الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الأزمة السورية في لحظة الصراع الدولي

الأزمة السورية في لحظة الصراع الدولي

27.04.2013
غازي دحمان

المستقبل
السبت 27/4/2013
دبلوماسية تأجيل إنفجار الأزمات أو إغماض العين عنها وتركها تنتج حلولها بذاتها، أو التعيش على الفرص التي تمنحها. هذا النمط الدبلوماسي الذي تنحاز له إدارة الرئيس الأميركي باراك اوباما، وتقود مراكز صنع القرار الدولية خلفه، سيؤسس لوضع يعيش فيه العالم في قلب البركان، وليس على فوهته.
مع إدارة اوباما تنحط السياسة الأميركية إلى مستويات من التخلف تقارب فيه مستوى أداء مثيلاتها في العالم الثالث، ولعل من أهم مؤشرات هذا الإنحدار، خروج هذه السياسة عن السياقات العلمية التي تميز سياسات الدول المتقدمة من سواها، كالقدرة على تحليل هذه السياسات وبناء تقديرات مواقف خاصة بها ومعاينة خياراتها وممكناتها، أي تحليل العملية السياسية التي تؤطر هذه العناصر بداخلها، حيث بات من الصعب تقدير موقف حول إستجابة الإدارة الأميركيه تجاه أي من النزاعات الحاصلة على مستوى العالم في ظل فوضى صراعات الرؤى التي تزخر بها مؤسسات الحكم في واشنطن.
ومستوى التخلف هذا لا يتأتى، فقط، من إفتقاد القدرة على تحليل هذه السياسة، بل لعله صار يطال عملية صناعة السياسة ذاتها في الإدارة الأميركية نفسها، والتي باتت، وبخاصة على مستوى السياسة الخارجية، وهي في الحالة الأميركية جزء من السياسة الداخلية بحكم إنتشار المصالح الأميركية على رقعة العالم وتشابك الداخلي بالخارجي في ذلك، باتت لا تختلف عن عمليات صنع السياسة في البلدان المتخلفة ذات الطابع التسلطي الأوليغارشي، وما يؤكد هذه الخلاصة الصراع الجاري في أروقة الإدارة الأميركية ومؤسسات الحكم الأميركي عموما حول سورية وعدم قدرتها على التأثير في قرار الرئيس الأميركي أو زحزحتها لمواقفه.
لعل هذا ما يجعل السياسة الأميركية في عهد باراك اوباما تفتقد ميزتها الأساسية التي ميزتها في القرن العشرين، والتي جعلت منها أعظم قوة على وجه الأرض، وهو امتلاكها زمام المبادرة، وإن كانت سياسات واشنطن في هذا السياق قد وقعت في مطبات الخطأ نتيجة نقص في التقدير أو الوقوع تحت تأثير هيمنة الرئيس وبعض النخب ذات المصالح المعينة، لكنها حولت أميركا إلى قلب العالم ومحركة إتجاهاته وصانعة أحداثه على مدار ما يقرب من قرن، من مبادرة ويلسون الشهيرة إلى مشروع مارشال وعملية السلام في الشرق الأوسط، مروراً بالحروب الكورية والفيتنامية والعراقية.
صحيح أن الأزمة السورية كشفت هذا العطل والخلل السياسي الأميركي ووضحته بشكل كبير، حتى ليمكن القول إن الأزمة السورية أعادت تعريف الدور الأميركي على المستوى العالمي، لكن هذا التراجع في الحضور كان يحاول أن يعبر عن نفسه منذ مدة، لدرجة أنه في ليبيا كان دوراً خافتاً ومختبئاً خلف الزخم الأوروبي. وفي الواقع وحتى لا نظلم إدارة الرئيس اوباما فإن الوقائع تشير إلى أن هذه الحالة هي نتيجة انعكاس مزاج أميركي بات يميل بقوة إلى عدم زج أميركا في أزمات ومشاكل العالم، وربما هذا ما يقوي موقف اوباما، أو حتى يمنعه من إتخاذ قرارات مهمة بهذا الخصوص.
من الواضح تماماً أن صناع سياسات الدول المنافسة لأميركا أدركوا هذا العطل وباتوا يشتغلون على أساسه، وما يدلل على ذلك هذا التواتر المتناسق لتفجير الأزمات في أكثر من مكان في العالم دفعة واحدة، فيما يبدو أنه محاولة لإغراق السياسة الأميركية المترددة بمزيد من الأزمات. لكن الإشكالية تظل في نمط الإستجابة الأميركي المتردد، فهو لا يعدو سوى استثمار في الخراب واستثمار في المتاعب الأميركية القادمة، ذلك أن العجز في القراءة الإستراتيجية للمتغيرات والتطورات الحاصلة لن يتأخر كثيراً قبل أن يظهر على شكل أزمات تواجهها الولايات المتحدة الأميركية فيما خص مصالحها المنتشرة في العالم، وفق منطق مبدأ "جناح الفراشة" في الفيزياء. الذي يرصد أثر التداعيات الفيزيائية، مهما كانت صغيرة، على الحركة الكونية،"إذا قامت فراشة بهز جناحيها على حافة المياه في الصين، فإنها قد تتسبب في وقوع أعاصير في البرازيل أو في جزر الكاريبي". ذلك أن التاريخ الإنساني مليء بأحداث لها من التداعيات والعواقب ما يتخطى آثارها المباشرة المتوقعة، بما توجده وتستحدثه من تطورات وتغيرات جذرية على البنى والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولو بعد حين، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي.
المشكلة أن هذه السياسة الأميركية التي تؤجل حل الأزمات، فيما تعمل القوى المنافسة لأميركا على تزخيم هذه المشاكل وتفعيل دينامياتها لتتفاقم في وجه أميركا وتضعفها مع الزمن، وهذه لن تتم إلا من خلال التضحية بساحات معينة تشكل خطوط تماس الصراع بين أميركا وهذه القوى، وخاصة وأن هذه القوى غير قادرة على ضرب المصالح الأميركية بشكل مباشر فتعمد لتعويض ذلك على خلق أزمات على حافة هذه المصالح في محاولة لدفع واشنطن إلى الرضوخ لمطالب هذه القوى لتغيير تراتبية سلم القوى في صناعة السياسات الدولية، بإعتبار أن أميركا هي الفاعل الأكبر والمؤثر في هيكلية النظام العالمي الحالي.
سورية أرض كاشفة لهذه السياسات، فهي بالمعنى المباشر لمفهوم المصالح الأميركية تقع خارج هذا الإطار، وهي بالمعيار الآخر لروسيا وإيران ساحة حافة لتلك المصالح، ووقوع سورية بين حدي الإدراك الأميركي الضيق والنهم الروسي الإيراني، حوّلها إلى أرض خراب معمم، وينذر بتحويلها إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، السياسات الأميركية الضعيفة اكتفت بردة الفعل تجاه الحدث السوري مثل تصنيف "جبهة النصرة" في قائمة المنظمات الإرهابية، أو في أحسن الأحوال إقامة مناطق عازلة في الجنوب وحصر الهدف الإستراتيجي من ورائها بحماية إسرائيل والمملكة الأردنية، وحصر الخراب والآثار السلبية للحدث في أماكن خارج الحيز القريب من حدود إسرائيل والأردن، أو البحث عن الجهات غير المتطرفة في كتائب المعارضة المسلحة من أجل تزويدها بأسلحة غير فتاكة!، وفي ذلك سذاجة غير مسبوقة، فكما أنه يصعب حصر الخراب في مناطق ما بعد الجنوب السوري بالنظر للتداخل الجغرافي والديمغرافي بحيث يبدو الفصل عملية شبه مستحيلة ولوجود عملية تغذية لا يمكن قطعها، كذلك لا يمكن فصل التشابك المعقد بين كتائب الجيش الحر بين إسلامييه ومعتدليه وحتى متطرفيه في ميدان المعركة لوجود حالة إعتمادية متكاملة، ومن شأن محاولة تفكيكها تدمير الثورة برمتها.
في مقابل ذلك، كل الخيارات الأميركية التي يجري ترويجها في الإعلام وفي بعض مؤسسات الحكم الأميركية تجاه سورية، من خطط عسكرية وسواها، لا تعدو مجرد بيع وقت للحلفاء وبيع أوهام للثوار السوريين، ما دامت تفعيل كل هذه الخيارات مرهون بالعواقب التي قد تطرأ، فالمقصود يصبح إبراز هذه العوائق وتحويلها إلى حائط سد بوجه منتقدي السياسات الأميركية، إذ من السهل دائما العثور على العوائق وتصنيعها إن لزم الأمر.
تمتاز سياسات الدول العظمى برؤيويتها وحساباتها الإستراتيجية البعيدة المدى، وذلك بقصد إبقاء منظومات مصالحها بعيدة عن المخاطر، وتبدو واشنطن تبتعد شيئا فشيئا عن هذا الأمر، وهي إنتهت في عهد باراك اوباما الى فرح طفولي بزيادة كمية النفط المستخلص من الصخور الزيتية، بعد أن كانت تحلم بأن يكون لها إستثمار في كل نقطة نفط يتم إنتاجها في العالم!.