الحملة
الإنسانية من أجل المفقودين في
وطنهم سورية
بسم
الله الرحمن الرحيم
إلى
السادة القائمين على مركز الشرق
العربي للدراسات الحضارية
والاستراتيجية حفظهم الله
ورعاهم
السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته
أما
بعد ، فقد اطلعت على الجهود
النبيلة المشكورة التي يقوم بها
الأخ الحبيب الأستاذ زهير سالم
في الحملة الإنسانية من أجل
المفقودين في سورية ، ملبيا
بذلك تطلعات آلاف الآباء
والأمهات الذين غاب عن أعينهم
أبناؤهم أكثر من عشرين سنة ، فهم
لايعلمون
عنهم
شيئا ، ولا يسمح لهم بزيارتهم ،
ولا بمعرفة مصيرهم ، أهم في
الأحياء أم في الأموات !!
وأنا واحد من هؤلاء الآباء
الذين فجعوا باعتقال ابنهم منذ
أربعة وعشرين عاما ، ولم يعرفوا
عنه شيئا
كل
ما أذكره أن ولدي الدكتور محمد
أسامة الهاشمي جاء إلى البيت
ذات يوم وقال لأمه :
إن حملات التفتيش مستمرة ،
وربما مرت على عيادتي ، فإن وجدت
العيادة مغلقة فأخشى أن يكسروا
الباب ، ويدخلوا العيادة ،
ويعيثوا فيها فسادا ، ولذلك
فأنا سأتصل برجل الأمن ( عمر
حميدة ) لأخبره بأنني على
استعداد لفتح العيادة متى أرادت
الحملة تفتيشها. وفعلا هتف إلى (
عمر حميدة ) ، فقال له عمر حميدة :
تعال إلى عندي ، لنتفاهم حول
الموضوع . فقام متوجها إلى ( عمر
حميدة ) فحذرته أمه من هذه
الزيارة ، فقال لها : إنها زيارة
سريعة للتفاهم مع الرجل ، وخرج
ولم يعد حتى الآن
بهذه
الطريقة الخسيسة من الغدر ذهب
ولدي إلى سجنه الذي لم يخرج منه
منذ أربع وعشرين سنة
ولم
نستطع أن نعرف عنه شيئا منذ ذلك
الحين حتى اليوم . وكتبنا إلى
منظمة العفو الدولية في لندن
رسالة طلبنا فيها التدخل بشأنه
، وجاءنا الجواب من منظمة العفو
الدولية بأن المنظمة علمت انه
اعتقل وعذب في سجن أمن الدولة في
حلب قبل أن ينقل إلى سجن تدمر ،
وأن المنظمة ستبذل جهدها لإجراء
محاكمة فورية عادلة للدكتور
الهاشمي أو لإطلاق سراحه حالا ،
وقد قدمت حالته مع مثيلاتها في
حملة تعرض وضع المعتقلين بدون
محاكمة في سورية لممارسة الضغط
على السلطات السورية لاحترام
حقوق السجناء الأساسية . ولكن
السلطات السورية لم تعترف بأن
الدكتور الهاشمي معتقل ، وطلبت
المنظمة صورة ومعلومات عنه ،
ووافيناها بكل ما طلبته ،
ولكننا لم نصل إلى نتيجة .
ولبثنا
هذه السنين الطويلة نجتر
أحزاننا ، وندعو الله أن يفرج عن
ولدنا ويخرجنا من هذه المحنة
القاسية
وبعد
اثنتي عشرة سنة من غياب ولدنا
فاضت بي الأحزان ، واشتدت علي
الهموم و الأوصاب ، فسطرت كلمة
أودعتها كل ما أشكوه وألاقيه من
شدة وكرب ، وجهتها إلى محرري
الصحف والمجلات ، وصدرتها بقولي
: هذه نفثة مصدور ، وزفرات مكلوم
، وآهات حرى ، صعدها أب ابتلي
بتغييب ولده عن ناظريه اثنتي
عشرة سنة . أرجو أن تجد لها مكانا
للنشر في صفحات مجلتكم
وانهالت
علي الهواتف إثر نشر هذه الكلمة
من الأخوة والأحباب ، تعزيني في
مصابي ، وتواسيني فيما أنا فيه
من كرب وضيق وألم .
وهاأنذا
أرسل إليكم نسخة من هذه الكلمة ،
لعلها تجد صدى فيما تصمدون إليه
من مساع نبيلة . جزاكم الله عنا
وعن كل المصابين كل خير
18/5/1425
الرياض
6/ 7/ 2004
أخوكم
أبو عبد اللطيف
إلى
ولدي الحبيب أسامة
بقلم
الدكتور محمد علي الهاشمي
اثنتا
عشرة سنة مرت وانية متثاقلة
بطيئة ، وأنت مغيب عن عيوننا ،
حاضر ماثل في قلوبنا ومشاعرنا
طيفك
الحبيب ملء أسماعنا وأبصارنا لا
يريم . تمر الأيام ، وتنقضي
الأسابيع ، وتتابع الشهور ،
وتنصرم السنون ، وأنت معنا في كل
مكان نزلناه ، وفي كل آن عشناه
نذكرك
دوما ، وفي العين دمعة ، وفي
القلب غصة ، وفي النفس حسرات ...
ويزيد في حرقة القلب وجوى
النفس أننا لا نملك لك من الأمر
شيئا ، سوى هجسات النفس الولهى
ضارعة خاشعة أن يقيك الله مصارع
السوء ، ويرد عنك غوائل الشر ،
ويفرج عنك كربات الأسر ، ويردك
إلينا سليما معافى ..
نذرف
الدمع الهتون في هدأة الليل بين
يدي الله عز وجل ، مستغيثين به
أن يتولاك في متقلبك ومثواك ،
فيسكب برد اليقين والصبر في
جنانك ، وينزل عليك السكينة
والرضا والأنس في عالمك الضيق ،
وشدتك المستحكمة ، وبلائك
الواصب ..
ولولا
ومضات خاطفة من الأمل أن الله
تبارك وتعالى سيبدل العسر يسرا
، ويخلق من الضيق فسحة ورجاء
ومخرجا ، لأظلمت الدنيا في
أعيننا ، ولضاقت علينا الأرض
بما رحبت ، ولاستحالت حياتنا
جحيما لا يطاق .
نتقلب
في أعطاف النعيم ، ونرتع في
مراتع الرخاء ... ويلوح لنا طيفك
الحبيب ، وما تعانيه من شظف
ومشقة وحرمان ، فإذا النعيم
والرخاء ينقلبان إلى ضيق
وكرب وشدة وقلق وعناء ...
نذكرك
آناء الليل وأطراف النهار ...
نذكرك عند كل طعام شهي ، ونذكر
ما يقدم لك ولإخوانك من رديء
المأكل ، فتظلم الدنيا بأعيننا
، وتعاف أنفسنا أطايب الطعام ..
نذكرك
كلما توضأنا بالماء الساخن في
الحمام الهنيء المرفه ، ونتخيل
اصطفافكم طوابير أمام الحمام
الحقير الملوث القذر ، والبرد
يفتك بأجسامكم النحيلة الضاوية
، والماء البارد في الشتاء
القارص يسلخ منكم الجلود ...
نذكرك
كلما سنحت في حياتنا سانحة من
سعادة ، ونذكر وحدتك في غياهب
السجن ، فترتد هذه السعادة شقاء
وضنكا وحرجا وبلاء ، وتدب في
داخل النفس عقارب القلق والتعب
والنصب والكد والمعاناة ..
ونتساءل
كل يوم ، وجمرات الحزن تتقد في
قلوبنا : ماذا يأكل ولدنا الحبيب
؟ ماذا يلبس ؟ كيف ينام ؟ وعلى أي
شيء ينام ؟ كيف يستحم ؟ و متى
يستحم ؟
إنه
يحب المآكل الشهية النفيسة
فماذا يقدم له خلال سنين طويلة
عجاف ؟
إنه
أنيق نظيف يحب اللباس النظيف
الحسن . فماهي ثيابه اليوم ؟ هل
يتاح له الاستحمام ؟ هل يتاح له
تغيير ملابسه كلما اتسخت ؟ أم هل
هي ملابسه التي دخل بها السجن
لاتزال عليه ؟
أين
ينام بعد أن غادر غرفته الهادئة
؟ وعلى أي شيء ينام بعد أن فارق
مضجعه الوثير ؟ .
إن
القلب ليتفطر حين يسمع أن
السجين البريء ينام على الأرض ،
في حجرة صغيرة تكدس فيها عشرات
المسجونين ! فكيف إذا كان السجين
ابنه الحبيب وفلذة كبده ؟
كنت
زهرة تتفتح للحياة ، فجاء
الطغيان فحجب عنها نور الحياة ،
ولماذا ؟ لأنه لا يريد للزهور أن
تتفتح أكمامها ، ولا للعبير أن
يسري في أرجاء الكون !!
كنت
تتطلع إلى تأسيس أسرة ، تنبت في
جنباتها براعم الورود ، وتتفتح
أكمام الأزاهير ، فجاء الطغيان
ليقتل في أعماقك تطلعات الأماني
، وليطفئ في نفسك شعلة السعادة
والتفاؤل والأمل ..
كنت
في عيادتك مضرب المثل في براعة
الاختصاص ، وإتقان العمل ،
وجودة المعالجة ، وحسن المعاملة
، ونظافة القصد . وجاء الطغيان
ليحرم المجتمع منك ومن أمثالك ،
بناة الوطن الحقيقيين ، وأبنائه
الأوفياء ، وعقوله النيرة ،
وكفاءاته النادرة ، ودمائه
الجديدة النقية الفوارة ..
اثنتا
عشرة سنة كوامل مضت ، وأنتم
يامزع القلوب وراء القضبان ، لم
تركم عين أهليكم ، ولا سمعوا
شيئا من أخباركم ، ولا سمح لأحد
منهم بزيارتكم ! لقد ضن الطغيان
على الآباء والأمهات أن يلقوا
نظرة على فلذ أكبادهم ، ولو من
وراء القضبان ، ولو من وراء
الدموع التي اغرورقت بها العيون
! ضن الطغيان بهذا ، ولو في السنة
مرة ، بل ولو مرة بعد اثنتي عشرة
سنة !!
ياإلهي
! أتبلغ الهمجية والقسوة
والفظاظة والأذى والظلم
والعدوان والتجني بالإنسان إلى
هذا الحد ؟ أجل ، وأكثر من ذلك
حين يكون طاغية ، أو ذيلا يدور
في فلك الطغيان !
إن
المرء الحبيس لتضيق الدنيا
بعينيه ، وتعاف نفسه الحياة ،
وإذا حكم عليه أن يحبس في غرفة
جميلة نظيفة لا يسمح له
بمغادرتها. إن شعوره بأنه حبيس
في هذه المكان الهادئ الآمن
الجميل النظيف ليقتل فيه
الإحساس بالسعادة والطمأنينة
والراحة ، فكيف إذا كان حبيس
غرفة بشعة قذرة منتنة ، لا يجد
فيها مكانا لنوم ، ولا فسحة
لجلوس ، ولا يحس فيها لحظة براحة
أو قرار أو أمن أو طمأنينة ؟ زد
على ذلك انه عرضة في كل لحظة
للسب والشتم والرفس والركل
والضرب والإهانة والتعذيب !! ..
وتتعاقب
السنون بطيئة وانية متثاقلة ،
كلما انقضت سنة سألتني أمك بصوت
متهدج باك مبحوح : هاهي ذي سنة
أخرى قد انقضت ، ولم نسمع عن
ولدنا شيئا . فالإم هذا العذاب ؟!
ويكون جوابي على سؤالها
دموع تغرورق بها العينان ، ثم
تسح على الخدين غزيرة حارة ،
ونشيج حاد يكاد يقتلع القلب من
الجنبين ، وآهات حرى ، تحكي ما
يعتلج في أعماق النفس المكلومة
من حزن ولوعة وكرب وألم وعذاب ..
لك
الله يابني . العزاء كل العزاء
أن ما تلقاه من عذاب ووصب وشقاء
وحرمان ولغوب وعنت ، كله في سبيل
الله ، وأن الله تعالى لا يضيع
أجر من شيك بشوكة في سبيله
ولئن
حبسك الطغيان عن أن تبدأ حياتك
العملية اثنتي عشرة سنة ،
ليعوضنك الله منها بركة في
الزمن ، تجني فيه أضعاف ما فاتك .
ولئن
أخر الطغيان إنشاء حياتك
العائلية اثنتي عشرة سنة ،
ليباركن الله في زواجك ،
وليقيضن لك الزوجة الوفية
الطاهرة الولود ، وليرزقنك
النسل الطيب الصالح ، الذي تقر
به عينك ، وينسيك تلك السنين
العجاف .
وفوق
ذلك كله ، ليحبونك الله تعالى
مرضاته ، وهي أكبر من الدنيا وما
فيها من نعيم ومال وولد ..
والله
يحفظك ويصونك ويرعاك ..
أما
إن كانت الأخرى ، ولقيت وجه ربك
شهيدا ، فحسبك أنك في منازل
الشهداء بجوار ربك تنعم بجنات
النعيم ، وحسبي أني نلت شرف أبوة
الشهيد ، وإنه لوسام رفيع في
الدنيا ، ومقام محمود في الأخرة
.
|