الرئيسة \  واحة اللقاء  \  من حيفا تحية إلى جبلة السورية

من حيفا تحية إلى جبلة السورية

04.06.2016
سهيل كيوان


القدس العربي
الخميس 2-6-2016
يحتاج الناس عموما إلى قوة روحية تسندهم وتحمي توازنهم النفسي، خصوصا في لحظات الخطر والفقد والموت، هذه القوة الروحية يحتاجها بشكل خاص، الشعب الذي يقاوم احتلالا أو استبدادا، عندما تكون التضحيات باهظة، بالأرواح والأموال والسجن والتنكيل وغيرها، فالإيمان هو القوة المعنوية التي تجعل الثمين رخيصا والتضحية هدفا ساميا؟
هذه القوة المعنوية نجدها بشكل خاص لدى المؤمنين بالقضاء والقدر فتعينهم على الصبر والتحمّل في أقسى الظروف، وتمنحهم دافعية لمواجهة الظلم والظالمين، بينما نجد غير المؤمنين أقل تحملا وصبرا، وأكثر جزعا، وأكثر تمسكا بالحياة، خصوصا إذا كانوا ميسوري الحال، فهم أقل استعدادا للتضحية بالنفس.
لهذا السبب بالذات، يسعى الظالمون بشتى أشكالهم لشيطنة هذه القوى، فيطلقون عليها شتى التسميات والصفات البغيضة المنفرة، مثل القوى المتخلفة والمتحجرة والمعادية للحضارة والإنسانية وطبعا "الإرهابية"، ليصبح المقاوم مخربا وإرهابيا ومريضا جنسيا، لأنه يحرّض نفسه والمؤمنين على القتال، كما فعل الشهيد عز الدين القسام في فلسطين وعمر المختار في ليبيا ومحمد بن عبد الكريم الخطابي في المغرب وعبد القادر الجزائري في الجزائر وشيوخ فلسطين، وهم كثر ومنهم الشيخ الشهيد أحمد ياسين وغيرهم كثيرون ممن قاوموا الاستعمار والاحتلال.
أحد الذين اتهموا بالإرهاب منذ حوالي ثمانية عقود هو الشهيد عز الدين القسام المدفون في مقبرة تحمل اسمه (مقبرة القسام) منذ 20-11-1935 في قرية بلد الشيخ المهجرة شرق شمال حيفا. يوم السبت الماضي التقى العشرات من المتطوعين في مقبرة الشهيد "الإرهابي" عز الدين القسام لتنظيفها، وكان هذا بمثابة رد على نية السلطات تسليم جزء من المقبرة لشركة إسرائيلية، تدعي ملكيتها على جزء من مساحة المقبرة، وقد كشف متطوعون قبل أسبوعين محاولة نبش لضريح القسام ورفاقه. قبل أكثر من عقدين أرادوا شق شارع فوق أرض المقبرة، وحاولوا نقل القبور من مكانها، ولكن بعد نضال شعبي وقضائي قادته الحركة الإسلامية في حينه، تم الاتفاق على إقامة جسر على طرف المقبرة الجنوبي بدلا من الشارع، فبقيت الأضرحة سليمة، ولكن السلطة لا ترعوي، فكل بضع سنوات تقضم منها قطعة ما، فمررت على طرفها الشمالي سكة حديد، والآن هناك مخطط لتسليم جزء منها لشركة إسرائيلية استثمارية.
مقبرة القسام هي أكبر مقبرة في كل فلسطين، حيث تبلغ مساحتها 43 دونما. اجتمع المتطوعون يوم السبت فنظفوها وقلموا أشجارها، خصوصا حول الأضرحة، بمشاركة من جميع التيارات السياسية والطوائف العربية، وبعض يهود ليسوا صهاينة، وإن كانوا قلة قليلة وذوي وأقرباء شهداء مدفونين في ترابها، معظمهم من القرويين الذين كانوا يعملون في حيفا واستشهدوا خلال الثورة بين أعوام 1936
و1939 برصاص الإنكليز، أو بسبب تفجير عربات وبراميل مفخخة على يد العصابات الصهيونية في حيفا منذ عام 1938 وحتى عام 1948، والتي أدت لعدة مجازر، سقط في كل مرة منها عشرات من القتلى ومئات الجرحى، في الأسواق والأمكنة العامة، ثم شهداء من حرب عام 1948.
عز الدين القسام ابن جبلة السورية شيخ أزهري، دعا في خطبه من مسجد الاستقلال في حيفا لشراء السلاح بدلا من تزيين المساجد، بل دعا لتأجيل موسم الحج ورصد ريع الحجيج لشراء السلاح والتدرب عليه لمقاومة الصهاينة والإنكليز، ومن أقواله إنه "إذا خسرنا الوطن فماذا ستنفعنا زينة وزخرفة المساجد؟". حرّض المؤمنين على القتال، ورفض فكرة أن الإنكليز هم أولو الأمر، ودعا للتمرد عليهم، وبين كر وفر وشد وإرخاء، خرج للقتال المسلح بعدما أنشأ تنظيما سريا من عدة شُعب، بدءا من عام 1934 حتى استشهد في أحراش يعبد مع عدد من رفاقه المدفونين إلى جانبه أواخر 1935. وكانت هذه توطئة وتمهيدا لثورة 1936 التي استمرت ثلاث سنوات.
كان القسام شيخا أزهريا مجاهدا، ولم يكن من أولئك الأزهريين المنافقين الذين يفتون للزعماء حسب الطلب في مختلف بلدان الوطن العربي، بل يفتي بعضهم بلا حياء بمحاصرة المدن، ويفتي بوجوب طاعة مغتصبي السلطة، ويفتي بمحاربة الثوار على الظلم وقتلهم.
في الوقت الذي كان المتطوعون ينظفون مقبرة القسام ابن جبلة السورية، لم تتوقف الغارات الروسية والنظامية الهمجية على الشعب السوري، لنكتشف أن الصورة لم تتغير كثيرا منذ ثمانية عقود، أعداء فلسطين والشعوب العربية لم يتغيروا كثيرا، فقط تغيرت الأسماء والوجوه، حكام ظالمون ومستبدون واحتلال أجنبي، يواجهه ثوار يُتهمون بالإرهاب.
هل كان ثوار فلسطين إرهابيين منذ ثورة القسام حتى يومنا هذا؟ وهل سكان حلب وإدلب وغيرها من مدن وقرى سورية المنتفضة الذين يقتلون يوميا هم إرهابيون؟ أم هم أهلها الثائرون على الاستبداد، كما أهل فلسطين الذين يقارعون الاحتلال منذ قرن؟ واضح أن قوى الثورة من السوريين أنفسهم، ولو كان كل هؤلاء من الأجانب كما يدعي النظام وحلفاؤه لما استمرت وصمدت الثورة كل هذه السنين.
بلا شك يسعى المجرمون منذ ثورة القسام لدس عملائهم بهدف تشويه الثورات وتنفير الحاضنات الشعبية منها، فقتلوا الكثير من الشرفاء بتهم الخيانة، واعتدوا على الناس وأموالهم وأعراضهم، وهي بلا شك ليست مزايا الثوار الذين باعوا ذهب زوجاتهم لشراء السلاح، وقدموا أرواحهم رخيصة لوجه الله والوطن، لم تكن هذه رسالة القسام يوم أطلق ثورته في وجه المخطط الصهيوني الذي ما زال يستهدفه هو ورفاقه حتى في أضرحتهم، هي ليست صفات ثوار فلسطين، ولا صفات ثوار سوريا الذين اجتمعت جيوش الاستبداد والظلام لإفشال ثورتهم وشيطنتها، ولا هي صفات الثوار العرب في كل مكان.
حركة الشعوب تصحح وتعدّل مساراتها بنفسها، وسوف تستمر حتى تنتصر، ومن حيفا تحية إلى جبلة السورية وأخواتها المنتصرات مهما تكالب المتكالبون وتآمر المتآمرون.
 
٭ كاتب فلسطيني