الرئيسة \  واحة اللقاء  \  بين الحلم بالحرية والقابلية للاستعباد

بين الحلم بالحرية والقابلية للاستعباد

07.12.2015
وحيد عبدالمجيد



الحياة
الاحد 6/12/2015
الفرق كبير بين فرض إجراءات قانونية استثنائية موقتة في فرنسا عقب هجمات باريس الأخيرة، وحال الاستثناء المستمرة فعلياً في بعض بلدان منطقتنا وغيرها. فقد وصل تطور الديموقراطية في كثير من الدول الغربية إلى مستوى لا يسمح بالارتداد الذي حدث في بعضها في بداية تحرك شعوبها سعياً إلى التحرر من الاستعباد السياسي والاجتماعي. ويختلف ذلك عن الوضع في بلاد لم يبدأ فيها هذا التحرك، أو بدأ وأعقبه ارتداد سريع إلى الوراء، كما حال بعض بلدان "الربيع العربي" كمصر وتونس.
ويعيد هذا الارتداد إثارة سؤال قديم عن أسباب تخلي قطاع واسع في مجتمع ما عن حلمه بحرية شارك لأجلها في ثورة أو انتفاضة، وقبوله سلطة مطلقة مرة أخرى.
السؤال مثار منذ منتصف القرن التاسع عشر عندما تخلى قسم كبير في المجتمع الفرنسي عن حلمه بالحرية بعد ثورتين من أكبر ثورات التاريخ (في 1789 و1848)، وخضع لديكتاتورية لويس بونابرت في 1852. لكن الأساس يعود إلى 1802 حين أيد كثير من أنصار الحرية الفرنسيين إلغاء مرسوم حظر الرق الذي كان بعضهم قد ناضل لأجله حتى أُصدر في 1794.
وهناك إجابتان مبكرتان جداً عن هذا السؤال لا تزال لكل منهما أهميته، على رغم اختلافهما، وتغير العالم كله بعد أكثر من قرن ونصف على طرحهما. أجاب كارل ماركس في "18 برومير: لويس بونابرت"، الذي نُشر أولاً في مجلة فكرية عام 1852 ثم طُبع في كُتيب، بطريقة مزج فيها بين منهجه الطبقي وأحد الاقترابات التي صارت بعد ذلك جزءاً من علم النفس الاجتماعي. فقد فسر ما حدث بتغير موقف القسم الأكبر من البورجوازية الصاعدة، هلعاً من صعود الطبقة العاملة في أول ظهور سياسي منظَّم لها في التاريخ، إلى جانب استغلال بونابرت إحباط قطاع أوسع في المجتمع والتلاعب بمشاعره.
وفي 1856 قدم ألكسيس دي توكفيل إجابة ثانية في كتابه "النظام القديم والثورة" قد يجوز تلخيصها بمصطلحات عصرنا بأن ضعف الوعي العام (الذي أسماه التربية السياسية) يُسهّل قبول الاستعباد السياسي. فرأى أن اضطراب الأوضاع بعد الثورات الديموقراطية يعود إلى افتقاد "التربية السياسية الحقة"، الأمر الذي يُسهّل الانتقال من "تمجيد الحرية قولاً إلى الغوص في العبودية فعلاً".
وما زال في إجابتي الفيلسوف وعالم الاجتماع اللذين دعما ثورة 1848، وعمل ثانيهما وزيراً لخارجية حكومة تلك الثورة القصيرة العمر، ما يساهم في تفسير التخلي عن الحلم بالحرية.
كما تفيد الإجابتان لفهم بعض جوانب ما حدث في مصر في السنوات الأخيرة، حيث يُطرح السؤال مقترناً بمقارنة مثيرة بين مشهد تمسك قطاع واسع من شعبها بحلم الحرية في 25 يناير، ومشهد الاندفاع الواسع أيضاً لدعم إقامة سلطة أحادية بعد 30 يونيو.
فالمصالح الطبقية، التي كانت بورجوازية عند ماركس، ما زالت أحد عوامل تفسير التحول، بل ازدادت أهميتها لفهم مغزاه لأن تعقّد تركيب المجتمعات المعاصرة جعل هذه المصالح أوسع وأقوى وأقدر على مقاومة التغيير حين تشعر بأن الحرية تهددها.
فالقوى المضادة للحرية في مصر ليست طبقة بورجوازية كلاسيكية، بل شبكات اقتصادية متشعبة ومتجذرة تجمع رجال مال وأعمال كباراً وقطاعات من البيروقراطية العليا وأجهزة رسمية تمتلك نفوذاً قوياً وتمسك بمفاتيح السلطة وأدواتها.
كما يظل ضعف الوعي العام مهماً لتفسير مراوحة شعوب بين الحرية والاستعباد. فإذا كان التغير الاجتماعي – الثقافي اللازم لترسيخ الحرية بطيئاً بطابعه، فتراكم الوعي العام بها أبطأ جوانب هذا التغير.
وإذا كان بعض الشعوب الأوروبية التي خرجت من وراء "الستار الحديدي" قبل ربع قرن ما زال متعثراً في طريقه إلى الحرية، فليس غريباً أن يحدث ذلك في بلد لم يمض على تحرك شعبه لأجل الحرية خمس سنوات.
خذ مثلاً ما يحدث في المجر الأوروبية الصناعية التي قطعت شوطاً لا بأس به على طريق الحرية. فقد وقعت غالبية الناخبين فيها العام الماضي أسيرة خطاب شعبوي عاطفي تلاعب بمشاعرها إبان أزمة كبيرة، فحملت حزباً شبه شمولي إلى السلطة عبر الانتخابات. ونصَّب زعيم هذا الحزب فيكتور أوربان نفسه حاكماً بأمره (على الطريقة البوتينية الروسية) بعد سيطرة حزبه على البرلمان والبلديات.
غير أن الحالة المصرية تقدم إضافتين مهمتين. الأولى أنه إذا كان الاضطراب الذي يقترن بالثورات الديموقراطية يفتح مجالاً لتحرك القوى المضادة للحرية، فهذا المجال يصبح أوسع عندما يتنامى العنف ليمثّل خطراً داهماً على المجتمع.
لذلك كان تصاعد موجة جديدة غير مسبوقة من الإرهاب، في إطار احتدام الصراع وتفاقم الاستقطاب بعد الثورة، ضاغطاً على قسم كبير في المجتمع ودافعاً إلى زيادة الطلب على الأمن وتناقصه على الحرية. فعندما ينتاب الإنسان خوف عميق على حياته وممتلكاته ورزقه، مع انتشار العنف، يصبح مستعداً للتخلي عن الحرية، إلا حين يبلغ تراكم الوعي العام المبلغ الذي يتيح إدراك أن هذه الحرية ضرورة لمواجهة الأخطار إرهابيةً كانت أو غيرها.
فمع الخوف، لا يستطيع الإنسان في مجتمع محدود الوعي ممارسة حريته إذا كان متمتعاً بها، ويعزف عن المطالبة بها إذا كان ساعياً إليها قبل أن يدهمه هذا الخوف، بل قد يركض لدخول القفص مختاراً وليس مجبراً. وقد تقصر هذه الحال أو تطول وفق ظروف تختلف من بلد إلى آخر، ومن ثقافة إلى غيرها.
أما الإضافة الثانية، فإن حدة الصراعات بين القوى التي تفتح الباب إلى الحرية تُسهّل مهمة من يسعون إلى غلق هذا الباب. وكلما كانت التناقضات بين هذه القوى أعمق في لحظة الانعتاق الأول من الاستعباد، تقل قدرتها على إكمال الطريق الذي بدأته.
وعندئذ يمكن أن يتخلى كثير ممن حلموا معها بالحرية عن حلمهم هرباً من تداعيات الصدام بينها وبحثاً عما يبدو لهم أنه الخلاص لدى "سيد" أو "سادة" جدد. وتفيد الحالة المصرية أن خطر مثل هذا الصدام على مسار الحرية يزداد كلما اقترن بانقسام يتجاوز السطح السياسي إلى عمق المجتمع، فيساهم في غلق هذا المسار إلى أن تتوافر فرصة لإعادة فتحه في مرحلة لاحقة.