الرئيسة \  واحة اللقاء  \  هذه الثورة وهي تستهل عامها السادس

هذه الثورة وهي تستهل عامها السادس

19.03.2016
بدرالدين عرودكي


القدس العربي
الخميس 17-3-2016
ما إن توقف القصف الروسي في المناطق التي لا تسيطر عليها ميليشيات النظام الأسدي وحلفاؤه الإيرانيون وذراعهم اللبنانية، وشعر السوريون لأول مرة منذ خمس سنوات بابتعاد القتل والتدمير ولو إلى حين، حتى خرجوا متظاهرين في نيف ومائة موقع حاملين علم الاستقلال، علم الثورة، ومنادين بمطالبهم أيام الثورة الأولى: الحرية، والكرامة، وإسقاط النظام.
وكما قمَعَ النظامُ الأسدي المظاهرات الأولى، حاولت "جبهة النصرة" أن تقمع المظاهرات الأخيرة وأن ترفع أعلامها وأن تعتقل المتظاهرين. حاولت، لكنها لم تنجح كل النجاح. فالمظاهرات استمرت، ثم ما لبث أهل معرة النعمان أن هاجموا مقرها وحرروا سجناءهم منه.
دلالتان بليغتان: أولاهما، أنَّ إنكار النظام الأسدي طوال السنوات الماضية وجودَ ثورةٍ ضده مع كل محاولاته كسر وقهر إرادة السوريين لم يتمكن من إخماد جذوة هذه الثورة وهذه الإرادة التي استعادت تعبيرها السلمي الواضح والصريح عما تريد تحقيقه. وثانيتهما، أن استماتة النظام في استثمار الجماعات المتطرفة واستغلال قدراتها كي يدرج نفسه ضمن معسكر المقاتلين ضد الإرهاب بدا وهو يبوء بالفشل داخلياً حين نبذ السوريون كل الرايات وحملوا علم الثورة، ويواجه العجز خارجياً حين لم يُعَبِّرُ أحدٌ في المجتمع الدولي، بمن فيهم حماته أو حلفاؤه، عن قناعته بهذا الزعم.
وعلى أن هاتين الدلالتين لم تكونا على موعد مع المراقبين الذين سبق لهم أن اعتبروا الثورة السورية في عداد المنسيات، فإنه لم يكن أيضاً مجرد صدفة بروزهما بقوة عشية بدء المفاوضات بين النظام الأسدي والمعارضة التي حدَّد جدول أعمالها التوافق الروسي الأمريكي وفرضها على الطرفين بمعزل عن أوروبا وعن المعنيين أنفسهم. مفاوضات تأتي في نهاية مرحلة عقدت خلالها عدة مؤتمرات في جنيف وفي فيينا تمهيداً لاستصدار القرار 2254 بها عن مجلس الأمن بالإجماع. دخلت روسيا مع موافقة أمريكية تامة بأسطولها الجوي والبحري والصاروخي من أجل تعديل ميزان القوى تمهيداً لهذه المفاوضات وللحل الذي يجب الوصول إليه بنهايتها. ولم تكن الأهداف المعلنة من هذا التدخل إلا لخلط الأوراق تمهيداً لتحقيق هذا الهدف الخفي الذي أخذت معالمه بالظهور مع إعلان الانسحاب الروسي الجزئي (الذي بدا مفاجئاً) من سوريا على النحو المذكور.
ما كان من الممكن الوصول إلى هذه المحطة الأولى والتي لن تكون الأخيرة على درب الآلام السوري لولا تضافر عوامل عديدة، شديدة التداخل، على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، طوال هذه السنوات الخمس. محلياً، انتهى النظام الأسدي رغم كل ما بذله من محاولات وحصل عليه من دعم إلى فقدان كل قدرة على المبادرة العسكرية بعد أن استبعد منذ البداية إمكان أيّ مبادرة سياسية، في حين لم تتوصل مختلف الهيئات والمجالس التي طمحت إلى تمثيل هذه الثورة، السياسية منها والعسكرية، إلى أن تتوحد من حول مشروع سياسي شامل يستجيب لمطالب الثورة وتطلعاتها من ناحية، وتفرضه بوصفه البديل الوحيد عن النظام الأسدي من ناحية أخرى.
وعلى الصعيد الإقليمي، انتهت كلّ من إيران وذراعها اللبنانية ومرتزقتها من أفغانستان والعراق إلى الفشل في تحقيق أي مكسب حاسم على الأرض يمكن أن تحصد به ما جاءت من أجله، في حين لم تتمكن القوى الإقليمية الأخرى، وخصوصاً التركية والسعودية والقطرية، من الحركة إلا ضمن وفي إطار ما تتيحه لها ارتباطاتها السياسية والاستراتيجية والقانونية على الصعيد الدولي. أما دولياً، فلم تفلح المؤتمرات التي عقدها الكبار في جنيف الأول والثاني، ولا ما حاولته الجامعة العربية بالتعاون مع الأمم المتحدة في أن تثني النظام الأسدي عما عقد العزم عليه منذ اليوم الأول للثورة والذي لخصه هذا الشعار : "الأسد أو لا أحد".
ولأسباب لا علاقة لها بشخص الأسد أو بطبيعة نظامه، وقفت روسيا إلى جانب النظام الأسدي وإيران في ظل وبالتوازي مع تواطئها الخفي مع الإدارة الأمريكية الذي سينكشف فيما بعد توافقاً. وهو توافق تجلى للمرة الأولى واضحاً إثر الاستنفار العسكري الذي أعلنته الإدارة الأمريكية بسبب استخدام النظام الأسدي للسلاح الكيمياوي، والذي ألغته ما إن اقترح الروس أن يتمَّ تسليم المخزون السوري من هذا السلاح بلا شروط!
على هذا النحو بدا الوضع وكأنه يستجيب لما تريده القوتان الروسية والأمريكية، على ما بينهما من اختلاف في المصالح والغايات. هكذا، لم يستيقظ ضمير المجتمع الدولي ما دامت مصالحه لم تُمَسَّ من قريب أو بعيد وما دام السوريون يقتلون أو يسجنون أو تدمر بيوتهم أو يهاجرون بالملايين إلى دول الجوار. لكنهم ما إن عبروا البحر بمئات الألوف مغامرين بأرواحهم نحو أوروبا وطالت العمليات الإرهابية التي حققها تنظيم الدولة قلب باريس حتى هرعت الدول الأوروبية إلى قرع ناقوس الخطر. فهبت حكوماتها تحاول وقف هذا الغزو غير المسبوق وتقاسم أعبائه ثم معالجة أسبابه بصورة أو بأخرى وهو الأمر الذي لم تكن من قبل مجمعة على طريقته لاسيما وأن الولايات المتحدة وروسيا قد احتكرتا الإشراف على القضية السورية وعلى العمل على حلها بما يستجيب أولاً وبقدر الإمكان لمصالحهما ثم لمصالح أوروبا، وفي غياب، وبمعزل عن صاحب القضية الأساس:الشعب السوري.
تسارع إيقاع العمل ووتيرته في المجال الدبلوماسي والسياسي والعسكري. تواجد روسي عسكري منذ الثلاثين من أيلول/سبتمبر الماضي لتغيير ميزان القوى على الأرض، واجتماعات فيينا المتوالية لإعداد الحل السياسي وتهيئة طرفيه، النظام والمعارضة، ثم قرار مجلس الأمن 2254 الذي وضع خطة العمل بإجماع أعضائه، وأخيراً اجتماعات جنيف.
في ضوء ما تفرضه هذه الوقائع اليوم، وأمام قرار دولي بإنهاء "الأزمة السورية"، لا تبدو إمكانات المناورة أو الخيارات كثيرة بين يدي طرفي المفاوضات التي بدأت. ولن يكون لأي ضرب من التذاكي أو الحماقة يصدر عن أحدهما من دور سوى أن يرتدّ صفعة أو إلغاء.
ومن الممكن بهذا الصدد التساؤل عما إذا كان الإعلان المفاجئ عن الانسحاب الروسي (الجزئي) من سوريا صفعة أريد بها تذكير النظام الأسدي بالحدود التي عليه أن يلتزم البقاء ضمنها!
ذلك أن قوتي الطرفين على مائدة المفوضات غير متساويتيْن.
فالنظام الأسدي لا يملك إلا "شرعية" رسمية وشكلية أُريدَ لها الاستمرار على الصعيد الدولي بانتظار ما سيأتي؛ بينما تنحصر قوته العسكرية في المرتزقة والميليشيات الخارجية التي تدعمه. كما أنه فقد مع بدء هذه المفاوضات الدعم السياسي الذي كانت تحظى به مواقفه من قبل إيران وروسيا خاصة بما أن الحلَّ السياسي الذي بات قراراً أمريكياً روسياً لن يستجيب بالضرورة لما أراد ولا يزال يريد أن يفرضه على السوريين.
أما قوى المعارضة التي اتحدت بعد أن جمعت لأول مرة فصائل سياسية وعسكرية فاعلة على الأرض ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، فهي تملك شرعية وليدة وغضة لاشك، إلا أنها قابلة للاتساع والرسوخ بمقدار ما ستثبت خلال هذه المفاوضات كفاءتها وقدرتها على حشد الشعب السوري الثائر وراءها لا من خلال تمسكها بالمبادئ التي خرج من أجلها ودفع ولا يزال يدفع الثمن باهظاً من أجل تحقيقها فحسب، بل كذلك بقدرتها على المناورة السياسية مستفيدة من مواضع الضعف العديدة لدى خصمها.
لن يكون من السهل التغلب أو القفز على ما قرره راعيا المفاوضات. لكن سيكون من الصعب على هذيْن الأخيريْن أن يفرضا ما يريدانه ولاسيما حين يخرج الشعب السوري مرة أخرى ليعلن تمسكه بما يطالب به ممثلوه بعد أن اكتسبوا الشرعية الحقيقية على مائدة المفاوضات.
٭ كاتب سوري