ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

السبت 10/07/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


الحملة الإنسانية من أجل المفقودين في وطنهم سورية

إبراهيم عاصي : ذلك الأديب الأسير

بمناسبة شهر التضامن مع معتقلي الرأي في سورية

من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين وأردنيين وعرب آخرين

بقلم : محمد الحسناوي*

كان من سوء حظ الشاعر أبي فراس الحمداني أن يقع في أيدي أعدائه الروم . وكان من حسن حظ الأدب العربي أن يطول سجن أبي فراس الحمداني لدى الروم ، حتى يتحف الأدب العربي بروائع شعره ( الروميات ) ، لكن الأديب الموهوب القاص إبراهيم عاصي طال سجنه ، فنيّف على خمسة وعشرين   عاماً ، منذ نيسان 1979م ، ولم نسمع له صوتاً ، فضلاً عن أن نقرأ له شيئاً جديداً . لم تعد اللهفة على مطالعة إنتاجه الجديد وحسب ، وإنما الإشفاق على روحه الطاهرة أن تكون قد أزهقت ، وعلى قرائه  المحبين ، وعلى دوحة الأدب العربي أن يخسروه .

خلال سنوات قليلة أنجز ستة كتب أدبية ، معظمها قصص قصيرة ، هي : ( سلة الرمان – حادثة في شارع الحرية – ولهان والمتفرسون – همسة في أذن حواء – للأزواج فقط – جلسة مفتوحة مع مالك بن  نبيّ ) . ولو أتيح لهذا الرجل المعطاء أن يأخذ حظه من العيش ، لأثرى الأدب العربي والإسلامي بمكتبة أدبية ، لا تقل عن مكتبة المرحومين علي أحمد باكثير ونجيب الكيلاني . ولكن ماذا نقول للأكفّ التي اختطفته في ليلة ظلماء ، وأطبقت على صوته الغريد  وما تزال ؟

يشقّ عليّ يا إبراهيم أن أفتقدك كل هذه المدة ، ويشقّ على عشاق الأدب الجميل المبدع ، الأدب الاجتماعي الإنساني الساخر أن يحال بينك وبينهم خمسة وعشرين عاماً .

ولد الأستاذ إبراهيم في مدينتي جسر الشغور عام 1935م لأبوين رقيقي الحال في عرف الناس ، طيبي النفس في عرف الأخلاق .. زهداً وصلاحاً ، وكان ريحانة أبويه في الوفاء بحقهما ورعايتهما من  جهة ، وبالنهوض بأعباء الأسرة حتى آخر لحظة من لحظات حياته قبل أن يُختطف من بين أحضانها من جهة ثانية . توفيت أمه في حياته ، فحنا على أبيه وأخيه الأصغر ، ورعى زواج أخواته الثلاث زيجات مباركات . لكن اعتقاله كان ضربة قاصمة لوالده الذي لم يعش طويلاً بعد غيابه – رحمه الله تعالى ، وأسكنه فسيح جنانه .

كنتَ لنا جميعاً أباً يا أبا إبراهيم ، وإن عزاءنا بك وبإبراهيم لعظيم .

تفوق إبراهيم دراسياً في المرحلة الابتداية ، وكان ذلك مجازه لنيل منحة الدراسة الداخلية في المرحلة الإعدادية ، ثم دخول دار المعلمين الابتدائية بعد ذلك ، وكان نجاحه آنذاك حدثاً متميزاً في مدينة جسر الشغور لقلة الكفاءات ، ولحصول ذلك لشاب من بيئة رقيقة الحال . ومع دراسته في دار المعلمين الابتدائية درس الشهادة الثانوية ، فنالهما معاً ، وجمع مع عمله الشاق في التعليم الابتدائي بالأرياف .. جمع الدراسة الجامعية في كلية الآداب . وما تدرج سنة أو سنتين في قسم اللغة العربية حتى دُعي إلى الخدمة العسكرية في الجولان ، وكان يحضر بعض محاضرات الجامعة بلباس الجبهة العسكري ، وكان يحقق النجاح تلو النجاح ، ولم يكن يدري أن جسمه الناحل يدفع ضريبة مع كل نجاح .

كنت أسمع به ويسمع بي إلى أن تعارفنا عام 1953م في نهاية دراستي الإعدادية وبداية تخرجه من دار المعلمين الابتدائية ، فاتصلت بيننا المودة والأعمال ، فما نكاد نفترق حتى نلتقي ، وكالضريبة اللازمة ، كان يقضي العطلة الأسبوعية في حلب ، كي نتمتع باللقاء ، وبإنجاز ما يمكن إنجازه من شؤون الأدب والحياة ، وكان هذا دأبنا في السنوات الأخيرة ، إلى أن اختطفته تلك اليد في تلك الليلة الظلماء ، وقذفت بي خارج مكتبتي وبيتي ووطني .

كانت أمسيات حلب الشهباء الساجية ، وأدباؤها المتفنون .. زادنا ونُقلنا ومصابيح مشروعاتنا  الخصبة ، تبدأ بتدارس آخر ما خططناه من شعر وقصص ومقالات ، وتمرّ بدراسة أدب باكثير والتحضير للدراسات الجامعية العالية ، ولا تنتهي إلا في سماء مستقبل أزهر لأمة العرب والمسلمين ، ثم كان جزاؤك وجزائي يا إبراهيم ما رأيت !

زارني مرة يستشيرني في مجموعته القصصية الأولى ( سلة الرمان) التي طال نومها لدى الناشر ، وقد عرضت عليه دار نشر أخرى أن تنشر له شيئاً . أيسحب المجموعة المذكورة ، ويسلمها للدار الأخرى أم ينتظر ؟ قلت له : ولمَ لا تكتب مجموعة جديدة ؟ قال : المدة قصيرة لا تتجاوز خمسة عشر يوماً أو شهراً . قلت : فليكن . فكانت مجموعته القصصية الثانية ( ولهان والمتفرسون ) ، وكانت الانعطاف الأكبر الذي فتح له باب الشهرة الأدبية . أما كيف استطاع اجتراح هذا الإنجاز ، وكيف تناقشنا فيه ، فندعه لفرصة سانحة . أما ( ولهان ) فإحدى الشخصيات التي التقط ملامحها من مجتمع الأزمات : أزمات الفرد رجلاً أو أنثى ، ومن مجتمع جسر الشغور الطريف الذي هو برغم ألوانه الخاصة جزء من مجتمع سورية المسحوق المنتهك جهاراً نهاراٍ . الولهان أصيب بانفصام في الشخصية وهو شاب في مقتبل العمر ، فحلق شعره ( على  الصفر ) ، وصبغ وجهه ، وكحل عينيه ، ونتف حواجبه ، ولبس التنورة النسائية على طريقة  الاسكوتلانديين ، وحذاءً نسوياً ذا كعب عال ، فإذا مرَّ به سرب من الفتيات الكاسيات العاريات صاح   صيحة ، تهز الثقلين ، وصفّق بكفبه ، وضرب بكعبي حذائه ، واستدار دورة كاملة على رجل واحدة ، ثم أخذ يقهقه عالياً قهقهات رنانة ، يجعلك تتساءل : عاقل هذا أم مجنون ؟

حين نشرت هذه القصة لأول مرة في مجلة ( الآداب ) اللبنانية هاجمها عبد الرحمن الربيعي ، فتصديت له أنا والأستاذ عبد الله الطنطاوي ، ودافعنا عن أخينا المبدع إبراهيم دفاعاً يستحقه ، لكن كيف ندافع عنك الآن يا أبا عمار !

أما ( المتفرسون ) فمجوعة من رواد المقاهي العاطلين المتبطلين ، همهم مراقبة الغادين والرائحين ، والتفرس في وجوههم أو أقفيتهم ، لتخمين نفوسهم من خلال حواراتهم السحرية الساخرة في تصوير النفوس وتحليلها . ثم صرت يا إبراهيم ممن نصفه ونتحدث عنه بعد أن كنت ملء السمع والبصر.

شاب ممشوق القامة كالرمح ، عريض المنكبين كالابتسامة ، رقيق الحاشية كالماء الرقراق ، كحيل العيننين كالحلم أو كالحمام ، حاضر البديهة كالأمنيات ، عذب الحديث كشراب الورد ، لاسع السخرية كقرصات النحل ، مشرق الابتسامة كالفجر الضحوك ، أبيض البشرة اسود الشعر كتعانق الليل والنهار ، ومع ذلك لم ترحمه اليد التي اقتلعته من روضته .

لو لم يكن الأستاذ إبراهيم مدرساً للغة العربية وقصاصاً أدبياً لكان أحد نجوم التمثيل لما وهبه الله تعالى من وجه صبيح وملامح لطيفة ، ولو لم يكن خطيباً مفوهاً لكان مطرباً مرموقاً لما لصوته من حلاوة ، وعليه من طلاوة ، فإذا فاتك أن تستمع  إلى إحدى خطبه أو محاضراته ، فاقرأ ما سطره عن الممثلين والمطربات من أمّ كلثوم إلى فهد بلان ، أو ما تناوله من تحليل فلسفي في قصته ( رحلة مع الجمال ): مجموعة من المسافرين الشباب في سيارة أجرة مع شابة جميلة مسافرة مثلهم ، كل منهم يلمّ بها في خياله مشرقاً ومغرباً ، وهي سافرة يتهادى شعرها الريان مع نسمات الهواء طياً ونشراً ، يميناً وشمالاً . أحد المسافرين هام بهذا الجمال ضارباً بالقيم والذوق والأخلاق عرض الحائط ، ولم يجد من الجمال إلا صورته الحسية ، وكانت النتيجة أن جوزي على شهواته العارية بكتل متلاحقة من مخزون معدة الحسناء وبصاقها اللزج الحامض المرّ النتن ! فإبراهيم عرف مواهب الله تعالى وعطاياه ، وعرف كيف يشكره ، ويحسن التعامل معها  في إحقاق الحق ، ونصرة الخير ومقارعة الشر والشيطان وجنودهما .

أخيراً اعتقل الأديب القاص الموهوب إبراهيم عاصي ، واستشهد ولده البكر الطالب الجامعي         ( عمار ) في أحداث 1980م الدامية ، وترملت زوجته ، وما زالت أسرته الصغيرة تطحن في غيابه الملح والكمون ، شأنها شأن الآلاف من الأسر السورية المصابرة ، تعدّ النجوم ، وتجأر بشكواها إلى الحيّ القيوم . وأين تذهب دعوة المظلوم ؟ !

قبل اعتقاله بساعات تداولتُ معه بشأن النزوح عن البلد ، وموجات الاعتقال تحصد الأبرياء ، فقال : ماذا جنيت حتى أغترب عن أهلي وبلدي بلد آبائي وأجدادي وعن وطني ؟ وأنا الآن أتساءل بعد ربع قرن : ماذا جنى أبو عمار المدرس الأديب المربي ؟ وماذا جنت أسرته ومحبّوه ومحبّو أدبه ؟ بل ماذا جنت كل هذه الآلاف المؤلفة من المعتقلين أمثال أبي عمار ؟!

نحن إخوانك يا أبا عمار ما زلنا على درب الرسالة سائرين ، فلتطمئن روحك الطيبة في عليين .

ولا بدّ أن يشرق يوم على سورية ، يأخذ فيها إنسانها حقوقه كاملة بإذن الله ، ويتخلص نهائياً من ضغوط الكبت .

* كاتب سوري عضو رابطة أدباء الشام

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ