ملف المهجرين
القسريين
قصة
منفي مغترب
د. منير محمد الغضبان*
لقاء مع وزير التربية ..
قال وزير التربية الأستاذ حسن
الخطيب ( رحمه الله ) لأحد معارفه
ومعارفي إنني مطمئن الآن أنه لا
مظلوم عندي في الوزارة , ونقل لي
الصديق مقالته فقلت له : قل له
هناك مظلوم عندك فهل تقدر أن
تزيل ظلامته ؟
وأخبره بذلك فتعجب الوزير وتحمس
وقال : فليأتني ولن أقبل مظلمة
في عهدي , وذهبت إليه في الموعد
المحدد , قال لي الوزير : قص علي
مظلمتك .
فقلت له
: أنا معلم في المرحلة
الابتدائية عندك من التل , وأدرس
في حينة ( بلدة تبتعد 65 كم عن
دمشق و80 كم عن التل )
أنهيت اغترابي في دير الزور وقرى
دمشق وعدت إلى بلدي عام 1964
وفوجئت بقرار نقلي إلى ( حينة )
عام 1965 -1966
تخرجت من كلية الشريعة عام 66-67
وعين زملائي في التدريس وكانوا
تسعين خريجاً ولم أعين وبقيت
على ملاك التعليم الابتدائي .
قررت أن أدرس دبلوم كلية التربية
, ووافقت الوزارة على تفرغي لذلك
ومن حقي أن تعطيني عشر ساعات
أدرس فيها مادة التربية
الإسلامية لأتدرب عملياً على
التدريس , وقابلت مدير التربية
حين لم أعط ذلك
قال لي : لا تحلم بساعات لغة عربية
ولا تاريخ ولا تربية إسلامية
ولا أي مادة من ذلك .عندنا ساعات
موسيقى ورياضة في مزرعة بيت جن (
بعد حينة بعشرة كم) إما أن
تأخذها أو لا تأخذ شيئا, واضطررت
وأنا بلا راتب أن آخذ هذه
الساعات وأدرسها لأتدرب فيها
على تدريس التربية الإسلامية
تخرجت من كلية التربية – دبلوم
عامة – عام 67-68 مع خمسة عشر
خريجاً كانوا جميعاً بدرجة
مقبول وأنا بدرجة جيد فتم
تعيينهم في التدريس لمادة
التربية الإسلامية ووحدي حرمت
من ذلك وبقيت على ملاك التعليم
الابتدائي
كثير من زملائي الذين لم يدرسوا
جامعة انتقلوا ( موجهين ) إلى
الثانوية , وأعطوا ساعات تربية
إسلامية, وأنا لم أعط ذلك .
طالبت بعودتي إلى بلدي التل فرفض
طلبي , وتقدم رئيس شعبة الحزب في
مزرعة بيت جن طالباً نقلي إلى
بلدي ومخاطباً رئيس شعبة الحزب
في التل قائلاً لهم : لماذا
تبلونا به وأنتم
أولى بمراقبته ومحاسبته
. فكان جواب شعبة الحزب :
إننا لن نسمح له أن يكون في بلده
حتى لا يؤثر على الشباب أما في (
حينة) فليس فيها إلا دروز
ومسيحيون فلا يؤثر على أحد .
أعاد رئيس شعبه الحزب في بيت جن
طلبه قائلا : عندكم في قضاء التل
بلد ليس فيها أي مسلم ( صيدنايا
والمعرة ) فكان جواب حزب التل :
إذا عيناه في صيدنايا أو المعرة
يستطيع أن يأتي يوميا إلى التل .
ويؤثر على الشباب
أما في (حينه) فلا يستطيع أن
يأتي إلا مرة واحدة في الأسبوع .
هذه هي مظلمتي يا معالي الوزير .
فهل عندك حل لها
صمت الوزير قليلا ثم قال :
والله يا أستاذ مشكلتك أكبر مني
وأكبر من الوزارة ، الله يرضى
عليك سورية لك وهبنا إياها ،
وابحث عن أي بلد عربي تعاقد معه
، ولا حل لمشكلتك إلا ذلك.
*
*
*
لماذا الغربة والمنفى
إن
حب الوطن يغلغل في كل ذرة من
شراييني ، ومع ذلك صبرت على
الأذى كله ، وتحملت الظلم كله
لكن عندما استدعيت إلى
المخابرات ، وسجنت للمرة الأولى
،ووصل التحقيق في المرة الثانية إلى ذروته فلا بد أن أكتب أسماء كل
من أعرفهم ، وهذا يعني أن أودع
وإياهم السجن أو لا أذكر أحدا .
وهذا يعني السجن والتعذيب الذي
لا ينتهي حتى أعترف . وحفاظا على
سلامة إخواني آثرت الخروج
والتعاقد في السعودية متذكرا
قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يغادر مكة :
(( والله إنك لأحب بلاد الله إلى
الله وأحب بلاد الله إلي ، ولولا
أن أهلك أخرجوني ما خرجت )) فقلت :
والله إنك يا شام ويا تل خصوصا
لأحب بلاد الله إلي ، ولو لا أن
أهلك أخرجوني ما خرجت .) وخرجت من
أحب بلاد الله إلي إلى أحب بلاد
الله إلى الله . حيث كنت أزور مكة
كل أسبوع على الأقل . كما كنت
أزور بلدي الحبيب كل أسبوع وأنا
في حينة . ولكن كيف أخرج ، ولا بد
من تأشيرة خروج من المخابرات .
وتقدمت بها ومنعت . فكان أن خرجت
عن طريق لبنان . قبل أن يكون
مستعمرا لسورية . عام ثلاثة
وسبعين وتسعمائة للألف .
*
*
*
آخر عهدي بوطني :
بقيت أتردد خلال فرصة الصيف على
سوريا عن طريق لبنان حتى صيف ستة
وسبعين مع ابتداء الحرب الأهلية
. ومنذ عام سبعة وسبعين ، لم
تكتحل عيناي برؤية بلدي الحبيب
أي منذ سبعة و عشرين عاما على
الأقل ، أي قرابة ثلث قرن من
عمري الذي تجاوز ثلثي القرن .
نعم أرى بلدي كل أسبوع تقريبا في
نومي فهي حية في قلبي وخاطري
ووجداني وأراني مطاردا من
المخابرات ، ملاحقا من الأمن
وأجهزته ورجاله ، أراها كوابيس
وأستيقظ على صراخي بذكر الله ،
هذا ما قدمته لنا السلطة في
سوريا لنا كمواطنين ، وأنا أحد
هؤلاء المواطنين .
كنت أرى مسلسلا عن الشاعر
شوقي ، وقد نفاه الإنكليز
عشر سنوات عن وطنه مصر وعندما
عاد بعد
عشر سنين خر على الأرض مقبّلا
تراب وطنه . فصحت صارخا ، ولم يدر
بخلدي أبدا أن أحمل تجربة
الغربة ثلاث أضعاف شاعرنا شوقي
بعداً عن وطني لكن الأسى أن يكون
من يحول بيني وبين وطني بنو
جلدتي وأهلي .
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع
الحسام المهند
*
*
*
فرصة عام خمسة وثمانين وسبعة
وثمانين .
وذلك عندما التقينا مع وفد من
السلطة تتفاوض معه على إنهاء
مشكلة الصراع بين الإخوان
المسلمين والسلطة وكان رئيس
المخابرات العسكرية اللواء علي
دوبا آنذاك على رأس وفد السلطة
فقال رئيس وفدنا لي ولزميلي
: لننظر من سيغلب منكم ؟
قلت له : نحن قابلون سلفاً أن نكون
مغلوبين لصالح وطننا .
وعرض علينا وفد السلطة أن نعود
إلى وطننا آمنين لنا حقوق
المواطنين وعلينا واجباتهم
وبعد دخولنا لسورية تسوى الأمور
ويخرج السجناء , ويعود الجميع
إلى وطنهم فهل هناك عرض مغر أكثر
من هذا العرض ؟
قلت مازحاً : إذا وافقنا على هذا
العرض أعتقد أن من الممكن أن
تعطونا وزارتين أو ثلاثة وزارات
ونكون جزءاً من الجبهة التقدمية
.
قال :
هذا سهل وكل شيء قابل للدراسة
عندئذ قدمنا تصورنا عن العودة
للوطن من خلال الشروط التالية :
إلغاء قانون الطوارئ , تعليق
الدستور الذي تحكم سورية بموجبه
,إعلان الحريات العامة
السياسية والمدنية , وإطلاق
سراح جميع المعتقلين
والمحكومين السياسيين , والسماح
لجميع الملاحقين
سياسياً بالعودة إلى وطنهم
, والتعويض على المتضررين ,
إلغاء قانون 49 ( الذي يحكم
بالإعدام على كل من ينتمي
للإخوان المسلمين ) ,الدعوة إلى
انتخابات عامة حرة نزيهة يشارك
فيها أبناء الشعب في اختيار
ممثليهم الحقيقيين , اختيار
هيئة تأسيسية تضع دستوراً
للبلاد يمثل رأي أكثرية الأمة
ويكفل حقوق الآخرين .
واعتبار الجيش مؤسسة وطنية
لأبناء الشعب كله مهمتها الذود
عن الوطن , واعتبار مؤسسات الأمن
الأخرى لأبناء الشعب مهمتها
الحفاظ على أمن المواطن وحماية
الوطن من المؤسسات الخارجية .)
وقال وفد السلطة : أنتم تريدون
تغيير النظام , ونحن لسنا مخولين
بالتفاوض على ذلك , هذه أكبر منا
, واتصل الوفد بالرئيس الأسد ,
وأعلمه بمطالب الجماعة , فدعاه
فوراً للانسحاب من المفاوضات ,
ولم تكن مفاوضات سبعة وثمانين
لتخرج عن هذا المفهوم .
ترى
هل هان وطننا علينا , ولم يدفعنا
حبه للقبول بعرض النظام السوري
؟
معاذ الله , فنحن لوطننا , لكن
الوطن هو بحرية شعبه لا
باستعباده من فئة أو شخص أو حزب
وكانت كرامة شعبنا هي التي حدت
بنا أن لا نفرط فيها , وليس الأمر
رؤية وطن بمقدار ما هي رؤية شعب
محرر في وطنه من كل قيد .
هكذا
تعلمنا من ديننا , فلقد قال الله
تعالى لنا
" ومالكم لا تقاتلون في سبيل
الله والمستضعفين من الرجال
والنساء والولدان الذين يقولون
ربنا أخرجنا من هذه القرية
الظالم أهلها , واجعل لنا من
لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك
نصيراً"
*
*
*
وجاءت الرسل يدعونني إلى وطني
وقبلنا أن نتابع النضال من أجل
تحرير هذا الوطن من تحكم طائفة
وحزب فيه , وجاءت الرسل تترى
تدعوني لأن أعود إلى وطني ,
فمالي ولجماعتي , ويؤكد الرسل أن
رئيس جهاز الأمن يقسم بشرفه أن
لا يمسك بسوء .
فقلت له : بلغ تحيتي له وقل له :
سيعود إن شاء الله إلى وطنه
عندما يعود آخر مواطن منفي إليه
, هكذا علمنا الشاعر منذ الصغر
فلا هبطت علي ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم
البلاد
أبنائي وبناتي الستة لا يعرفون
وطنهم , ومحرومون منه
أقربائي دخلوا السجن من عائلتي
أكثر من عشرين مابين رجل وامرأة
وطفل.
وبقي بعضهم سنين أربع وعشر وأكثر
, لأنهم يمتون بالقرابة لي . حتى
أن بعض أقربائي بلغ من خوفه أن
لا يجرؤ على عودته إلى بلده
عشرين عاماً ولم ير أولاده
العشرة ولا أهله !!
كل من
يحمل اسم عائلتي على خطر ,
وعندما أوقفت المخابرات أحدهم
على الحدود قال : أنا لا أعرفه
أنا أشرب الخمر , وقد مات أهلي
بالمقصف الليلي , وكانت هذه هوية
مزوره .
والدتي
كانت في السابعة والثمانين من
عمرها عندما اتصلت بي بالهاتف
سألتها متي ستأتي يا أمي لنراك ؟
قالت : حتى تخلص هي الماخودة
وكانت المراقبة من المخابرات على
الهاتف , وفي اليوم الثاني صعد
اثنان من عناصر المخابرات
للتحقيق مع والدتي , ماذا تعنين
بالماخودة ؟ وقالت لهم : الهوية ,
لا تسمحوا لي بالخروج لرؤية
أولادي حتى تنتهي الهوية ,
ومنعوها من الخروج حيث توفيت
بعيدة عنا وضم جسدها
ثرى بلدها الحبيب . وفقدت
أخواتي الثلاثة دون أن أشهد
وفاتهم وبيني وبينهم حواجز
وحدود .
هذا نموذج من آلاف النماذج أو
عشرات الآلاف التي تعاني الغربة
,وتعاني حرمان الوطن , و تعاني
حرمان الوثيقة والجوازات
لثلاثة أجيال من الأجداد
والأبناء والأحفاد .
أما لهذا الليل من آخر ؟؟
*باحث ثقافي إسلامي
..
|