الرئيسة \  مشاركات  \  'القيصر الجديد' واستعراض القوة من حلب إلى سوتشي

'القيصر الجديد' واستعراض القوة من حلب إلى سوتشي

09.02.2014
الدكتور خطار أبو دياب




إعلان ولادة 'روسيا الجديدة' البوتينية في تلك المنطقة من القوقاز المطلة على البحر الأسود يشكل تكريسا غير معلن لعودة القيصرية بشكلها العصري إلى روسيا.
لو كان الكاتب الروسي الخالد ليون تولستوي موجودا، لكان صرخ ضد سلطان القوة والمال في الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي، التي لا ترمز للقاء رياضي سلمي بين الأمم فحسب، بل لإبراز قوة موسكو في محيطها والعالم. ولو أراد عدوّ القياصرة الذهاب إلى أبعد من ذلك، لتذكر الألعاب الأولمبية في برلين في العام 1936، تحت إشراف هتلر.
ولكن فلاديمير بوتين لن يهتم لهذا الجانب من تراث روسيا المشرق في السعي إلى التحرر، لأنه يراهن على حدث سوتشي ويرى فيه كما قال بالضبط "الفرصة لروسيا من أجل استعادة فخرها الضائع وتقوية الروح المعنوية للأمة عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والعمليات العسكرية في القوقاز".
إن إعلان ولادة “روسيا الجديدة” البوتينية في تلك المنطقة من القوقاز المطلّة على البحر الأسود، يشكل تكريسا غير معلن لعودة القيصرية بشكلها العصري إلى روسيا، وهذا الهدف عمل له فلاديمير بوتين عبر ممارسات بدأت منذ أوائل هذا القرن كي تعود روسيا إلى قلب اللعبة الدولية من جوارها المباشر إلى الشرق الأوسط، ومن خلال تقديمها كبلد قادر وكقوة اقتصادية أرست أسس التنمية المستقبلية.
خلال مساره السياسي نجح بوتين في ترويض التطورات والوقائع السياسية لكي تكون في صالح تحقيق مشروعه الشخصي في أن يصبح قيصرا على دولة لابد من أن تستعيد دورها المفقود و”جبروتها”، وإلا فسينهار الحلم كله كما انهارت القيصرية عام 1917، وبعدها الاتحاد السوفيتي الذي كان بوتين أحد ضباط جهازه المخابراتي.
على ضوء ما حصل في السنوات الأخيرة بعد الحرب الروسية- الجورجية في 2008، وبعد التطورات في سوريا وإيران، والتراجع الأميركي في ظل إدارة أوباما، يبدو أن زمن “العولمة الشمولية” المتزامن مع مرحلة الفوضى الاستراتيجية في العلاقات الدولية، لن يدفع باتجاه التطور الإنساني والعالم الأفضل، بل نشهد العودة إلى الهويات القاتلة على تنوعها، وإلى “عصر الامبراطوريات”.
في هكذا سياق، يبدو أن التاريخ يقف إلى جانب بوتين وقناعاته النظرية وحماسته القومية، فأمته حكمت شعوبا لقرون عديدة وأخضعت ممالك وبلدانا وهزمت أكبر جيوش العالم وقادته، إذ تجمّدت جيوش نابليون فوق أراضيها، وتلاشى حلم هتلر في قيادة العالم حين قرر عبور حدودها الشاسعة.
وهذا التعلق بأمجاد الماضي والطموح في رسم معالم الحاضر، دفع بوتين لاعب الجودو والهوكي إلى خوض لعبة شطرنج سياسية تمتد من القوقاز إلى البلطيق وبلاد الشام، وتستهدف مواجهة واشنطن عبر منعها من تهديد الجوار الروسي القريب ومشاكستها على مسارح دولية أخرى.
بالإضافة إلى الدوافع الكلاسيكية في صياغة وتبرير السياسة السورية لموسكو (سوريا آخر نقطة ارتكاز وآخر حليف في الشرق الأوسط، أبرز مشتري الأسلحة الروسية)، فإن عملية حلف شمال الأطلسي في ليبيا تحت غطاء دولي، شكّلت حجّة لموسكو كي تعمل للحد من تكرار سيناريوهات مماثلة تعزز النفوذ الغربي والأطلسي دون مراعاة المصالح الروسية. وعدا رفض نظرية إسقاط الأنظمة بالقوة واستحضار معجم الكنيسة الأرثوذكسية للكلام عن حماية المسيحيين والأقليات، يبدو أن الهم الروسي الأول مادي اقتصادي وذو صلة بالنفوذ السياسي، أكثر منه اهتماما باحترام القانون الدولي التقليدي.
وهذا الحذر الروسي من انعكاسات ما سمي بحركات الربيع العربي، يتصل بالنظرة إلى الشرق الأوسط المترابط مع آسيا الوسطى الحديقة الخلفية، لما كان يسمى يوما “الإمبراطورية الحمراء”. وهنا يتلاقى الحنين التاريخي إلى أهمية الوصول إلى المياه الدافئة مع التوجّس من انتصار الإسلام السياسي من سوريا إلى شمال القوقاز (روسيا نفسها فيها حوالي 20 مليون مسلم أي بحدود 14 بالمئة من السكان).
وحسب وجهة نظر صناع القرار في موسكو تحتل الساحة السورية، موقعا فريدا على خارطة الطموحات الروسية، إذ يتيح المرور عبر الخط الاستراتيجي نحو البحر الأبيض المتوسط الوصول إلى المحيط الهندي وحماية أمن الخاصرة الجنوبية لروسيا، وهكذا فإن القاعدة البحرية في طرطوس وقاعدة التنصّت في كسب وغيرها من القواعد السرية، تشكل مواقع مثالية في مواجهة منظومة حلف شمال الأطلسي.
وتحاول روسيا بأي ثمن التشبث بموطئ قدم في شرق المتوسط الذي سيصبح من مراكز إنتاج الغاز والطاقة، وبموقع تتمكن من خلاله إثبات وجودها كقوة كبرى تعود بزخم إلى المسرح العالمي منذ 2008.
ولذا لا تتورع موسكو عن التوغل في سياسة التعطيل والإيذاء وتجميد الموقف رغم المأساة الإنسانية المروّعة ومخاطر اهتزاز الاستقرار في الإقليم، لأن ذلك يعزز قدرات تأثير روسيا ويجبر القوة العظمى الوحيدة، أي الولايات المتحدة الأميركية، على عقد ترتيبات معها أو العودة يوما إلى الثنائية الدولية أقله حيال الأزمة السورية. وبالفعل حصل ذلك في اتفاق إزالة الأسلحة الكيميائية السورية.
بيد أن المريع الآن بعد بدايات مسار جنيف 2 هو استمرار الموقف الروسي المتعنت، وبرز ذلك من خلال زيارة وفد الائتلاف المعارض هذا الأسبوع إلى موسكو واصطدامه بالجدار الروسي إلى حد الطلب “بصفاقة” من المعارضة السورية التنصل من مشروع قرار عربي أمام الأمم المتحدة، يدين استمرار الكارثة الإنسانية في سوريا.
وبينما تميّزت دورة سوتشي ببذخ في الإنفاق المالي لإبراز الأبّهة الروسية في منطقة جغرافية عانت شعوبها من حروب القياصرة منذ القرن التاسع عشر، يتم تدمير حلب السورية بالسلاح وبالذخيرة الروسية في هذه الأثناء.
بالطبع لن يطلب القيصر الجديد ولو يوم هدنة (وقف إطلاق النار) خلال الألعاب الأولمبية لكي تتنفس سوريا الصعداء. ما يهمه هو حجز نداء الحرية على ضفاف المتوسط لكي لا يخترق البحار الأخرى. لكن ما يحصل منذ عدة أشهر في كييف، عاصمة أوكرانيا هذه الجمهورية السوفياتية السابقة، يبيّن أن طموحات بوتين في العودة إلى العصر الامبراطوري، ستصطدم بنداء الحرية الصادر من أعماق الشعوب.
في روسيا اليوم حدثت تغييرات كبيرة لن تسمح بتراجع البلاد عن توجهها نحو بناء نظام ديمقراطي يسمح بتوفير الحريات الشخصية التي حرم منها الروس لعقود طويلة. لهذا هناك سؤال مشروع: هل سيقبل الروس بربط مصيرهم ومصير بلادهم بمشروع بوتين الشخصي وحلمه القيصري، أو هل سيغلبون طموحاتهم في نقل بلادهم إلى عصر التحديث؟
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك- باريس