الحملة
الإنسانية من أجل المفقودين في
وطنهم سورية
إبراهيم
عاصي : ذلك الأديب الأسير
بمناسبة
شهر التضامن مع معتقلي الرأي في
سورية
من
سوريين ولبنانيين وفلسطينيين
وأردنيين وعرب آخرين
بقلم : محمد
الحسناوي*
كان من سوء حظ الشاعر أبي فراس
الحمداني أن يقع في أيدي أعدائه
الروم . وكان من حسن حظ الأدب
العربي أن يطول سجن أبي فراس
الحمداني لدى الروم ، حتى يتحف
الأدب العربي بروائع شعره (
الروميات ) ، لكن الأديب الموهوب
القاص إبراهيم عاصي طال سجنه ،
فنيّف على خمسة وعشرين عاماً ، منذ نيسان 1979م ، ولم
نسمع له صوتاً ، فضلاً عن أن
نقرأ له شيئاً جديداً . لم تعد
اللهفة على مطالعة إنتاجه
الجديد وحسب ، وإنما الإشفاق
على روحه الطاهرة أن تكون قد
أزهقت ، وعلى قرائه
المحبين ، وعلى دوحة الأدب
العربي أن يخسروه .
خلال سنوات قليلة أنجز ستة
كتب أدبية ، معظمها قصص قصيرة ،
هي : ( سلة الرمان – حادثة في
شارع الحرية – ولهان
والمتفرسون – همسة في أذن حواء
– للأزواج فقط – جلسة مفتوحة مع
مالك بن نبيّ ) . ولو أتيح لهذا الرجل
المعطاء أن يأخذ حظه من العيش ،
لأثرى الأدب العربي والإسلامي
بمكتبة أدبية ، لا تقل عن مكتبة
المرحومين علي أحمد باكثير
ونجيب الكيلاني . ولكن ماذا نقول
للأكفّ التي اختطفته في ليلة
ظلماء ، وأطبقت على صوته الغريد
وما تزال ؟
يشقّ عليّ يا إبراهيم أن
أفتقدك كل هذه المدة ، ويشقّ على
عشاق الأدب الجميل المبدع ،
الأدب الاجتماعي الإنساني
الساخر أن يحال بينك وبينهم
خمسة وعشرين عاماً .
ولد الأستاذ إبراهيم في
مدينتي جسر الشغور عام 1935م
لأبوين رقيقي الحال في عرف
الناس ، طيبي النفس في عرف
الأخلاق .. زهداً وصلاحاً ، وكان
ريحانة أبويه في الوفاء بحقهما
ورعايتهما من جهة ، وبالنهوض بأعباء الأسرة حتى
آخر لحظة من لحظات حياته قبل أن
يُختطف من بين أحضانها من جهة
ثانية . توفيت أمه في حياته ،
فحنا على أبيه وأخيه الأصغر ،
ورعى زواج أخواته الثلاث زيجات
مباركات . لكن اعتقاله كان ضربة
قاصمة لوالده الذي لم يعش
طويلاً بعد غيابه – رحمه الله
تعالى ، وأسكنه فسيح جنانه .
كنتَ لنا جميعاً أباً يا أبا
إبراهيم ، وإن عزاءنا بك
وبإبراهيم لعظيم .
تفوق إبراهيم دراسياً في
المرحلة الابتداية ، وكان ذلك
مجازه لنيل منحة الدراسة
الداخلية في المرحلة الإعدادية
، ثم دخول دار المعلمين
الابتدائية بعد ذلك ، وكان
نجاحه آنذاك حدثاً متميزاً في
مدينة جسر الشغور لقلة الكفاءات
، ولحصول ذلك لشاب من بيئة رقيقة
الحال . ومع دراسته في دار
المعلمين الابتدائية درس
الشهادة الثانوية ، فنالهما
معاً ، وجمع مع عمله الشاق في
التعليم الابتدائي بالأرياف ..
جمع الدراسة الجامعية في كلية
الآداب . وما تدرج سنة أو سنتين
في قسم اللغة العربية حتى دُعي
إلى الخدمة العسكرية في الجولان
، وكان يحضر بعض محاضرات
الجامعة بلباس الجبهة العسكري ،
وكان يحقق النجاح تلو النجاح ،
ولم يكن يدري أن جسمه الناحل
يدفع ضريبة مع كل نجاح .
كنت أسمع به ويسمع بي إلى أن
تعارفنا عام 1953م في نهاية
دراستي الإعدادية وبداية تخرجه
من دار المعلمين الابتدائية ،
فاتصلت بيننا المودة والأعمال ،
فما نكاد نفترق حتى نلتقي ،
وكالضريبة اللازمة ، كان يقضي
العطلة الأسبوعية في حلب ، كي
نتمتع باللقاء ، وبإنجاز ما
يمكن إنجازه من شؤون الأدب
والحياة ، وكان هذا دأبنا في
السنوات الأخيرة ، إلى أن
اختطفته تلك اليد في تلك الليلة
الظلماء ، وقذفت بي خارج مكتبتي
وبيتي ووطني .
كانت أمسيات حلب الشهباء
الساجية ، وأدباؤها المتفنون ..
زادنا ونُقلنا ومصابيح
مشروعاتنا
الخصبة ، تبدأ بتدارس آخر ما
خططناه من شعر وقصص ومقالات ،
وتمرّ بدراسة أدب باكثير
والتحضير للدراسات الجامعية
العالية ، ولا تنتهي إلا في سماء
مستقبل أزهر لأمة العرب
والمسلمين ، ثم كان جزاؤك
وجزائي يا إبراهيم ما رأيت !
زارني مرة يستشيرني في
مجموعته القصصية الأولى ( سلة
الرمان) التي طال نومها لدى
الناشر ، وقد عرضت عليه دار نشر
أخرى أن تنشر له شيئاً . أيسحب
المجموعة المذكورة ، ويسلمها
للدار الأخرى أم ينتظر ؟ قلت له :
ولمَ لا تكتب مجموعة جديدة ؟ قال
: المدة قصيرة لا تتجاوز خمسة
عشر يوماً أو شهراً . قلت : فليكن
. فكانت مجموعته القصصية
الثانية ( ولهان والمتفرسون ) ،
وكانت الانعطاف الأكبر الذي فتح
له باب الشهرة الأدبية . أما كيف
استطاع اجتراح هذا الإنجاز ،
وكيف تناقشنا فيه ، فندعه لفرصة
سانحة . أما ( ولهان ) فإحدى
الشخصيات التي التقط ملامحها من
مجتمع الأزمات : أزمات الفرد
رجلاً أو أنثى ، ومن مجتمع جسر
الشغور الطريف الذي هو برغم
ألوانه الخاصة جزء من مجتمع
سورية المسحوق المنتهك جهاراً
نهاراٍ . الولهان أصيب بانفصام
في الشخصية وهو شاب في مقتبل
العمر ، فحلق شعره ( على
الصفر ) ، وصبغ وجهه ، وكحل
عينيه ، ونتف حواجبه ، ولبس
التنورة النسائية على طريقة
الاسكوتلانديين ، وحذاءً
نسوياً ذا كعب عال ، فإذا مرَّ
به سرب من الفتيات الكاسيات
العاريات صاح
صيحة ، تهز الثقلين ، وصفّق
بكفبه ، وضرب بكعبي حذائه ،
واستدار دورة كاملة على رجل
واحدة ، ثم أخذ يقهقه عالياً
قهقهات رنانة ، يجعلك تتساءل :
عاقل هذا أم مجنون ؟
حين نشرت هذه القصة لأول مرة
في مجلة ( الآداب ) اللبنانية
هاجمها عبد الرحمن الربيعي ،
فتصديت له أنا والأستاذ عبد
الله الطنطاوي ، ودافعنا عن
أخينا المبدع إبراهيم دفاعاً
يستحقه ، لكن كيف ندافع عنك الآن
يا أبا عمار !
أما ( المتفرسون ) فمجوعة من
رواد المقاهي العاطلين
المتبطلين ، همهم مراقبة
الغادين والرائحين ، والتفرس في
وجوههم أو أقفيتهم ، لتخمين
نفوسهم من خلال حواراتهم
السحرية الساخرة في تصوير
النفوس وتحليلها . ثم صرت يا
إبراهيم ممن نصفه ونتحدث عنه
بعد أن كنت ملء السمع والبصر.
شاب ممشوق القامة كالرمح ،
عريض المنكبين كالابتسامة ،
رقيق الحاشية كالماء الرقراق ،
كحيل العيننين كالحلم أو
كالحمام ، حاضر البديهة
كالأمنيات ، عذب الحديث كشراب
الورد ، لاسع السخرية كقرصات
النحل ، مشرق الابتسامة كالفجر
الضحوك ، أبيض البشرة اسود
الشعر كتعانق الليل والنهار ،
ومع ذلك لم ترحمه اليد التي
اقتلعته من روضته .
لو لم يكن الأستاذ إبراهيم
مدرساً للغة العربية وقصاصاً
أدبياً لكان أحد نجوم التمثيل
لما وهبه الله تعالى من وجه صبيح
وملامح لطيفة ، ولو لم يكن
خطيباً مفوهاً لكان مطرباً
مرموقاً لما لصوته من حلاوة ،
وعليه من طلاوة ، فإذا فاتك أن
تستمع إلى
إحدى خطبه أو محاضراته ، فاقرأ
ما سطره عن الممثلين والمطربات
من أمّ كلثوم إلى فهد بلان ، أو
ما تناوله من تحليل فلسفي في
قصته ( رحلة مع الجمال ): مجموعة
من المسافرين الشباب في سيارة
أجرة مع شابة جميلة مسافرة
مثلهم ، كل منهم يلمّ بها في
خياله مشرقاً ومغرباً ، وهي
سافرة يتهادى شعرها الريان مع
نسمات الهواء طياً ونشراً ،
يميناً وشمالاً . أحد المسافرين
هام بهذا الجمال ضارباً بالقيم
والذوق والأخلاق عرض الحائط ،
ولم يجد من الجمال إلا صورته
الحسية ، وكانت النتيجة أن جوزي
على شهواته العارية بكتل
متلاحقة من مخزون معدة الحسناء
وبصاقها اللزج الحامض المرّ
النتن ! فإبراهيم عرف مواهب الله
تعالى وعطاياه ، وعرف كيف يشكره
، ويحسن التعامل معها
في إحقاق الحق ، ونصرة الخير
ومقارعة الشر والشيطان
وجنودهما .
أخيراً اعتقل الأديب القاص
الموهوب إبراهيم عاصي ، واستشهد
ولده البكر الطالب الجامعي
( عمار ) في أحداث 1980م
الدامية ، وترملت زوجته ، وما
زالت أسرته الصغيرة تطحن في
غيابه الملح والكمون ، شأنها
شأن الآلاف من الأسر السورية
المصابرة ، تعدّ النجوم ، وتجأر
بشكواها إلى الحيّ القيوم . وأين
تذهب دعوة المظلوم ؟ !
قبل اعتقاله بساعات تداولتُ
معه بشأن النزوح عن البلد ،
وموجات الاعتقال تحصد الأبرياء
، فقال : ماذا جنيت حتى أغترب عن
أهلي وبلدي بلد آبائي وأجدادي
وعن وطني ؟ وأنا الآن أتساءل بعد
ربع قرن : ماذا جنى أبو عمار
المدرس الأديب المربي ؟ وماذا
جنت أسرته ومحبّوه ومحبّو أدبه
؟ بل ماذا جنت كل هذه الآلاف
المؤلفة من المعتقلين أمثال أبي
عمار ؟!
نحن إخوانك يا أبا عمار ما
زلنا على درب الرسالة سائرين ،
فلتطمئن روحك الطيبة في عليين .
ولا بدّ أن يشرق يوم على سورية
، يأخذ فيها إنسانها حقوقه
كاملة بإذن الله ، ويتخلص
نهائياً من ضغوط الكبت .
* كاتب سوري عضو
رابطة أدباء الشام
|