الرئيسة \  واحة اللقاء  \  الحرب ليست ديبلوماسية

الحرب ليست ديبلوماسية

22.04.2013
محمد السمّاك

المستقبل
الاثنين 22/4/2013
يشكل سقوط جدار برلين في عام 1989 إعلاناً بانتهاء الحرب العالمية الثانية، كرس هذا الإعلان قيام الاتحاد الأوروبي وانكفاء دور حلف شمال الأطلسي وسقوط حلف وارسو. غير ان ما يجري في الجبهة الشرقية في آسيا- يشير الى العكس. فالجدار الفاصل بين الكوريتين الشمالية والجنوبية يزداد ارتفاعاً، ما يعني ان جبهة الحرب العالمية الثانية هناك تتحضر لجولة جديدة، وان الحرب الكورية وهي من مخلفاتها- على وشك أن تستأنف من جديد.
تعتبر الحرب العالمية الثانية أكثر الحروب دموية التي شهدتها الانسانية على الإطلاق. فقد أدت تلك الحرب الى مقتل 70 مليون انسان. اي بمعدل 30 ألف انسان يومياً طوال سنوات الحرب التي امتدت من عام 1939 حتى عام 1945.
كان ثلثا ضحايا تلك الحرب من المدنيين. حتى ان بولندا وحدها خسرت 16 بالمئة من سكانها. أما ألمانيا التي أشعلت نار الحرب، فقد خسرت عشر سكانها و 30 بالمئة من عناصر جيشها.
لم تكن أوروبا وحدها مسرح الحرب، ولم يكن الأوروبيون وحدهم ضحاياها. ففي جبهة الشرق الأقصى خسر الصينيون 17 مليوناً. وخسر الروس في الجبهتين الأوروبية والآسيوية 27 مليوناً. وتوجت تلك الحرب مآسيها الانسانية بإلقاء القنبلتين النوويتين الأميركيتين على هيروشيما وناكازاغي في اليابان في الوقت الذي كانت طوكيو تبحث شروط الاستسلام الى الولايات المتحدة، كانت هذه المحصلة الرهيبة من الخسائر البشرية نتيجة لسلسلة من الأخطاء السياسية.
الخطأ الأول ارتكبه أدولف هتلر عندما اجتاح بولندا. كان هتلر يعتقد أن أوروبا تعرف ما يكفي عن حقائق قوته العسكرية، بحيث انها لن تجرؤ على اتخاذ أي موقف للدفاع عنها.
والخطأ الثاني ارتكبته فرنسا وبريطانيا عندما قررتا اعلان الحرب على ألمانيا رداً على اجتياح بولندا. فقد كانت الدولتان اللتان لم تكونا مستعدتين للحرب ولا راغبتين فيها، تعتقدان ان مجرد اعلان الحرب سيحمل هتلر على الانسحاب من بولندا. وهكذا تكامل خطأ حساب ألمانيا مع خطأ حساب فرنسا وبريطانيا، وكان ذلك بمثابة التقاء النار والبارود ما ادى الى تفجر الحرب على نطاق واسع.
الخطأ الثالث ارتكبه اليابانيون والألمان عندما بلغ بهما الغرور العسكري والشعور بفائض القوة الى حد اعلان الحرب على الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة معاً،
لم تحسب طوكيو ولا برلين القوة البشرية لدى الأميركان والروس. ولم تحسبا لقوتهما الصناعية التي تحولت للانتاج الحربي، ولم تحسبا كذلك لثرواتهما الطبيعية التي تمكنهما من الانتاج من دون الحاجة الى الاستيراد من الخارج.
كان هتلر يتهكم في عام 1940 على الولايات المتحدة بقوله: "ليست أميركا سوى ملكات جمال، وأصحاب ملايين، واحصاءات غبية وهوليود". غير ان هذه الأميركا الهوليودية، وبعد الاجتياح الألماني لروسيا، وبعد العدوان الياباني على بيرل هاربور، تحولت في عام 1941 الى مصنع كبير للانتاج الحربي. فزاد انتاجها على انتاج دول المحور الثلاث (ألمانيا وايطاليا واليابان) مجتمعة، وفي عام 1944 أصبحت الولايات المتحدة تنتج طائرة حربية كل خمس دقائق، وخمسين سفينة شحن كل يوم، وثماني حاملات طائرات كل شهر. فقد تحولت مصانع انتاج المكانس الهوائية الى انتاج الأقنعة المضادة للغازات، وتحولت مصانع انتاج الاحذية الى انتاج الحشوات الواقية داخل القبعات الفولاذية، كما تحولت مصانع انتاج شفرات الحلاقة الى انتاج قذائف المدفعية.
لقد كانت حسابات هتلر خاطئة، ودفع ثمن أخطائه إبادة ثلث الشعب الألماني وتدمير معظم مدن ألمانيا, وقد ادى هذا الخطأ في الحساب وسوء التقدير الى وقوع خلل كبير في ميزان القوى بين قوى التحالف الألماني الياباني، وقوى التحالف السوفياتي الأميركي الأوروبي. وكان ثمن الخطأ فادحاً جداً.
الخطأ الرابع ارتكبه اليابانيون عندما حاولوا الانطلاق من منشوريا المحتلة لاجتياح مناطق في الاتحاد السوفياتي صيف 1939، فقد استخف اليابانيون بقدرة القوات السوفياتية التي كانت بقيادة الجنرال جيوجي جوكوف. كان اليابانيون يعتقدون ان الجنرال ستالين مشغول بالحرب على الجبهة الأوروبية، وانه ليس قادراً على القتال في الجبهة الآسيوية في الوقت ذاته، واعتقدوا أن ذلك يوفر لهم الفرصة للتوسع مستغلين عدم استعداد السوفيات للحرب على جبهتين معاً. ولكن جوكوف خيب آمالهم بقوة صمود قواته وتكتيكاته العسكرية الجريئة.
وتوفرت لهم الفرصة في عام 1941 عندما كانت القوات الألمانية تغزو الاتحاد السوفياتي في إطار حملة بربروسا ولكن من دون نتيجة أيضاً. ولما اشتد قصف قوات الحلفاء على المدن الألمانية اضطرت القيادة الألمانية الى سحب طائراتها العسكرية من الجبهة الروسية لمواجهة الطائرات المغيرة. وقد قدم هذا التحول فرصة للطيران السوفياتي للتحرك على الجبهتين الآسيوية والأوروبية خلافاً لحسابات القوات اليابانية أيضاً،
دفعت شعوب الدول المتقاتلة ثمن كل هذه الأخطاء وغيرها- غالياً جداً، فقد عمّت المجاعة حتى اضطر مئات الآلاف من الناس الى العيش على أكل لحوم البشر.
وقد عرفت مدينة ليننغراد هذه الظاهرة المريعة على نطاق واسع، واعتقل أكثر من ألفي شخص من أهل المدينة بتهمة "التجارة بلحوم البشر". فقد كان هؤلاء "التجار" يسطون على جثث القتلى في المستشفيات ويقطعونها ارباً، ثم يبيعونها كمصدر أساسي للغذاء، ومعظم تلك الجثث كانت للجنود الألمان وحتى للجنود الروس. ولعل أكثر ما يثيرالهلع والاشمئزاز هو ما تؤكده الوثائق الرسمية من أن بعض العائلات بلغ بها الجوع ما اضطرها الى قتل أطفالها وأكل لحومهم!!
فالحسابات الخاطئة التي ارتبكها السياسيون في كبرى عواصم القرار، دفع ثمنها الناس الأبرياء الذين قتل منهم سبعون مليوناً، وعاش ملايين آخرين مكرهين على لحوم البشر!! ومن ثمن تلك الاخطاء أيضاً، جرائم الاغتصاب التي مارسها اليابانيون في الصين وكوريا، إذ يقدر عدد ضحايا الاغتصاب بمئات الآلاف من النساء الصينيات والكوريات. فقد استخدمت القوات اليابانية عشرة آلاف امرأة كورية للترفيه الجنسي عن الجنود، كما مارسها الروس في ألمانيا وهم في طريقهم الى احتلال برلين. وتؤكد الدراسات الاحصائية ان عمليات الاغتصاب شملت مليوني امرأة وفتاة ألمانية.
لقد كانت الحرب العالمية الثانية حرب ابادة متبادلة، فقد حولت كل من ألمانيا واليابان مجتمعها الى مجتمع عسكري يمجد الحرب ويقلل من أهمية الحياة البشرية، ويؤمن بالولاء المطلق للدولة، وهو المجتمع الذي تصنعه اسرائيل اليوم ايضاً، وهو المجتمع الذي يجعل من القتل هدفاً في حد ذاته وليس مجرد وسيلة، ولذلك كانت عمليات القتل ترتكب بسعادة ونشوة على غرار ما فعله النازيون بيهود أوروبا من خلال مشروع "الحل النهائي للمشكلة اليهودية"؟!,. وهو ما يفعله الاسرائيليون اليوم بالفلسطينيين.
أحد "رجال" الحرب العالمية الثانية بول فوسل وكان ضابطاً في الجيش الأميركي وضع كتاباً عن تجربته العسكرية أثناء الحرب عنوانه: "الحرب الكبرى والذاكرة المعاصرة"، وصف فيه كيف أن الانسان يتحول الى رقم، ثم الى مجموعة من قطع الغيار، وكيف "ان العدو يصبح حيواناً يستباح ذبحه بوحشية جنونية وبسادية مفرطة "، ويسخر فوسل من الاوصاف التي تمجّد الحرب والمقاتلين ويقول ان الحرب العالمية اعتبرت حرباً عادلة وضرورية وجيدة بعد ان انتهكت كل القوانين الدولية والأعراف الانسانية. أما بالنسبة الى معظم الرجال الذين اقتيدوا الى جبهات القتال، فقد كانت الحرب عديمة الجدوى وبلا معنى. فمن أجل رجلين فقط كانا من العائلة الملكية النمسوية، قتلا في صربيا (سيراجيفو)، نشبت الحرب العالمية الأولى التي أدت الى قتل ثمانية ملايين انسان. ويتهكم فوسل حتى على نفسه ويقول انه كان يقاتل ويقتل العشرات يومياً وهو يحمل الانجيل في جيبه تبركاً، من دون أن يعي ان إحدى الوصايا العشر تقول: لا تقتل، وتدعو حتى الى محبة العدو!!
ويذكر فوسل في كتابه ان الهمّ الأول للجندي أثناء الحرب هو العودة الى الوطن واللقاء مع العائلة من جديد، لكن هذه المشاعر الانسانية كانت تتلاشى امام الواقع وهو "اذا لم تقتل فانك سوف تُقتل".
وبالفعل فان الوثائق السوفياتية الرسمية كشفت عن أن 300 ألف جندي سوفياتي قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية على يد قادتهم العسكريين السوفيات من أجل هدف واحد؛ وهو تخويف بقية الجنود وردعهم عن الهرب من جبهات القتال، فكان الجندي السوفياتي كغيره من جنود القوى المتقاتلة الاخرى- يدرك انه اذا أدار ظهره للحرب فان مصيره الاعدام رمياً بالرصاص. وبالتالي فانه سوف يكون ضحية جديدة أو رقماً اضافياً الى سجل السبعين مليون قتيل من ضحايا الحرب!!
واليوم تقف كوريا الشمالية على حافة الحرب من جديد مع جارتها (شقيقتها) الجنوبية، وتالياً مع الولايات المتحدة. وهي تدرك ان واشنطن التي تحسن التحدث عن القيم الانسانية، تحسن أيضاً استخدام أعنف أنواع الأسلحة وأشدها فتكاً عندما يتعلق الأمر بمصالحها الستراتيجية، ولا تزال الكارثة الانسانية التي حلت بمدينتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان ماثلة في الضمير الانساني حتى اليوم، فقد تعرضت المدينتان للقصف النووي رغم ان اليابان كانت تفاوض على شروط الاستسلام، فماذا تتوقع كوريا الشمالية التي تهدد الولايات المتحدة بسلاحها النووي الجديد؟