عام
على أبو غريب:
أين
المحاسبة؟
بقلم:
علاء بيومي*
تحل في أواخر شهر أبريل الحالي
الذكرى السنوية الأولى لفضيحة
تعذيب المعتقلين العراقيين
بسجن "أبو غريب" القريب من
العاصمة العراقية بغداد، والتي
فجرتها شبكة تلفزيون CBS الأمريكية في الثامن والعشرين من
أبريل 2004
بعد
أن نشرت صورا تكشف عما يتعرض له
المعتقلون العراقيون من تعذيب
على أيدي القوات الأمريكية بسجن
"أبو غريب".
وفي هذه المناسبة رأينا أن نتناول
أبعاد الفضيحة التي هزت أمريكا
والعالم بعد مرور عام عليها
والتي نلخصها في أبعاد ثلاثة
رئيسية تبلورت خلال العام
الفائت.
أولا: ما صدر خلال العام الماضي من
وثائق رسمية ومعلومات صحفية عن
فضائح التعذيب بالمعتقلات
الأمريكية كشف أن الفضيحة هي
أكبر بكثير مما كان متوقعا بسبب
انتشار التعذيب في المعتقلات
الأمريكية عبر العالم والتنوع
الخطير للانتهاكات التي تعرض
لها المعتقلون.
ثانيا: نتائج التحقيقات كشفت عن
ارتكاب القيادة الأمريكية - على
أعلى المستويات - أخطاء عديدة
ومتكررة أوجدت بيئة سمحت بوقوع
التعذيب وبانتشاره.
ثالثا: على الرغم من مرور عام على
تفجر الفضيحة لم يتم حتى الآن
الكشف عن كافة أبعادها أو
محاسبة كبار المسئولين عنها.
وفيما يلي عرض أكثر تفصيلا لأبعاد
الفضيحة السابق تحديدها.
فضيحة متجددة
أحد أخطر أبعاد فضيحة أبو غريب هو
أنها لم تتوقف منذ تفجرها في
أواخر شهر أبريل 2004 حتى الآن،
فكل أسبوع تقريبا تصدر تقارير
رسمية أو صحفية تكشف عن أبعاد
جديدة خطيرة لفضائح التعذيب
بالمعتقلات الأمريكية لم يكن
ليصدقها أحد قبل أبو غريب، وذلك
للأسباب التالية:
-
تعذيب السجناء بالمعتقلات
الأمريكية لم يقتصر على أبو
غريب بل أنه امتد للمعتقلات
الأمريكية عبر العراق وفي
أفغانستان وفي جوانتانامو.
-
بات من الواضح أن كثير من
المعتقلين الذين تعرضوا
للتعذيب بالمعتقلات الأمريكية
لم يكونوا على أي صلة بأية
عمليات أو جماعات سياسية أو
مسلحة، فقد أشارت تقارير وكالات
مدنية كالصليب الأحمر وهيئات
تحقيق أمريكية رسمية إلى أن 70-90%
من المعتقلين بالسجون
الأمريكية بالعراق هم من
الأبرياء.
كما قدر تقرير لجنة مستقلة - شكلها
البنتاجون في مايو 2004 برئاسة
وزير الدفاع الأمريكي السابق
جيمس شليزينجر للتحقيق في أوضاع
المعتقلات الأمريكية - عدد
المعتقلين بالسجون الأمريكية
في العراق وأفغانستان بحوالي
خمسين ألف معتقل، والغريب أن
التقرير توصل إلى أن كثير من
المعتقلين تعرضوا للتعذيب
والإهانة بدون داع وليس لأهداف
تتعلق بالتحقيق معهم، مما يشير
إلى انتشار التعذيب بسبب وبدون
سبب.
-
أساليب التعذيب والانتهاكات
التي تعرض لها المعتقلون على
أيدي القوات الأمريكية فاقت كل
تصور من حيث انحرافها النفسي
والأخلاقي، وفيما يلي بعض
الأمثلة المختصرة.
*
توفي
أكثر من معتقل بالسجون
الأمريكية في العراق
وأفغانستان على أثر التعذيب،
وتشير تقارير صحفية ورسمية إلى
أن القوات الأمريكية تسترت على
بعض هذه الحالات وحاولت عدم
إدراج المعتقلين المقتولين في
سجلاتها تجنبا للمسائلة.
*
تعرض
المعتقلون بشكل متكرر للتعذيب
الجنسي من خلال حبسهم وتصويرهم
وهم عراة، والاعتداء جنسيا على
بعضهم.
*
اشتكى
خبراء بوكالة حقوق الإنسان
التابعة للأمم المتحدة في شهر
فبراير الماضي من أن التعذيب
الذي تعرض له المعتقلون في
جوانتانامو أدى لإصابة بعضهم
بأمراض نفسية وعصيبة قد لا
يشفون منها، كما أشارت تقارير
إلى أن التعذيب دفع بعض
المعتقلين بجوانتانامو لمحاولة
الانتحار.
*
أشارت
تقارير لوجود عشرات الأطفال بين
المعتقلين في العراق
وأفغانستان.
*
قامت
المخابرات الأمريكية بترحيل
بعض المعتقلين بشكل سري لبعض
دول العالم الثالث لكي يعذبوا
فيها دون قيود تحول دون ذلك.
الطريق إلى أبو غريب
"الطريق إلى أبو غريب" هو
مصطلح استخدمه كتاب أمريكيون
مثل سيمور هيرش ومنظمات حقوقية
كمنظمة "مراقبة حقوق الإنسان"
لتلخيص بعد خطير من أبعاد فضيحة
التعذيب بالمعتقلات الأمريكية،
وهو البعد الخاص بمسئولية كبار
القادة السياسيين والعسكريين
الأمريكيين عن هذه الفضيحة
والتي تكشفت تدريجيا خلال العام
الماضي، إذ بات واضحا أن
الإدارة الأمريكية ارتكبت
سلسلة من الأخطاء المتكررة التي
سمحت بوقوع التعذيب وانتشاره
حتى ولو لم تشجعه بشكل مباشر،
ويكمن تلخيص هذه الأخطاء في
نوعين رئيسيين.
النوع الأول بات يعرف باسم "المذكرات"
أو سلسلة من المذكرات الحكومية
السرية التي وقعها كبار
المسئولين الأمريكيين وعلى
رأسهم الرئيس الأمريكي جورج
دبليو بوش وكتبها مستشاريهم
القانونيين للتشاور حول كيفية
التعامل مع المعتقلين في
أفغانستان والعراق، وهي مذكرات
- كما سنوضح في الفقرات التالية -
أوجدت بيئة من عدم الوضوح
والتخبط والتساهل القانوني
بخصوص استخدام التعذيب مما ساعد
على وقوعه وانتشاره.
وتعود أولى هذه المذكرات إلى
أوائل عام 2002 حين أرسل مساعد
وزير العدل الأمريكي جاي بايبي
– والذي أصبح قاضيا فيدراليا
فيما بعد - رسالة إلى مستشار
البيت الأبيض القانوني –
ألبرتو جونزاليس – وزير العدل
الأمريكي حاليا – يروج فيها
لفكرة أن الدستور الأمريكي يجعل
من حق الرئيس إعلان عدم التزامه
بتطبيق القوانين الدولية في
تعامله مع أسرى حرب أفغانستان
بحكم أن أفغانستان هي دولة
منهارة، وذلك بهدف حماية الجنود
الأمريكيين من مغبة الوقوع تحت
طائلة القانون الدولي.
وقد قابلت وزارة الخارجية
الأمريكية هذه المذكرة بانزعاج
شديد حيث أرسل وزير الخارجية
الأمريكي السابق كولين باول
رسالة إلى جونزاليس يندد فيه
بالمنطق الملتوي الذي حاول
جونزاليس ومستشارو وزارة العدل
ترويجه لأنه يفتح الباب أمام
دول أخرى لإعلان عدم التزامها
بالقوانين الدولية.
وفضا لهذا النزاع أرسل بوش في
أبريل 2002 مذكرة لفريق الأمن
القومي المساعد له أكد فيها على
أنه يمتلك سلطة إعلان عدم
انطباق اتفاقية جنيف الخاصة
بمعاملة أسرى الحرب على أسرى
الصراع في أفغانستان ولكنه لن
يستخدم هذه السلطة.
وفي أغسطس 2002 أرسل بايبي مذكرة
أخرى أكثر خطورة إلى جونزاليس
سعى فيها لإعادة تعريف التعذيب
مستخدما تعريفا ضيقا جدا يساوي
بين ألم التعذيب والألم الناتج
عن فشل عضو من أعضاء الجسد، كما
روجت المذكرة ذاتها لفكرة
إمكانية إيجاد تبريرات قانونية
للتعذيب.
وفي مثال ثالث أصدر وزير الدفاع
الأمريكي دونالد رامسفيلد
مذكرة في ديسمبر 2002 تسمح
باستخدام 16 أسلوبا من أساليب
التعذيب، وقد قام رامسفيلد في
يناير 2003 بسحب موافقته على
غالبية الأساليب التي سمح بها
في مذكرة ديسمبر، ولكنه عاد
وأكد في مذكرة يناير على أنه
يمكن استخدام أساليب تعذيب أشد
قسوة مع بعض المتهمين بشرط
الحصول على موافقة مباشرة منه
وفقا لكل حالة.
وبدون شك أسهمت هذه المذكرات
ومذكرات وسياسات أخرى اتخذت –
لا يتسع لها هذا المقال- في
إيجاد بيئة من الضبابية والتخبط
السياسي والقانوني بخصوص
السماح بالتعذيب من عدمه مما
صعب من مهمة صغار الجنود
والضباط في الحيلولة دون وقوع
التعذيب.
أما النوع الثاني من الأخطاء التي
وقعت فيها الإدارة فيتعلق
بحقيقة أن كبار مسئولي
البنتاجون والإدارة الأمريكية
كانوا على علم بوجود انتهاكات
لحقوق المعتقلين في السجون
الأمريكية ولم يتحركوا سريعا
للتحقيق في هذه الانتهاكات أو
لوقفها، وهنا ترى منظمات حقوقية
مثل إتحاد "الحريات المدنية
الأمريكي" ومنظمة "حقوق
الإنسان أولا" أن كبار مسئولي
الإدارة كانوا على علم بوقوع
حوادث التعذيب منذ أواخر عام 2001،
كما أن منظمات حقوق الإنسان
كمنظمة العفو الدولية كتبت عدة
رسائل لرامسفيلد بداية في يناير
2002 تعبر فيها عن قلقها بخصوص
أسلوب معاملة المعتقلين في
أفغانستان، هذا إضافة إلى
العديد من التقارير الصحفية
التي كشفت عن وقوع التعذيب، ومع
ذلك لم تتحرك الإدارة سريعا
للتحقيق في الأمر ووقف
الانتهاكات.
أين المحاسبة؟
في الحادي والعشرين من مارس
الماضي كتب دايفيد كول داعية
الحقوق المدنية الأمريكي
المعروف وأستاذ القانون بجامعة
جورج تاون الأمريكية مقالا في
مجلة ذا نايشين الأمريكية
يتساءل فيه عن أسباب فشل
الإدارة الأمريكية والكونجرس
في تشكيل لجنة مستقلة ذات
إمكانيات وسلطات كافية للتحقيق
في أبعاد فضائح التعذيب والوقوف
على أسبابها خاصة وأن المسئولين
الأمريكيين سبق وأنفقوا 73 مليون
دولار للتحقيق في علاقة الرئيس
الأمريكي السابق بيل كلينتون
بإحدى المتدربات بالبيت الأبيض.
فقد طالبت العديد من منظمات حقوق
الإنسان والحريات المدينة
الأمريكية الكونجرس الأمريكي
تكرارا بتشكيل لجنة تحقيق على
غرار اللجنة التي شكلت للتحقيق
في أسباب حوادث الحادي عشر من
سبتمبر 2001 للتحقيق في فضائح
التعذيب بالمعتقلات الأمريكية
والكشف عن كافة أبعادها وعن
المسئولين عنها على أن تمتلك
هذه اللجنة موارد كافية وسلطة
استدعاء الشهود الضروريين
للشهود أمامها.
في المقابل اكتفى المسئولون
الأمريكيون بإجراء تحقيقات
داخلية في بعض المؤسسات كوزارتي
العدل والدفاع والاستخبارات
الأمريكية للكشف عن أبعاد
الفضيحة وهي نفس الهيئات التي
تتحمل الجزء الأكبر من مسئولية
وقوع التعذيب وانتشاره، هذا
إضافة إلى مقاضاة بعض صغار
الجنود الذين شاركوا في
التعذيب، ووقف بعض المسئولين
مثل جانيس كاربينسكي المسئولة
السابقة عن معتقلات الجيش
الأمريكي بالعراق، وعقد سلسلة
من جلسات الاستماع قصيرة العمر
بالكونجرس في صيف عام 2004 تزامنت
مع اشتعال موسم انتخابات
الرئاسة الأمريكية.
ولكن بعد انتهاء الانتخابات بفوز
الرئيس جورج دبليو بوش بالبيت
الأبيض وفوز حزبه الجمهوري
بمزيد من السيطرة على الكونجرس
بمجلسيه ودخول الحزب
الديمقراطي نوع من الأزمة
الناجمة عن تراجع مكانته
السياسية ونفوذ ممثليه تلاشت
تدريجيا المساعي السياسية
الرامية للحد من التعذيب
وانتشاره فيما عدا عدد من
مشاريع القوانين التي قدمها
أعضاء الكونجرس في عام 2005 للحد
من التعذيب وانتشاره والتي
مازالت في حيز التقديم والسعي
لجذب تأييد أعضاء الكونجرس.
ولكن هذه الظروف لم تضعف إرادة
العديد من منظمات حقوق الإنسان
والحريات الأمريكية التي لجأت
إلى رفع العديد من القضايا في
محاولة لاستخدام القضاء للضغط
على الإدارة الأمريكية للإفراج
عن مزيد من وثائقها وسياساتها
وتحقيقاتها الخاصة بالتعذيب،
وكذلك للوقوف عن مسئولية كبار
المسئولين الأمريكيين في
الفضيحة التي هزت أمريكا
والعالم، وفي أحد أحدث هذه
القضايا رفع اتحاد الحريات
المدنية الأمريكي ومنظمة حقوق
الإنسان أولا قضية في أوائل
مارس 2005 تنادي بمسئولية وزير
الدفاع الأمريكي دونالد
رامسفيلد نفسه عن التعذيب الذي
تعرض له سبعة من المعتقلين
بأفغانستان والعراق.
ومازالت جهود منظمات الحريات
المدنية الأمريكية - والعديد من
قطاعات الشعب الأمريكي
المساندة لها - للمطالبة
بالتحقيق في أبعاد فضائح
التعذيب والكشف عن المسئولين
عنها ومحاسبتهم مستمرة حتى
يومنا هذا.
*مدير
الشئون العربية بمجلس العلاقات
الإسلامية الأمريكية (كير)
كير-واشنطن:
26 أبريل 2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|