الرئيسة \  واحة اللقاء  \  " لا تذهبوا إلى جنيف" !

" لا تذهبوا إلى جنيف" !

30.01.2016
بكر صدقي



القدس العربي
الخميس 28/1/2016
هذا عنوان حملة أطلقها نشطاء سوريون معارضون على مواقع التواصل الاجتماعي، وعنوان افتتاحية موقع الجمهورية المعارض ليوم الثلاثاء، ويعكس رأياً عاماً أوسع لا يرى في " عملية جنيف"  بشروطها القائمة، أي فائدة ترجى، حتى لو كان الهدف الوحيد لها هو وقف القتال ونزيف الدم السوري الذي لم يعد يحتمل.
الواقع أن السياسة قلما تكترث بالاعتبار الأخير (وقف القتال ونزيف الدم) ما لم يكن للقوى الفاعلة مصلحة فيه. وتستند المعارضة الاجتماعية الواسعة لمشاركة المعارضة الممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات في محادثات جنيف، إلى ما تسرب عن اجتماع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع رئيس الهيئة رياض حجاب، ووصف بعض أعضائها مضمونه بـ" الكارثي" .
من المحتمل أن المحور السعودي ـ التركي ـ القطري دفع إلى السطح بالتسريبات المذكورة لتشكيل ضغط الساعات الأخيرة على طاولة المفاوضات التي أعلن المبعوث الأممي ديمستورا عن انعقادها يوم الجمعة 29 كانون الثاني، مما اضطر المبعوث الأمريكي مايكل راتني إلى إصدار بيانه " التوضيحي"  بشأن اجتماع كيري ـ حجاب. ومن المحتمل، بالدرجة نفسها، أن توضيحات راتني لم تكن إلا درءًا لحرج الإدارة الأمريكية أمام المضمون الكارثي فعلاً للاجتماع المذكور، بما يعنيه من قيام كيري بدور حامل رسائل زميله الروسي لافروف المشبعة بالتهديد والوعيد.
بعيداً عن هذه التكهنات، أظن أن عبارة " المضمون الكارثي"  تنطبق أصلاً على قرار مجلس الأمن 2254 الذي يشكل مرجعية المفاوضات المزمع إجراؤها في جنيف. فقبل كل شيء ربط هذا القرار وقف إطلاق النار (وهو جزئي لا يشمل " الحرب على الإرهاب" ) بـ" تقدم العملية السياسية" . هذا ابتزاز صريح بالقوة موجه إلى المعارضة: إما أن تتقدموا في الحل السياسي (وهو قد لا يعني " انتقالاً سياسيا"  على ما اقترح بيان جنيف 2012) بالشراكة مع النظام الكيماوي، وبدون أي ضمانات لرحيل رأس النظام حتى في نهاية " المرحلة الانتقالية" ، وإما استمرار الحرب بالشروط القائمة، أي استمرار سلاح الطيران الروسي في قتل وتدمير من تبقى من السوريين وما تبقى من سوريا.
الواقع أن الروسي حقق، في الأسابيع الأخيرة، " إنجازات"  دموية ملحوظة، إلى درجة أن منظمة العفو الدولية أصدرت تقريراً عن جرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا في سوريا باستهداف المدنيين والمنشآت الحيوية كالمستشفيات والمدارس، إضافة إلى مشاركة قوات برية روسية في استعادة مناطق في جبل التركمان، والشيخ مسكين في حوران، كانت قوات المعارضة تسيطر عليها.
ومن المحتمل أن وسيلة الضغط هذه هي الأكثر فعالية لإرغام المعارضة على المشاركة في مفاوضات عبثية في جنيف ليس لها إلا أن تشكل غطاء لتغيير الوقائع على الأرض. وهذه وقائع كارثية حقاً من زاوية نظر الكيان السوري: إنشاء قاعدتين جويتين في الحسكة والقامشلي، واحدة للولايات المتحدة وأخرى لروسيا، في الوقت الذي يجري فيه محور إيران ـ حزب الله تغييرات ديموغرافية لمصلحة سيناريو " سوريا المفيدة" ، ويسعى حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة صالح مسلم إلى أمر مماثل في تل أبيض وجوارها، بتشجيع من الولايات المتحدة وروسيا معاً إضافة إلى تعاطف أوروبي تقليدي مع المطالب الكردية.
على رغم كل ما ذكر، لم يكتف الروسي، وسعى بكل الزخم الذي امتلكه من سيطرته على الأجواء السورية وتسليم العالم له بـ" حقه"  في تحديد مستقبل هذا البلد، إلى التدخل في تشكيل الوفد المعارض الذي من المفترض أن يفاوض وفد النظام الكيماوي، فاستل من جيبه ما سمي بالقائمة الروسية التي تضمنت، إضافة إلى صالح مسلم، أشخاصاً من نوع هيثم مناع الذي زعم سيطرته على 16 في المئة من الأراضي السورية وطالب الأمم المتحدة بتمثيل يتناسب وهذه الحصة، أو قدري جميل الذي أدخله النظام الكيماوي في حكومته أثناء تدميره لسوريا ثم قام بطرده لاكتشافه أنه اكثر ولاء للمافيا الروسية الحاكمة من ولائه له. وبمناسبة الحديث عن 16٪ خاصة هيثم مناع، يجب تذكيره بأن تنظيم داعش يسيطر على نصف مساحة سوريا. ولو كان معيار السيطرة على الأرض هو المعتمد في إقامة طاولة المفاوضات، لتوجب أن تجلس بضعة وفود أمام وفد داعش الأكبر، بحيث يكون للنظام الكيماوي نسبة 18٪ فقط، وتتوزع وفود صغيرة أخرى نسبة 14٪ بينها وفد كبير نسبياً لجبهة النصرة، ذراع القاعدة في سوريا. سيكون هذا " الطائف السوري"  المفترض هنا عادلاً حقاً، بمنظور موازين القوة، مع نتيجة واضحة هي: سوريا إلى الجحيم.
أما والهوى الدولي الغالب الذي أنتج القرار 2254 يعمل تحت شعار الحرب على الإرهاب المعرف بداعش ومنظمة القاعدة، متجاهلاً أن أساس المسألة السورية هو أن غالبية كبرى من الشعب لم تعد في وارد الاستمرار تحت سلطة نظام سلالي طائفي مافيوي مدمر، بات أخيراً بمثابة " حكومة فيشي"  تابعة للمحتل الروسي، وتتوق إلى التخلص منه لبناء سوريا جديدة ديمقراطية تعددية… فقد أصبح لأمثال هيثم مناع الذي طالما قدم للنظام الكيماوي ما يتستر به من ذرائع لقمع ثورة الشعب السلمية منذ أسابيعها الأولى، أن يتحدثوا بالنيابة عن " قوات حماية الشعب"  التي يستقوون بها على المعارضة السورية عن 16٪ وعن حقهم في المشاركة في تحديد مستقبل سوريا. ولولا الهوس المرضي التركي من " الخطر الكردي"  على أمنها القومي، لما تخلى الروس عن فرض صالح مسلم على الوفد المفاوض.
لا تُحسد الهيئة العليا للمفاوضات على الخيارات الكارثية المتوفرة وحدها: إما المشاركة في مفاوضات تبدو مهمتها الوحيدة استعادة النظام لشرعية فقدها في الداخل والخارج، وإما مقاطعة طاولة جنيف والدخول في عزلة خانقة، في الوقت الذي يواصل فيه الروس تدمير ما عجز النظام عن تدميره. بعبارة أخرى: الاستسلام أو الموت.
ورقة قوة وحيدة تمتلكها المعارضة وهي استحالة قيام تسوية بغيابها. من هنا يستمد شعار " لا تذهبوا إلى جنيف"  قوته ومشروعيته، حتى لو كان الثمن تدمير سوريا التي لم تكن يوماً لأهلها منذ نحو خمسين عاماً.
٭ كاتب سوري