الحملة
الإنسانية من أجل المفقودين في
وطنهم سورية
محمد
أديب صالح
أبو
مصعب
د.
عثمان قدري مكانسي
مَن
هذا الفتى الطويل الرفيع ذو
الأنف الروماني الأقنى ، السريع
في مشيته ، وفي التفاتته ، ذو
العينين الصافيتين الثاقبتين
كعينَيْ صقر ؟ إذا ضحك خرجت
الضحكة من قلبه ، وتحرك عموده
الفقري كله لها؟ وهل فيه إلا
عموده وشيء من الجلد يحوطه ؟
فوزنه –على طوله- لا يتعدّى
الستين كيلو غراماً في أشد
حالات امتلائه
هكذا
عرفته عام ثلاثة وستين وتسع مئة
وألف حين انتظمنا في الصف الأول
الثانوي في المعهد العربي
الإسلامي في سفح " جبل محسّن"
على طريق المشهد في مدينة حلب .
لا
تفارق البسمة وجهه ، في حديثه
يستعين بيديه ، تراه يتحدث بهما
جميعاً.
لم
تطل صحبتي إياه إذ ذاك سوى شهرين
انتقلت بعدها إلى ثانوية هنانو
جنوب باب القلعة ، شرق حي "
القصيلة "
وأكاد
أنساه، لولا أن التقيته في كلية اللغات في
جامعة حلب، وكنت في السنة
الثالثة حين التحق بها في السنة
الأولى . تأخر عني سنتين إذ كان
أكبر إخوته ، ووالده بحاجة إلى
من يساعده في إعالة الأسرة
الكبيرة . والولد الأول ينال "
وجه العلبة " إن كانت الأسرة
ميسورة ، ويشقى أكثر من الآخرين
إن كانت " مستورة"
...لي
في هذا نصيب ، وهكذا كان أبو
مصعب رحمه الله تعالى حيّاً
وميّتاً .
كنت
أرتاح للقائه ، فحديثه فيه
الفكاهة والمرح ، وفيه الجد
والفكر ، كل في موضعه . نتدارس
الأدب والنحو والعروض ، ونغوص
في الحياة الاجتماعية ، ونعرّج
على السياسة ... ثم على أبي الحسن
الفوّال، أوالقصاص
صاحب الفلافل العربية
وكلاهما في حي الجميلية ،
فاللقاء عندهما – على حد قوله –
خير منه في المقاهي مع أنه كان
كثير التدخين ، وقد حاولت
مراراً إثناءه عنه فعدت خائبا ً....
كان في صفه مجموعة طيبة من
الإخوة الذين رأى فيهم بغيته ،
ورأوا فيه الكياسة والذكاء ،
فلم تمض أشهر حتى وجدته في
لقاءاتهم الأسبوعية مندمجاً
فيها يملؤها حيوية ونشاطاً . وفي
عام تسعة وستين ، وعلى مدى سنة
ونصف السنة خضعت لدورة موجهين
مع بعض الإخوة أذكر منهم أحمد
الخراط ، يحيى الحاج يحيى عدنان
المنلا ، محمد أديب صالح ... ولا
أنسى أن أزجي التحية للأستاذ
الدكتور محمد أديب الصالح عميد
كلية الشريعة في دمشق سابقا
ومدير تحرير حضارة الإسلام
الدمشقية فاسمه واسم صاحبنا
واحد بزيادة " ال " في اسم
الدكتور ...
كان
الأستاذ " فاروق بطل " أبو
عمار مسؤول
الدورة ، يدرسنا تفسير سورتي
الأنفال والتوبة ،. أما الحي
الميت الأستاذ " محمد مهتدي
كسحة " أبو غياث فكان أستاذنا
في دراسة فقه السيرة
ولهما الفضل الكبير في
قدرتي على تحليل المعاني وقراءة
ما وراء السطور ، وهي هبة أشكر
الله تعالى عليها وللأستاذين
الكريمين فضلهما الذي لا ينكر
أثره .أما الأستاذ المرحوم "أحمد
جاموس " فقد كان أستاذ
القراءات ، وقد تأصلت معرفتي به
في الإمارات إذ عمل في كلية
الدراسات الإسلامية والعربية
في دبي حوالي عشر سنوات فكان
مثال اللطف والأدب ، فنعم حامل
القرآن هو . وقد درّسنا الفقهَ
الأستاذُ فاضل خير الله جزاه
الله الخير فقد أفادنا كثيرا .....
هؤلاء إخواني فجئني بمثلهم إذا
جمعتنا يا......المجامع .
كان
الإخوة جميعا على قدر المسؤولية
، فقد جازوا هذه الدورة بنجاح ،
فهذا أحمد الخراط أستاذ للنحو
في الجامعة السعودية ملء العين
والبصر ، والشاعر المجيد الأصيل
يحيى الحاج يحيى له في كل عرس
قرص تتغنى بشعره الدعاة .
أما
عدنان منلا فلي معه وقفة أخرى
تليق بمقامه الرفيع ، رحمه الله
حيا ميتاً ، فقد كان مثال الذكاء
واللطف والدماثة ... وكان أخونا
الحبيب أبو مصعب " الصالح "
محمد أديب الأستاذَ الناجح يجمع
حوله تلاميذه كأنه ملكة النحل
في خليته .
أما
زواجه فقد كان عجيبا ، أقل ما
يقال فيه أن العادات والتقاليد
البئيسة ينبغي أن تفرض في حفلة
العرس- عند الجهلة -
ولو كانت تغضب الله تعالى
فيهتز العرش سخطا ومقتاً ، ولئن
رفضها العريس أو أبوه فلربما
انقلب إلى خصام لا تحمد عقباه .
يستنجد
أبو مصعب بإخوانه مستصرخاً –
ياأحباب أتصدقون أن حفلة زفاف
أخيكم محمد أديب سوف يحييها
المغنون وسيعاقر بعض الحاضرين
الخمر فيها ؟!
ـ
كيف ذلك يا أبا مصعب؟
ـ
أبناء عمي الجهلة يفرضون ذلك .
ـ
وأين والدك ؟! إننا نعرفه رجلا
صالحا .
ـ
العلاقة بيننا تكاد تكون مقطوعة
لولا صلة أبي أولاد أخيه .
ـ
وما علاقتهم بعرسك ؟ وكيف
يفرضون رأيهم ؟
ـ
أرادوا مصالحتنا ، والطريق إلى
إظهار حبهم لنا وحسن نواياهم أن
يتكفلوا بمصاريف العرس ، وسيكون
الحفل في
بيتهم . نبههم الوالد إلى أن
الحفل أناشيد وابتهالات فقط ،
فادّعَوا أننا نفتعل خصامهم .
ـ
وماذا يعنون ؟
ـ
هددوا بقلب العرس مأتما إن
أبينا دعوتهم ، لن أذهب إلى
بيتهم وليفعلوا ما شاءوا .
ـ
وبم أجاب والدك؟
ـ
إنه محتار لا يدري ما يفعل ولا
ما يقول .
ـ
سنذهب إلى العرس واشكرهم على ما
قدّموه ، وقل لهم إن أصدقائي
سيشاركون في الحفل وسينشدون .
وهذا ما أريد لنفسي ، وافعلوا
أنتم بعد ذلك ما تشاءون .
كان أحد إخواننا ذا صوت جميل . فما إن
دخلنا وكنا أكثر من عشرين شابا
حتى اهتبلنا الاستراحة الأولى
للمغنين، أخذنا منهم
المايكريفون ، وبدأنا ننشد
بقيادة أخينا ، وهذا يعني أن شرب
الخمر الذي كادوا يبدأونه لا
يناسب المولد ولا يوافق ذكر
الله تعالى !! فسكتوا على مضض
وعيونهم تقدح شررا ، لكننا
استعنا بالله تعالى على باطلهم
، وقسّمنا الأدوار بين الأناشيد
و" الشدّيّات " ( هي مدح
العريس وأقاربه) وشكر الحاضرين
، وتوزيع الماء والضيافة
والابتسامات عليهم ، وخصصنا
أبناء عمه بالنصيب الأوفى "
إننا لنبش بوجوه أقوام وقلوبنا
تلعنهم "
ولكن لا بدّ مما ليس منه
بدُّ .
كانت
الحفلة في دار أحدهم في" ساحة الملح " وسارت
الأمور على ما يرام وجهزنا
العريس ، ثم انطلقنا به إلى دار
العروس ، وأبى أعقل أبناء عمه
إلا أن يرافقنا فلم يكن يرضى ما
خطط له إخوته .... ولما خرجنا في
طريقنا بدأت الأنغام تصدح وأهل
السكر يعربدون ، وحمدنا الله
تعالى على السلامة .
ويسكن
الأخ الحبيب أبو مصعب قرب
الجامع الأموي ، فلا يبعد عن
بيتنا مئات من الأمتار قليلة ،
وتزداد العلاقة رسوخا ، ....
وأسافر
في بعثة تعليمية إلى الجزائر في
أيلول من عام ثمانية وسبعين فلا
يمضي أقل من سنة حتى يظهر على
السطح ما كان النظام الطائفي
يبيته للأمة المصابرة وفي
مقدمتها زهرتها من الشباب
المثقف الطاهر وتبدأ
الاعتقالات والمداهمات ،
وترويع الآمنين وتكميم الأفواه
.... وفي الخامس من تشرين الأول
عام تسعة وسبعين تحيط قبيل
الفجر سرية من قوى الجيش بدار
الأخ المجاهد أبي مصعب :محمد
أديب صالح فتقتاده إلى حيث يريد
الطغاة الظلمة
وها
قد مرت خمس وعشرون سنة على غيابه
رحمه الله حيا وميتا .
أخي
الحبيب أبا مصعب : قد والله كنت
الشاب الذكي المؤمن الذي لا
تخاف في الله لومة لائم ، المحب
لدينك البار لوالديك ، العطوف
على إخوانك . المربي الناجح
لأبنائك وتلامذتك . سلام عليك في
الخالدين ، وسلام عليك في
الصالحين .. سلام عليك في رحمة
الله إلى يوم الدين .
أخوك
: عثمان قدري مكانسي
|