الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هدنة واشنطن وموسكو: الإصبع والمستنقع

هدنة واشنطن وموسكو: الإصبع والمستنقع

26.09.2016
صبحي حديدي


القدس العربي
الاحد 25/9/2016
كان في وسع المراقب العادي لتاريخ "التفاهمات" الأمريكية ـ الروسية حول الشأن السوري، خاصة بعد تدخل موسكو العسكري المباشر إلى جانب نظام بشار الأسد السنة الماضية، أن يتكهن بفشل اتفاق الهدنة الأخير؛ رغم كلّ ما اكتنف التوصل إليه من شدّ وجذب، وآمال وتطلعات، ولقاءات لم تقتصر على وزيرَي خارجية البلدين، بل اقتضت اجتماعاً بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.
الأسباب كثيرة بالطبع، ولقد سال مداد وفير في تعدادها وشرحها، دون أن تخرج معادلات التأويل عن حقيقة واحدة كبرى، بسيطة وجلية: أنّ الفارق بين "عقيدة أوباما" في عدم الانخراط (أي، أيضاً، وفي المقابل: توريط موسكو في المستنقع)؛ وما تصحّ تسميته "عقدة بوتين" في استرجاع أكبر قدر متاح من مكانة روسيا على الساحة الدولية، وردّ الصاع للولايات المتحدة والغرب في ملفات أوكرانيا والنفط والعقوبات الاقتصادية، على جثث السوريين وخرائب سورية.
ومن اللافت أنّ هذا الفشل، المعلَن كان، حتى قبيل وضع اللمسات الأخيرة على نصّ الاتفاق، قد بدأ من زاوية طريفة، غير مألوفة تماماً؛ أي تسريب أنباء عن اعتراض وزارة الدفاع الأمريكية عليه، وعدم رضا جنرالات البنتاغون عن بعض بنوده (الرسمية المذاعة، فما بالك بتلك السرية المكتومة!)؛ كما جاء في تقرير مثير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية. ورغم حرص وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر، على امتداح جهود زميله وزير الخارجية، جون كيري؛ فإنّ كارتر نفسه كان الأكثر تشدداً في وضع مسودة الاتفاق على محكّ المساءلة والتمحيص والتشكيك.
الجانب الطريف الآخر هو تراشق الاتهامات حول نشر نصّ الاتفاق الكامل، حيث وجهت موسكو الاتهام إلى واشنطن بصدد عرقلة النشر؛ وكأنّ إقدام موسكو على نقل الاتفاق إلى العلن كان سيؤدي إلى مواجهة نووية بين الجبارين، أو كأنّ خطوة كهذه ليست أكثر من إجراء سيادي يحقّ لروسيا اتخاذه، بوصفها الطرف المتعاقد الثاني على الأقلّ، إنْ لم يكن من موقع القوّة الكونية الثانية، العائدة إلى المسرح الدولي بضجيج وعجيج!
أمّا الجانب الآخر من الطرافة، فإنه ذاك المضرّج بالدماء والأشلاء ومواد الإغاثة المحترقة في شاحناتها: ضربة جوية أمريكية ضدّ قوات بشار الأسد في مطار دير الزور، وضربة جوية مقابلة ضدّ قوافل الإغاثة السائرة إلى حلب بموجب اتفاقية الهدنة. وإذا كانت مسؤولية الضربة الثانية قد ضُيّعت بين موسكو والنظام السوري، فإنّ الضربة الأولى كلّفت واشنطن اعتذار رفع العتب فقط؛ ولكن الباطن، في الضربتين، كان يذكّر الغافلين بأنّ الظاهر لعبة عضّ أصابع، لا تريق إلا دماء السوريين في نهاية المطاف.
ثمة فارق، مع ذلك، مفاده أن ضربة دير الزور عسكرية صرفة، ماطل البنتاغون في تبريرها ثمّ عنها؛ وضربة قوافل الإغاثة جريمة حرب صرفة، أنكرها الجناة وسكت العالم عنها. ولهذا، لم يمض وقت طويل حتى ترجم طيران موسكو ونظام الأسد هذا السكوت إلى مزيد من جرائم الحرب في حلب، حيث بلغت وحشية القصف ذروة غير مسبوقة، طالت حتى مراكز الدفاع المدني السوري… عقاباً، ربما، على منح جائزة نوبل البديلة إلى هؤلاء الأبطال السلميين، رجال "الخوذ البيض".
فشل معلَن، إذن، يُضاف إلى تاريخ القصور الذي طبع تعاطي الجبارين مع الملفّ السوري، طيلة خمس سنوات، خاصة في هذه الأشهر الأخيرة من عمر إدارة أوباما، حيث الوقت المستقطع مناسبات روسية ثمينة لتسجيل الأهداف المباغتة. وهو، أيضاً، فشل غير مفاجئ لدى أيّ مراقب يضع علاقات واشنطن وموسكو في سياقاتها التقليدية طيلة عقود الحرب الباردة؛ وعلى امتداد ربع قرن بعد انطواء صفحة تلك الحرب، التي كانت افتراضية أصلاً؛ وفي عدادها، بالطبع، هذه الخواتيم البوتينية ـ الأوبامية، حيث تدور اللعبة بين عضّ الإصبع أو الدفع إلى المستنقع