؛ بعدما انسحبت قواته منها دون قتال، تاركة ترسانة ضخمة من الأسلحة والذخائر في مخازنها الاستراتيجية نهباً للتنظيم.. كذلك تم نقل ضباطه الكبار المهمين، أما البقية فتركوا للسكاكين السوداء.. بعد ذلك، وقبل عدة أيام من دخول جحافل "الدولة الإسلامية" إلى تدمر، تم إفراغ سجنها من المعتقلين، ليقوم تنظيم "الدولة" بتفجيره طامسة جرائم عائلة الأسد خلال حكمها البغيض المقيت لسوريا. في حين أبقت على مطار تدمر العسكري لترجع إليه طائرات بوتين والأسد بعد إصلاحه من جديد.. هكذا حصل أيضاً في الفرقة 17، واللواء 93 بالرقة، ومطار الطبقة العسكري، حيث انتظر صغار الأسد الهامشيين مصيرهم العاثر!
خلال بضعة أشهر فقط من سيطرة الدواعش على المدينة، قاموا بإنشاء عدة خطوط دفاعية حولها نظراً لأهميتها الاستراتيجة، ودمروا عدداً كبيراً من المعالم المعمارية الأثرية المدرجة على لائحة التراث العالمي لليونسكو، مثل: قوس النصر القديم الذي يرجع تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، معبد بعل شامين ـ القرن الميلادي الأول، معبد بعل الذي بني في عام 32 ميلادي، تمثال أسد اللات الذي يتراوح عمره أكثر من ألفي سنة. وقبل بضعة أيام من هذا العمل المشين ذبحت سكاكين تنظيم "الدولة" عالم الآثار السوري ومؤلف العديد من البحوث العلمية خالد أسعد، الذي عمل لأكثر من 50 عاماً مشرفاً على المجمع الأثري القديم في تدمر.. كذلك فجر عدة أعمدة أثرية قديمة رُبط إليها معارضون حكم عليهم بالموت؛ في حين قامت طائرات الأسد بقصف قلعة تدمر مما أدى إلى تدميرها
ترك الأسد كل المناطق الخارجة عن سيطرته ـ القريبة من العاصمة وقصره الجمهوري في داريا ودوما، والقريبة من معاقل طائفته العلوية في إدلب ـ وتوجه إلى حلب وريفها الشمالي والشرقي، ومن ثم إلى تدمر؛ ليثبت للروس أولاً أنه قادر لوحده، أو بمن بقي معه من مرتزقة، على القتال حتى تحقيق نصره النهائي المزعوم؛ وعليهم ألا يتركوه في منتصف طريق مجده الدامي، فـ "سوريا المفيدة" أو "سوريا الصغرى" قليلة عليه وعلى مخابراته وجيشه وميليشياته العابرة للقارات. وثانياً أراد أن يثبت للعالم الغربي، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعاني كثيراً من عقدة الانتحاريين الإسلاميين الموعودين بحوريات لا مثيل لها، أنه الحليف الأمثل القادر على مقاتلة الإرهابيين ودحرهم بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة؛ فمرتزقته هم الأرخص ثمناً وتكلفة في سوق الحروب العقائدية القذرة. وثالثاً يستطيع الأسد أن يغطي سرقته للآثار وتفريغه لمتحف المدينة قبل خروجه من هناك، متهماً برابرة السواد بكل ما جرى وحصل لبالميرا الشرق المسكينة
ربما كانت معركة تدمر المعركة الحقيقية الأولى بين أشبال الأسد وصبيان البغدادي، لأن المعارك الماضية كانت مجرد مسرحيات حربية هزلية كُتبت سيناريوهاتها الساذجة في الأروقة السرية المعتمة التي تربط بينهما.. المعركة شرسة وحاسمة، لأن سيطرة قوات الأسد على تدمر يعني أن الطريق أصبحت سالكة نحو دير الزور أو الرقة، ومسألة السيطرة عليهما ستكون مسألة وقت ومضاربة بين المستثمرين الدوليين في الحرب ضد تنظيم"الدولة"!
تمكنت طلائع قوات الأسد وميليشياته، وبتغطية جوية الروسية كثيفة وفعالة، من دخول المدينة بعد أسبوع واحد تقريباً من احتدام المعارك بين الطرفين (يوم الخميس 24 آذار/مارس 2016)، حيث قطعت طرق الإمداد الرئيسية عن الدواعشة الباقين هناك، مما اضطرهم للانسحاب إلى خارج أراضي المجمع التاريخي الأثري. وقبل بضعة أيام من ذلك التاريخ استطاعت تلك القوات السيطرة على المرتفعات الاستراتيجية المشرفة على المدينة القديمة، والتي شكلت نقاط الدفاع الأولى عنها.
حاول التنظيم أخذ المبادرة من جديد، كي يسترجع ما خسره من مناطق، إلا أنه لم يستطع، وجُل ما فعله هو تأخير سيطرة القوات المهاجمة لبعض الوقت عن طريق المفخخات العمياء وعبث الانتحاريين..
انتهت معارك البرابرة صباح يوم الأحد (27 آذار/مارس 2016)، وسقطت تدمر في أيدي قوات الأسد، إلا أنه ـ مع ذلك ـ لا توجد أية فرصة لإنقاذ هذا الموقع الأثري العالمي الفريد، الذي يشكل أحد كنوز البشرية الأكثر قيمة وأصالة وروعة
لم تمر عدة أيام على استرجاع بوابة البادية الشامية حتى دخلت قوات الأسد مدينة القريتين؛ لكن السؤال المهم هو: هل ستتوقف تلك القوات هناك أم ستتوجه إلى مكان آخر؟
المثير للسخرية هو ترحيب مدير الآثار والمتاحف السوري مأمون عبد الكريم بالتحرير الوشيك لتدمر، وإعلانه العزم على إعادة إعمار المعابد المدمرة من قبل الإرهابيين، بمساعدة الخبراء والمختصين المحليين والأجانب (الروس طبعاً)؛ مما دفع مدير متحف الأرميتاج الحكومي الروسي ميخائيل بيوتروفسكي للرد قائلاً: "أول شيء يجب أن نعرف ما تبقى من تدمر المسترجعة. فدخول الدبابات شيء والوعي بحالة تدمير الآثار القديمة شيء آخر. نحن موظفو متحف الأرميتاج الحكومي، لا نخطط الآن للسفر إلى تدمر، على الرغم من أننا مستعدون لفعل ذلك من حيث المبدأ. ولكن علينا انتظار اليقين بالنسبة للوضع؛ فحالة الترميم ليست عملية عسكرية!
أولاً: أعتقد أن الآن هو الوقت المناسب للتوثيق.
ثانياً: من الضروري إجراء نقاش عالمي حول ماذا وكيف نفعل بآثار تدمر.
بالتأكيد يتعلق الأمر بالنقاش حول الكيفية التي ينبغي بها إعادة بناء المهدم. لقد أعربت عن رأيي سابقاً، وقلت بأنه من الضروري إعادة بناء تدمر؛ فالأمر أخلاقي. ولكنني سمعت آراءً أخرى: ليس من الضروري إعادة البناء، بل تركها لتكون شاهداً على الهمجية. لقد كان لدينا نقاش مماثل أثناء إعادة ترميم لوحة "داناي" للرسام رامبرانت. قال أحدهم: من الضروري إنشاء قماش جديد. وقال آخر: دعونا لا نلمس أي شيء، لتذكر اللوحة بالهجوم الوحشي عليها.
اُعتمد الرأي الثالث: تم استعادة اللوحة، لكن لم نرمم ما فقدته، بل تم استعادته بحيث يمكن رؤية وتصور ما كانت عليه. مثل هذه القرارات يجب السعي إليها الآن في تدمر" ـ كلام موضوعي وحاذق من أكاديمي محب للآثار والشرق والحقيقة.. نعم، الهمجية تخص جميع المتحاربين هناك، ولا تخص طرفاً بعينه.. الكل شارك بجريمة تدمير أهم صرح ثقافي حضاري في سوريا وأعظم مدينة قديمة في المنطقة؛ إضافة إلى نهب آثارها التي لا تقدر بثمن: الآثار المعمارية التي دمرها الطرفان بكل قسوة وهمجية؛ والأثار الفنية الأخرى ـ تماثيل وأوان وحلي ذهبية… ـ التي باعها الطرفان من أجل تمويل حربهما ضد الشعب السوري، واستئصال حضارته الضاربة بأعماق التاريخ.
إذاً، البرابرة في سوريا ليسوا الدواعش وغيرهم ـ فحسب، بل قوات الأسد والميليشيات الشيعية المقاتلة معها وسلاح الجو الروسي.. هؤلاء جميعاً هم البرابرة الحقيقيون الذين دمروا سوريا وقتلوا شعبها وهجروا أهلها… معركة طحن الرمل التدمري وكسر عظام التاريخ بين الطرفين الأساسيين ـ الأسد والبغدادي ـ لم تحقق النصر المعهود لأحدهما؛ ولم تكلله بأكاليل الغار كأورليان، لأن عرش زنوبيا مازال أعظم العروش، وهو لا يليق بالحثالات والقتلة والمجرمين… فما يرونه اليوم مجداً نراه غباراً!