الحملة
الإنسانية من أجل المفقودين في
وطنهم سورية
صلاح
مياتي : أسير آخر
بمناسبة
شهر التضامن مع معتقلي الرأي في
سورية
من
سوريين ولبنانيين وفلسطينيين
وأردنيين وعرب آخرين
بقلم
: محمد الحسناوي*
صدق الشاعر أبو
الطيب إذ يقول :
خُلِقتُ ألوفاُ لو رجعتُ
إلى الصِّبا
لًفارقتُ شيبي موجَعَ
القلبِ باكيا
والبكاء من
الرجال عيب ، لاسيما في الشدائد
، وإذا حصل البكاء ، فهذا يعني
أن الطامة كبيرة . وكيف لا تكون
كبيرة ، وقد خسرتَ المئات من
إخوانك وجيرانك وأصدقائك
ومعارفك ، بلا ذنب اقترفوه ، بل
لأمور يستحقون عليها التبجيل
والاحترام ، ثم يكتب عليك أن
تهجر وطنك ومسقط رأسك ، ليتغول
فيه الظلمة والمرتشون واللصوص
وحتى الغرباء !! وفوق ذلك لا تلمح
أدنى مؤشر باقتراب الفرج
أوتصحيح الأمور .
في مكان إقامتي
بعد التعيين في تدريس مادة
اللغة العربية في أرياف حلب
الشهباء وفي المدينة ، اتسعت
دائرة معارفي وأصدقائي وزملائي
، غير الذين أعرفهم في جسر
الشغور أو اللاذقية أو دمشق
أيام الدراسة . ولما بدأت
المأساة الأخيرة في اضطهاد
التيار الإسلامي في الثمانينات
من القرن الماضي ، وقع المئات من
هؤلاء الأحباب في شراك
الاعتقالات على الرأي ، أو
الارتهان بسبب قرابة أو جيرة أو
معرفة لأحد المنظمين في جماعة
الإخوان المسلمين . ولو ذهبت
أعدّد الآن من أعرفهم من محافظة
حلب وحدها لسودت الصفحات لا
وجوه الجلادين المسودة أصلاً .
أذكر على سبيل
المثال لا الحصر بعض المدرسين
من زملائي مثل الأساتذة عدنان
شيخوني ومصطفى ذاكري مدرسَي
اللغة العربية ، والشيخ عبد
الوهاب محمد مدرس التربية
الإسلامية ، وعدنان المنلا مدرس
العلوم والرياضيات ومحمد خير
زيتوني العالم الزاهد . وكل واحد
منهم شامة في أخلاقه وإخلاصه في
عمله وسيرته الحميدة بين الناس .
أما طلابي الذين كبروا وشبوا
ونجحوا في دراستهم وحياتهم فما
أكثرهم عدداً ، وما أسماهم
خلقاً وفضلاً ، وسأكتفي بذكر
الشاب الحيي صلاح مياتي .
هذا الفتى الذي
غدا رجلاً ، كان من أبناء الحي
الذي سكنته في بداية انتقالي
إلى حلب ( حي المسبح البلدي )
بجوار منطقة ( إبراهيم هنانو) ،
وكان أيضاً من طلابي في ثانوية
الكواكبي في الستينات من القرن
الماضي ، وهي الثانوية التي
قضيت فيها معظم أيام عملي في
ثانويات حلب ، فأصبحت جزءاً من
تاريخها ، كما أصبحت جزءاً من
كياني النفسي . والطالب الذي
يتفوق في دراسته وفي احترام
مدرسيه ، يحس أستاذه بعطف خاص
تجاهه ، وربما عدّه مثل أولاده
الحقيقيين ، فإذا كان حيياً
أنيساً مهذب اللسان والجنان ،
استوفى من محبة أستاذه وتقديره
الشيء الكثير . وهكذا كان شأني
وشأن الطالب صلاح مياتي ، وهذا
يفسر استمرار
الصلة بيننا حتى بعد تخرجه من
الحلقة الثانوية ، ودخوله
الجامعة ، وتخرجه في كلية
الآداب بجامعة حلب قسم اللغة
العربية ، وبحثه الدؤوب عن فرصة
عمل شريف . وهل هناك أشرف , أو
أقدس من حرفة التدريس ، وقد حُرم
منها لأنه غير حزبي ، أو ليس من
أبناء الحزب الحاكم ، مع العلم
أن منبته اجتماعي كادح ، وكنيته
( مياتي ) تدل على صنعة أهله (
سقاية الماء ) للناس . وهذا يدل
على كذب الشعارات ، ومحاولة
استعباد الناس وإفسادهم .
لقد أكرمني
الشاب المهذب صلاح مياتي
بالتعرف على والديه الكريمين ،
وكان يحب أن يُفرح والديه
باحترامه لمن أحسن إليه من
أساتذته ، فوجدتُ في والديه
الطيبة والكرم والروح الأريحية
، وتقديرهم لأهل العلم وللجيران
. وشعرت بأنهم مبتهجون بتخرج
ابنهم بالشهادة
الجامعية ، واحتمال أن يجد
عملاً شريفاً ، يكفي به نفسه ،
ويعين الأسرة على تحسين أحوالها
المعاشية . لكن خاب ظنهم - بعد
محاولات كثيرة - بالحزب الحاكم ،
وبسياسات الاستئثار والاستزلام
، والتمييز بغير حق بين
المواطنين . بل جوبهوا كغيرهم
بحرمان أصحاب الكفاءة والإخلاص
من أن يسهموا في بناء البلد . ثم
يسألونك : من أين هذا الفساد
والانهيار
العظيمان ؟ ولا يكفون عن
السؤال: كيف العلاج ؟ وهم قتلوا
القتيل وساروا بجنازته .
وأخيراً ، أي
بعد سنوات من البطالة والبحث
المضني ، عثر الشاب الحيي صلاح
مياتي على عمل له في القطاع
الخاص . قطع الله من قطَّع أوصال
الأمة وأوقع بين أفرادها وقواها
الشلل والفرقة . وجد الرجل فرصة
عمل إداري في ( جمعية النهضة
الخيرية ) في مدينة حلب ، أي جمع
التبرعات من المحسنين وردّها
على الأرامل واليتامى
والمعوزين والمعوقين . إنه عمل
إنساني نبيل ، يستحق صاحبه قبل
غيره أن يستضيفه سجن (تدمر )
العسكري أو سواه من سجون الرأي ،
التي لا تعد ولا تحصى في سورية
التوازن الاستراتيجي
.
من الطبيعي أن
يكون الرجل قد تزوج ، ورزق ببعض
الأولاد قبل اختطافه من حضن
أهله ، وبالطبيعي أنَّ هناك غير
أمه وأبيه المسنَّين ، من ينتظر
عودته ، بل يتشمم أخباره : هل هو
في عداد
الشهداء ، فيحتسبوه عند
الله الذي لا تضيع عنده الودائع
، أم هو ما زال حياً ، يعاني من
أحد الأمراض المزمنة التي ابتلي
بها من طال سجنه ، ونيف على ربع
قرن من أمثاله ؟ إن التعتيم على
مصير المعتقل نوع من التعذيب
لأهله ومعارفه مع تعذيبه هو
نفسه ، ففضلاً عن تجميد وضع
الزوجة أو تقسيم الميراث ، هناك
الظنون والأوهام وتلقف
الشائعات ، والتقلب على نار
الوعود الخداعة ، وغير ذلك من
وسائل الضغط والابتزاز الذي يعف
القلم عن سردها .
بلغني فيما
بلغني تفاصيل عن أنواع التعذيب
الجسدي والنفسي اللذين تعرض
لهما في بداية اعتقاله ، ممن
نجوا ، وقليل ما هم . وهي تفاصيل
تقشعر لهولها الأبدان ، ويأنف
الراوي من وصفها للآخرين .
والتهمة الموجهة إليه أن بعض
أقاربه أجر بيتاً لأناس ، تبين
أنهم من المعارضة ، فصدّق أو لا
تصدّق . أما لماذا توجد معارضة ،
ولماذا تصل المواجهة إلى حد
الصدام العنيف ، والقتل على
الهوية ، فضلا عن الاعتقال ،
ونكران وجود المعتقلين ، أو
تصفيتهم في ساعة انتقام بالجملة
في سجن تدمر الصحراوي .. فأسئلة
لا جواب لها بعد كل هذا الزمن
المتطاول .
أخبار تردي حقوق
الإنسان في قطرنا لا تبشر حتى
الآن بخير ، ففضلا عن قمع
الناشطين في ربيع دمشق ، والحكم
على عشرة منهم بالسجن لمدد
مؤسفة ، ثم مواجهة المواطنين
الأكراد بسيف القمع الأمني ،
واستمرار اعتقال الكثيرين منهم
، وإحالتهم إلى محكمة أمن
الدولة ، ثم اعتقال الناشط في
ميدان حقوق الإنسن أكثم نعيسة
وتعرض صحته للخطر ، واضطهاد
طلاب الجامعة واعتقالهم لمجرد
المطالبة السلمية بحقوقهم أو
التعبير عن الرأي ، وأخيرًا
اعتقال تسعة عشر مواطناً من
منطقة ( قطنا) بتهمة الانتساب
لحزب التحرير الإسلامي ، وهي
أخبار لا تنسينا معتقلي
الثمانينات والآخرين ، بل تزيد
في تراكم الأسى والمأساة وتفاقم
المخاطر . ولماذا لا يكون هناك
قانون للأحزاب ، وسماح بالعمل
العلني إلا للحزب الذي اثبت
أنانيته وإخفاقه وخواءه ،
وتحوله إلى أجهزة أمنية تتجسس
على المواطنين ، لا لخدمتهم
وتحقيق سعادتهم ورفاهتهم كما
كان وما يزال يزعم ؟؟
هذه عينة من وطن
تحيق به المخاطر من كل جانب وعلى
كل صعيد ، والحاجة تقتضي مداواة
الجراح ، والمسح على الآلام ،
وجمع الصفوف والقلوب ، وتصليب
الجبهة الداخلية ، وكأنك تنفخ
في رماد ، أو تخطب ودّ المستحيل .
ولكن هل تجني من الشوك العنب ؟؟
* كاتب سوري وعضو
رابطة أدباء الشام
|