حوارات
استشرافية
أوغاريت
يونان في توصيف الدلالة
..
بصدد
الديمقراطية واللاعنف
أنّ
ما يُسمّى انتخابات في معظم
الدول? العربية ليس أكثر من
تمثيليّة متكرّرة وذات نهايات
معلنة مسبقاً. وأمّا
الديمقراطية فهي سلوك يوميّ
متكامل، وهي بنية نفسيّة، وهي
أيضاً بنية ذهنية، قبل أن تكون
نمط حكم أو نظاماً ما. فهل
نتربّى في مجتمعاتنا العربية،
ومنذ الصغر، على الديمقراطيّة
فهيئات
حقوق الإنسان مدعوة إلى مراجعة
الذات، أفراداً? وتنظيمات.
يصفون
هيئات حقوق الإنسان، وكأنّها
فروعٌ لـِ "حزبٍ" كبير هو
الأمم? المتّحدة ونصوصها
العالمية
هناك
هيئات أخرى يُشار إليها بوصفها
مشكوكٌ بأمرها،? ويُقصد بها
عموماً تلك المرتهنة لقوى
خارجيّة
إنّها
المهزلة التي استدعت? جهوداً
عالمية، ومن ضمنها جهود عربية،
لوضع اتّفاقية لحماية نشطاء
حقوق الإنسان.
هيئات
حقوق الإنسان لا تبدو جماهيرية،
لا لأنها تخصّصية وحقوقيّة?
فقط، بل لأنّها ابتعدت عن
العلاقة المباشرة مع الناس،
المنتهكة
حقوقهم
بالذات، وابتعد خطابها عن لغة
الناس.
ينسحب
هذا السجال على أكثر من شأن
حياتي وسياسي معيوش، حيث جاء
بصيغة توصيفية خصوصاً ما يتعلق
بالمبادئ والشرعية الدولية
لقضايا حقوق الإنسان والإلتزام
بالإداء المطلبي على مستويات
التعبئة المجتمعية التي تؤديها
هيئات وجمعيات ومنظمات عربية
وعالمية، حيث بعض هذه المنظمات
تستمد حصانتها متمثلة كفروع
لمراكز تأخذ من الغرب مكاناً
لها، وبعضها الآخر تعمل بصورة
رسمية وتتابع أنشطتها كواحدة من
المنظمات التي لا تتعاطى إلاّ
ما لها شأناً فيه وفق ظروف عملها
والفرص المتاحة لها في كل بلد.
في
هذا السجال نعارض بعض الوجهات
إنطلاقاً من مبدأ الإختلاف
ونقارب بعضها. وقد انسحب الكلام
في حوارنا مع أوغاريت يونان
كواحدة من الأقطاب المطلبية
والتحررية الفكرية والمجتمعية،
ولكن دون الغوص في تجربتها
النضالية، وأيضاً كباحثة في
شؤون المجتمع، إضافة الى كونها
من مؤسّسي حركة مدنيّة حديثة في
لبنان تُدعى " حركة حقوق
الناس " (1988). ويُذكر عبر منشور
مُصغر وقع بين أيدينا بأن لهذه
الحركة دوراً هاماً بإثارة عدد
من القضايا والموضوعات
المستعصية، في لبنان، مثل إقرار
مشروع الزواج المدني، مروراً
بإدخال مفهوم " إدارة
النزاعات بالطرق اللاعنفية "
في كتاب التربية للمرحلة
الثانوية".، إلى إعادة النظر
في التعليم الديني في المدارس،
إلى إلغاء عقوبة الإعدام، وإلى
تكريس حقوق أكثر للعمّال
والمعلّمين.
الدكتورة
أوغاريت يونان لها مؤلف " كيف
نتربى على الطائفية "، وهو
كناية عن تحليل نفسي - سياسي
لشخصية من ينشأ على التعصّب
والعنصرية أي على الطائفية.
والكتاب حصيلة عمل ميداني مباشر
مع مئات الشباب في لبنان منذ
العام 1990، ومن كل الانتماءات
والمناطق، حيث يكشفون عن
الترسّبات العدائية الكامنة
بداخل كل منهم والتي تدفع بهم
نحو الخوف والنفور وصولاً إلى
إلغاء الآخر المختلف.
عبر
حديثنا مع أوغاريت نتبين عمق
المشكلات التي تعيشها "
جمعيات حقوق الإنسان " بشكلها
الحالي الذي لا يرضي أحياناً
حتى القائمين على هذه الجمعيات.
-
ما
الذي تريد أن تقوله أوغاريت
يونان للأذن العربية ونحن في
مواجهة قرن مضى؟
-
كيف
تنظر هذه المرأة الى واقع هيئات
ومنظمات حقوق الإنسان ؟
-
ما
هي الأسس والمسوغات التي تنطلق
من خلالها ؟
-
كيف
تقرأ العلاقة القائمة بين
منظمات محلية وأخرى تأخذ من
الغرب مكاناً لها ؟
ما
تقويمها لمأزق الديمقراطية
وحقوق الإنسان؟
/
أحمد سليمان
س: د. أوغاريت يونان،أسئلتنا كثيرة
ومتشعبة. بعضها يتعلق بالقرن
العشرين وأخرى برهان
الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وكيف تتم قراءة واقع المنظمات
والهيئات الأهلية التي تعنى
بالدفاع عن حقوق الإنسان؟ سؤالي
الأول ألخصه حول انتقال
المواثيق السياسية إلى بنود
حقوقية في القرن العشرين على
اعتبار ذلك أن هيئات حقوق
الإنسان حديثة في نمطها لا بل
انها واحدة من أهم مخاضات القرن
العشرين وعلامة تحول فيه. نبدأ
قراءة المشهد الآفل..
ج: هيئات حقوق الإنسان نمطٌ حديث
في العمل السياسي في العالم.
إنّها اختراع القرن العشرين
وعلامة تحوّل فيه.
وحيث عرفنا الأحزاب الكبرى ذات
المركزيّة العالية والحشود
الجماهيريّة. فأتى هذا النمط
الحديث (لهيئات حقوق الإنسان
ومثيلاتها من الهيئات
المدنيّة)، ليجزّئ ويوزّع
القوى. ولا عجب أن نرى العديد
ممّن كانوا في قيادات الأحزاب
اليساريّة والوطنيّة، ينتقلون
من تلك التنظيمات الكبرى إلى
الهيئات المجزّأة.
وأيضاً عرفنا في هذا القرن،
النظريّات الكبرى. وأبرزها
الماركسية والمانيفست الشيوعي.
ومع مساعي القوى الليبرالية
والرأسماليّة الكبرى لضرب
الشيوعية والاشتراكية، كان لا
بدّ من خلق بديل أو نمط موازٍ
يجذب المناضلين ويمدّهم بقوّة
"أمميّة". فأتى نمط هيئات
حقوق الإنسان، بنصوصٍ معولمة
للحقوق، بدت وكأنّها حصيلة
لتيّارات عدّة مع غلبة للتيّار
الليبرالي بالطبع.
وما اكتنفه القرن العشرين هو ذلك
الحيز الواضح لانتقال المواثيق
السياسية ، إلى بنود حقوقيّة،
المتوّجة بديباجة موحّدة
الأسلوب، بما يوحي بأنّ من صاغ
هذا الميثاق إنّما هم الناس
أي"نحن الموقّعين
أدناه".فأُعطيت للمرّة
الأولى في تاريخنا، سلطة
قانونيّة دوليّة للنصوص
السياسيّة والحقوقيّة، بحيث
باتت هي القاعدة القانونيّة
لكلّ بلد (بعد أن يوقّع عليها)،
وهي ميثاق الدولة والمجتمع
معاً. فانتقلت النصوص التي تعنى
بالحقوق والحريّات من كونها
مادّة معارضة تطرحها قوى
المجتمع لتحسين النظام، إلى
مادّة مشتركة للدولة والمجتمع
معاً. وانتقلت فوراً، ومن دون صراع
تقريباً، إلى موقع
"السلطة"، وباتت هي
القانون الملزم. وقد زُودّت
لهذا الغرض، بآليات خاصّة
وبأجهزة وبمؤسّسات ومسؤولين
وبإمكانيّات مادّية ومعنويّة،
مهمّتها متابعة عملية
"التبشير" بها وتطبيقها
ومحاسبة من لا يلتزم، بالوسائل
السياسيّة المتاحة.
وسوف نكتشف بأن هذا القرن احتوى
على نمط هيئات حقوق الإنسان -
الأمم المتّحدة - تغييراً في
واقع مجتمعاتنا، من خارجها.
فبتنا نفضّل أن نُحضر النصوص
العالمية وأن ننشرها وأن نلزم
حكوماتنا بالمصادقة عليها،
فتتعدّل قوانيننا.
إنّها نمط العصر، الذي لم يعد
ممكناً على ما يبدو إيقاف مدّه
وتدخّله فينا وحتّى انتمائنا
إليه. بات هو المرجع والسند.
يتعيّن علينا ربّما في البداية
تصحيح إلتباسين يلفّان هذا
الموضوع، تارةً لدى السائل
وطوراً لدى المجيب.
فمن وجهة أولى، يتمّ التعامل مع
مفردة "حقوق الإنسان"
بمعناها المثاليّ والمطلق،
بحيث يُنظَر إلى الهيئة التي
تحمل هذا الإسم وكأنّها
"حامية" الإنسان وحقوقه
بالمطلق. أو كأنّها
"المنقذ" من الانتهاكات
التي لا تُحصى بحقّ الإنسان،
وعلى المستويات كافّة.
ويغيب بالتالي عن بالنا، أنّ حقوق
الإنسان والناس والشعوب
والمجتمعات، قائمة منذ ما قبل
تشكيل هيئات محدّدة تحمل إسم
حقوق الإنسان، كما أنّ النضال
من أجل تلك الحقوق قائم على
امتداد البشرية، وفي كلّ
الأزمنة والأمكنة، ومن قِبل
الأفراد والهيئات على أنواعها
(أحزاب، جمعيّات،
نقابات، أطر ثقافيّة، الخ…).
وعليه، فإنّ لهيئات حقوق
الإنسان دور في الاهتمام
بالإنسان وبحقوقه، ولكنّها لا
تختصر بذاتها الدور كلّه
المفترض القيام به لمواجهة
الانتهاكات والظلم.
ومن وجهة ثانية، يتمّ التعامل مع
الهيئات التي تشكّلت وفق النمط
العالمي لحقوق الإنسان،
وكأنّها بارتكازها على مبادئ
واتفاقيّات ومواثيق ذات صفة
عالميّة وسلطة قانونيّة دولية،
وكأنّها تتحوّل إلى "حاكم"
أو "قاضٍ" يحاسب النظام
المحلّي بسندٍ خارجيّ وبآليات
للأمم المتّحدة. صحيح أنّه بات
لحقوق الإنسان نصوصاً عالميّة
ذات مفعولٍ قانونيّ يتخطّى ما
هو قائم محلّياً في هذا البلد أو
ذاك. وصحيحٌ أيضاً أنّ الدولة
التي تصادق على الاتّفاقيّات
العالميّة تصبح ملزمة
بتطبيقها، وتاليّاً بتعديل
قوانينها المحلّية كي تتلاءم مع
ما أُقرّ عالميّاً. وصحيحٌ أنّ
ذلك كلّه أعطى لهيئات حقوق
الإنسان "سلطة" تتخطّى
الحدود والأنظمة الخاصّة بكلّ
بلد، بما جعل لها "هالة"
مميّزة يحذر منها منتهكو الحقوق
والحريّات، من حكّام ومسؤولين
ودول وأفراد.
إلاّ أنّه لا يُفترض أن يغيب عن
بالنا، أنّ هيئات حقوق الإنسان
تتشكّل في كلّ بلد على يد أفراد
محلّيين، وتخضع لنظام بلدها
ولسياسة الحكم فيه، ولو أنّ لها
هذا الامتداد العالمي. هذا عدا
التشكيك من قِبل جهّات محلّية
أو من قِبل الحكم المحلّي،
بخلفيّات ما يُقرّ عالميّاً
ليفرض محلّياً هنا وهناك، في
ظلّ عولمة الحقوق ونصوصها، على
غرار عولمة الاقتصاد والسياسة
الليبرالية وأنماط الاتّصال
والاستهلاك...
وعليه، فإنّ لهيئات حقوق الإنسان
مرتكزات عالميّة لها نفوذٌ
هامّ، ولكنّها هيئات مشروطة بما
هو محلّي.
وربطاً مع ما سبق، وبإيجاز كلّي،
عنيتُ بكلامي أن لا نقرأ واقع
هيئات حقوق الإنسان، انطلاقاً
من نظرة مضخّمة أو مطلقة
المثالية. ويتراءى لي أحياناً،
أنّ البعض يحتاجون إلى مثل هذه
النظرة، لا لأنّهم لا يقرأون
الواقع جيّداً، بل لكونهم
متعطّشين إلى عملٍ سياسيٍ
مثاليّ، يعوّضنا عن الكثير من
الفساد الذي يلفّ أنظمتنا
والكثير من العجز الذي يعتري
تنظيماتنا السياسيّة
والاجتماعيّة التقليدية.
ويمكن القول في مستهلّ هذا
الحديث، أنّ هيئات حقوق الإنسان
في المنطقة العربية، لا تزال
ممنوعة من الوجود في بعض الدول،
ومقيّدة في نشاطها في دول أخرى
أو بالأحرى في كلّ الدول التي
سمحت لها بأن تتشكّل وتنشط، ولو
بنسبٍ متفاوتة.
س: صحيح أنّ التبعية تعدم
الاستقلالية. لكن الموضوع
أساساً جاء من الغرب. وهنا نودّ
أن نسأل عن الحيادية، وعن
التوجّه الليبرالي، بأيّ معنى
تقصدين؟
ج: الحيادية أصلاً هي فكرة صعبة
التحقّق في الحياة. ذلك أنّه ما
من أمر حياديّ في حياة البشر.
وحتّى ولو اختير للحياد لون
السماء الأزرق - لون الأمم
المتّحدة - كون السماء تظلّل كلّ
العالم دون تفرقة، فللسماء
أيضاً مزاجها وشروطها
وانحيازها أحياناً
...
أمّا عن هيئات حقوق الإنسان، وهي
هيئات سياسيّة برأيي (ولو تجنّب
البعض هذه الصفة)، فلا مجال
للحياد فيها. ففي الأحوال التي
تنخرط فيها مثلاً هذه الهيئات
للدفاع عن إنسانٍ ما بغضّ النظر
عن انتمائه وتوجّهاته الفئوية،
فهي تؤكّد بذلك على عدم حيادها
إزاء الظلم مقابل عدم
انحيازها أو تبنّيها لتوجّه هذا
الإنسان. وتكون هنا أمام موقفين
متكاملين: الأوّل هو عدم الحياد
الإنساني، والثاني هو عدم
الانحياز الفئوي. علماً أنّه
يمكن لها أن تدافع عن أفراد أو
فئات تشاركهم التوجّه نفسه. ولا
يسمّى هذا انحيازٌ بالطبع، بل
وحدة في الأهداف.
ويذكّرنا هذا الحديث بالكثير من
السجالات التي تدور دوماً حول
هيئات حقوق الإنسان. ذلك أنّ
ثمّة رأي يصرّ على أن تكون هذه
الهيئات حياديّة، كونها تمثّل
نصوصاً عالميّة وتعنى بالإنسان
أيّاً يكن وترصد الانتهاكات
أيّاً كان مصدرها ... هذا الرأي
يُظهر هيئات حقوق الإنسان
"كالقبّعات الزرق"، والتي
لا بدّ لها تاليّاً إلاّ أن
تتّصف بالحياد. وثمّة رأي آخر
يستنتج حيادية هذه الهيئات، من
كونها تعمل على تطبيق آليات
وبنود عالميّة، تعلو فوق
القوانين المحلّية بغطاء من
الأمم المتّحدة. يصرّ هذا الرأي
على عدم تسييس هيئات حقوق
الإنسان.
في حين أنّ هيئات حقوق الإنسان
تتشكّل بمبادرة من مواطنين
محلّيين، لكلّ منهم أفكاره
وتوجّهاته السابقة أو الحالية،
وهي هيئات سياسيّة بكلّ ما
للكلمة من معنى، وهي تسعى إلى
التعديل في الأنظمة وفي
قوانينها السياسيّة
والاقتصادية والاجتماعية
والتربوية والثقافية والبيئية
الخ.، عدا سعيها إلى التأثير في
النفوس والذهنيّات. فكيف يكون
لهذه الهيئات كلّ هذا الوسع في
النصوص المبدئيّة التي ترتكز
عليها، وفي النشاط، وفي مكامن
التأثير والتغيير، ولا نعتبرها
هيئات سياسيّة بامتياز،
وبالتالي هيئات غير حيادية!...
ثمّ أنّ النصوص العالميّة، بما هي
نتاجٌ محدّد وذو وجهة محدّدة،
ليست حيادية إطلاقاً. وأمّا
اختيار العبارات والبنود
بأسلوب يوحي بالعمومية، فذلك
لكونها تبغي الشمولية وهي
تتوجّه إلى أصناف البشر
والمجتمعات على اختلافها.
وبهذا، لا تعكس حياداً بالمعنى
الدقيق للكلمة.
س: وبالإجابة على مسألة التوجّه
الليبرالي؟
ج: أنّ الطابع الغالب على النصوص
العالميّة لحقوق الإنسان أتى
ليبراليّاً. وهذا بديهيٌ بشكل
أو بآخر، إذا أمعنّا النظر في
مضامين النصوص العالميّة،
لوجدنا فيها ملامح اشتراكية،
كما أنّنا نلاحظ بصمات العديد
من الجنسيّات والاتّجاهات في
صوغ تلك النصوص، وليس كما يفترض
البعض من أنّها من صنع الغرب
الليبرالي وحسب. فقد كان لأفراد
وهيئات من المنطقة العربية، على
سبيل المثال، الأثر البارز في
بلورة عدد من تلك الاتّفاقيّات
والمواثيق العالميّة.
وفي أيّ حال، معلومٌ أنّ الغلبة هي
للأقوى؛ والمسألة تتّصل
بموازين القوى وبالصراع
السياسي عالميّاً. وعليه، ربّما
كان من الأجدى أن نسائل أنفسنا:
هل عملنا من أجل أن تأتي موازين
القوى لصالحنا؟ وهل أنّ
"صالحنا" هو نفسه في نظر
الحكومات والأحزاب والمعارضة
والمفكّرين وهيئات حقوق
الإنسان والأصوليّة الدينيّة
...؟
ثمّ أنّ للتوجّه الليبرالي
"حلفاء" عندنا، وهو ليس
محصوراً بالغرب كما يُشاع. ومن
السخف الاستمرار في إنزال التهم
والشتائم بالغرب، فنحمّله
مآسينا ومسؤولية ضعفنا، ونرتاح.
ومن المراهقة الاستمرار في
اتّهام الغير وتبرئة الذات.
خصوصاً وأنّنا نستقي من الغرب،
الكثير،
(ومن
سواه أيضاً)، سواء في أنظمتنا
التعليميّة والتربويّة
والثقافيّة، وفي طبيعة
مأكولاتنا، ونمط البنى
التحتيّة والهندسيّة، ونمط
الاستهلاك الذي أغرق الجميع في
جحيمه... فإذا كان لنا من موقف
نقديّ رافض لبعض ما هو "من
خارجنا"، فحريٌّ بنا أن نحدّد
عن وعي وموضوعيّة ما ينبغي ألاّ
نأخذه من الغرب، وما هو إيجابيّ
وضروريّ التأثّر به والتفاعل من
خلاله مع الغرب بدون عُقد.
وهنا، كنّا نتمنّى فعلاً لو يتمّ
التعامل مع النصوص العالميّة
لحقوق الإنسان من وجهة النظر
النقدية تلك. فلا نقبل مثلاً أن
تجيز اتّفاقية حقوق الطفل تجنيد
الأطفال إرضاءً لبعض الحكومات
ومنها حكومات عربية.. أو نقبل
مثلاً بأن تجيز إعطاء العامل
حدّاً أدنى يُسمّى أجراً إرضاءً
للشركات والمؤسّسات التي تبغي
تكديس الأرباح...
في حين أنّ ما ينتقده كثيرون في
منطقتنا، في هذه النصوص
العالميّة، يتمحّور أساساً في
إطار التقاليد الدينيّة
والطائفية، وما يتّصل بها من
مسائل كحرّية المعتقد والتكامل
بين المرأة والرجل وما يتعلّق
بقوانين الأحوال الشخصيّة... هنا
ينتفض كثيرون، ويعيدون على
مسامعنا نغمة العالميّة /
الخصوصيّة، ويشنّون هجومهم
المعتاد على الغرب و"بالجملة".
من جهّتي، لا أرى أنّ تلك النصوص
العالميّة تجسّد معيار
الإنسانية والحقوق في العالم،
لوحدها. ولكنّني لا أرى في الوقت
عينه، أنّ ممارسات بعض الدول
وبعض الجهّات السياسيّة
والدينيّة والاجتماعيّة في
منطقتنا، إزاء تلك النصوص، توحي
بالشفافية والديمقراطية والنقد
العميق.
س: يقودنا كلامك هذا إلى التحدّث
عن المأزق الديمقراطي الذي يحيط
بهيئات حقوق الإنسان في المنطقة..
ج: نحن في مأزق. نعم. ولكنّنا لسنا
في طريق مسدود. فالاتّجاه هو نحو
الديمقراطية، لا العكس، ولو أنّ
مظاهر وأحداث عديدة أعادتنا
أحياناً إلى الوراء، وجعلت
تحليلات كثيرة تجزم باستحالة
بناء أنماط ديمقراطية في
مجتمعاتنا وأنظمتنا. وقد دعم
هذه التحليلات (وعن حقّ) في بلورة
موقفها السلبي هذا، أمران
أساسيّان:
ديكتاتورية أنظمة الحكم وغرقها
المتواصل في التعسّف والقمع، من
جهة، وصعود الأصوليّة الدينية
من جهّة أخرى، والتي لا علاقة
لها بجوهر الدين حقّاً بل ما هي
سوى وجه آخر من أوجه العمل
السياسي السلطويّ.
والمسألة برأيي تخضع في جميع
الأحوال لموازين القوى في
المجتمع، وللنهج الذي تعتمده
القوى الديمقراطية والعلمانية
بالذات في مواجهة العنف السلطوي
السياسي والأصوليّ. إنّه صراعٌ
متواصل.
أمّا عن مأزق الديمقراطية، فله
مستويات عدّة نذكر منها ثلاثة:
1.
مأزق على مستوى الأنظمة والبنى
والأعراف، سياسيّاً
واجتماعيّاً ودينيّاً، وترجمة
ذلك في القوانين والنصوص التي
تنظّم حياة الناس والمجتمع.
ونشير هنا إلى ضرورة إعادة
النظر في المبادئ أو في الفكر
الذي يوجّه هذه الأنظمة والبنى.
ومثل هذا العمل يصطدم حكماً
بمصالح من
يمتلكون السلطة والنفوذ،
والذين لا يناسبهم أيّ تغيير في
ما هو قائم؛ كما يصطدم
بالتفسيرات الضيّقة والمتزمّتة
للدين، ذلك أنّ عملية الفصل بين
الدين والدولة لم تتمّ بعد في
بلادنا، بما يمكّننا من
الانصراف إلى تأسيس مفهوم
ديمقراطي للمجتمع.
وأمّا القاعدة المسيطرة حاليّاً،
فهي إقصاء الصوت المختلف عبر
نفيه أو سجنه أو رشوته أو
إلغائه، وجعل الصوت المسيطر
وكأنّه "يونيفورم" موحّد
ومتماسك كصفوف العسكر
..
2.
المأزق الثاني يخصّ البنى
الذهنيّة للإنسان - المواطن في
الدول العربية. فنحن ننشأ على
تمجيد العنف، وعلى ترسيخ
السلطويّة والتراتبيّة في
علاقاتنا، بما يجعل إمكانية
الاتّجاه نحو الحوار وعدم قمع
الآخر المختلف أو إلغائه - وهما
ركيزتان أساسيّتان للديمقراطية
- (يجعلها) صعبة ومتعثّرة.
فالديمقراطيّة لا تُختصر
بعملية الانتخاب، وهي أضعف ما
يُعزى للنمط الديمقراطي؛ ونعرف
أنّ ما يُسمّى انتخابات في معظم
الدول العربية ليس أكثر من
تمثيليّة متكرّرة وذات نهايات
معلنة مسبقاً. وأمّا
الديمقراطية فهي سلوك يوميّ
متكامل، وهي بنية نفسيّة، وهي
أيضاً بنية ذهنية، قبل أن تكون
نمط حكم أو نظاماً ما. فهل
نتربّى في مجتمعاتنا العربية،
ومنذ الصغر، على الديمقراطيّة،
كي تصبح أنظمتنا والحكّام الذين
"ننتخبهم" والهيئات التي
نؤسّسها والخطاب الذي نبثّه في
آذان الناس ...، (تصبح) ديمقراطية
تلقائيّاً وبالعمق وليس
شكليّاً أو اصطناعيّاً !؟
3.
وثمّة مأزق ثالث يرتبط بتنظيمات
المجتمع ومؤسّساته، من أحزاب
وجمعيّات وهيئات ثقافيّة وحقوق
إنسانية ونقابات... ونعني بهذا
المستوى التركيبة الداخلية
السلطوية للعديد من الهيئات
والتنظيمات، ونمط العمل
والعلاقات بداخلها. فإلى أيّ
مدى يتمّ قبول الاختلاف
والتنوّع في الآراء؟ وهل من
فسحة متاحة بداخل تلك المؤسّسات
والهيئات، للإبداع الفردي
وللنمط اللامركزيّ؟ هنا، يبدو
المأزق داخليّاً وذاتيّاً، ولا
علاقة مباشرة للسلطة الحاكمة به.
س: يدفعنا هذا التعداد لمآزق
الديمقراطية، إلى التساؤل حول
دور هيئات حقوق الإنسان في
تأسيس نمطٍ بديل لما نعاني منه
على المستويات الثلاثة
المذكورة.
ج: ردّنا المباشر هنا، بأنّ هذه
الهيئات تعاني أكثر ما يكون من
المأزق الأول على مستوى الأنظمة
والبنى والأعراف، فيُمنَع
وجودها في الأساس أو يُقمَع
نشاطها أو يُعنَّف أعضاؤها، على
يد العنف الحاكم أو المهيمن.
وأمّا على مستوى المأزق الثاني
والثالث، فهيئات حقوق الإنسان
مدعوة إلى مراجعة الذات،
أفراداً وتنظيمات. وفي كلّ مرّة
نقول مثل هذا الكلام، نشدّد على
عدم التعميم، وعلى عدم وضع
الجميع في "السلّة" نفسها.
س: إذا عدنا إلى هيئات حقوق
الإنسان، ونعلم أنّ هناك العديد
منها في الدول العربية، قد يبدو
الأمر في بعض الأحيان كشيء من
الفوضى يحيلنا إلى سؤال عن عدد
هذه الهيئات وأنواعها خصوصاً
وجد من يقترح اختصار بعض
المنظمات المتشهابهة..
ج: هنا أيضاً، ينبغي التمييز بين
أنواع هيئات حقوق الإنسان،
فهناك هيئات متخصّصة في ميادين
وحقوق محدّدة: منها ما يعمل على
حقوق الطفل أو حقوق المرأة أو
الحقوق البيئيّة .. ومنها ما
ينشط في مجال التدريب والتوعية،
أو رصد الانتهاكات، أو إعداد
الوثائق والدراسات، أو الدفاع
القانوني أمام المحاكم عن أصحاب
الحقوق، أو إعداد التقارير
والشكاوى ورفعها إلى لجان الأمم
المتّحدة لحقوق الإنسان
...
ومن الهيئات من يعمل في أكثر من
ميدان، وعلى مستوى عدّة حقوق
وقضايا .. وبعضها يعمل على
التعديل في القوانين .. وجزء
منها ينشط في إطار لوبي (lobby) معيّن للنضال في سبيل قضية محدّدة
سياسيّة أو اجتماعيّة ...
وعموماً، تُختصر صورة هيئات
حقوق الإنسان بالهيئات
المدافعة عن حقوق الفرد، لا
سيّما السجناء والمعتقلين،
وحصراً سجناء الرأي. وهذه صورة
ضيّقة ومغلوطة.
وهناك هيئات تتشكّل كفروع مباشرة
لهيئات حقوق إنسان عالميّة،
وتكون بالتالي، بمثابة مكاتب
لها.
وهناك هيئات تنشط على مستوى محلّة
أو مدينة أو بلد، ومنها ما يعمل
على مستوى شبكة إقليمية أو
برامج عربية ذات امتداد وتشعّب.
يُضاف إلى ذلك، أنّ عدداً من هيئات
حقوق الإنسان قد تشكّل وفق هذا
النمط واتّخذ لنفسه هذه
التسمية، لكي يتمكّن من القيام
بنشاطه السياسي والاجتماعي،
والذي لم يكن ليُسمح له به لولا
مثل هذه التسمية العالمية.
فمواثيقها الداخلية تتألّف من
مجموعة من المبادئ التي صاغتها
بنفسها، والتي تشير فيها ضمناً
إلى ارتكازها على مبادئ حقوق
الإنسان.
س: ثمة شوائب حول طبيعة التنسيق
بين هذه المنظمات؟
ج: أودّ أن أشير إلى أنّ التنسيق
وسيلة أو نمط عمل وعلاقات،
نحتاجها في نضالنا من أجل قضية
معيّنة. تماماً، لأنّنا نحتاج
إلى التضامن في ما بيننا، وإلى
تجميع قوانا في مواجهة الظلم.
ولكن، ما المطلوب؟
أوّلاً، المطلوب التنسيق بين من
يتشاركون فعلاً في جوهر أفكارهم
ومبادئهم وأنماط أعمالهم، لا
بين من يحملون تسميات متشابهة.
لأنّ التسمية المشتركة لا
تدلّنا بالضرورة على توافق في
الفكر والمنطلقات الفلسفيّة
والسياسيّة. فهناك هيئة حقوق
إنسان تدافع مثلاً عن السجناء،
من جهّة، ولكنّها من جهّة أخرى،
لا تؤيّد الحقوق المتساوية بين
المرأة والرجل في المجال
العائلي. فهل نطلب منها التنسيق
مع هيئة حقوق إنسان أخرى تناضل
من أجل مواجهة التمييز بين
المرأة والرجل، لمجرّد أنّ كلّ
منهما تحمل اسم هيئة حقوق
إنسان؟
ثانيّاً، ضرورة وضع ميثاق أخلاقيّ
للتنسيق في ما بين هيئات حقوق
الإنسان، بحيث تتعهّد كلّ منها
بالتضامن مع الأخرى وبالدفاع عن
نشطاء حقوق الإنسان، إذا ما
تعرّضت وتعرّضوا للقمع، وبغضّ
النظر عن الاختلافات القائمة في
ما بينهم. هذا النوع من التنسيق
يتخطّى التوافق الفكري
والبرنامجي، ليعكس إنسانية
العمل السياسي والحقوقي، كونها
الدلالة الأولى والجوهرية على
الديمقراطية والأخلاقية.
وهاتان الصفتان، مطلوب
تعزيزهما في عمل العديد من
هيئات حقوق الإنسان عندنا.
ثالثاً، ايجاد صيغ يتم من خلالها
التنسيق بين من يناضلون معاً في
سبيل قضية مشتركة، أو من يقومون
ببرامج متكاملة، وذلك على مستوى
سائر الهيئات المدنيّة
والأحزاب القائمة في المجتمع،
وليس على مستوى هيئات حقوق
الإنسان وحسب. وبالطبع، تعوزنا
هنا معالجة مشكلة التنافس التي
تجزّئ الجهود والقوى وتبعثرها.
عمليّاً، التنسيق ضعيف عندنا،
حتّى بين من تجمعهم نقاط
جوهريّة مشتركة. ذلك أنّ
التنسيق يتطلّب مهارات في
التفاعل الديمقراطي وفي النهج
اللاعنفي في إدارة القضايا
والنزاعات. وهذا ما لا يزال من
مآزق العمل الديمقراطي في
مجتمعاتنا (كما أشرنا سابقاً).
وأودّ أن أشير في إطار هذا السؤال،
إلى فكرة يتداولها البعض، حيث
يصفون هيئات حقوق الإنسان،
وكأنّها فروعٌ لـِ "حزبٍ"
كبير هو الأمم المتّحدة ونصوصها
العالمية. فالمواثيق واحدة، وهي
"كالمانيفست" الذي تؤمن به
كلّ تلك الهيئات في كلّ العالم،
وآليات العمل متشابهة،
والمرجعية واحدة، الخ. لذا، من
الضروري التنسيق والتوحّد أو
التكامل، برأي أصحاب هذه
الفكرة… أمّا أنا، فتخيفني مثل
هذه الفكرة.
س: ولكن، ثمّة من يفيد بأنّ بعض
هيئات حقوق الإنسان غير فاعلة
ومشكوك بأمرها؟ ألا يوجد شوائب
تعاني منها هذه الهيئات برأيك؟
ج: عندما تحدّثتُ عن أنواع هيئات
حقوق الإنسان، لم أذكر الهيئات
التي تؤسّسها السلطة الحاكمة
أحياناً، كي تنافس معارضيها أو
تشوّش أعمالهم. ولم أذكر
الهيئات التي يؤسّسها أفراد
بهدف تثبيت صورة مميّزة لهم في
المجتمع، وتكريس زعامة
"مودرن"، أو منفعة شخصيّة.
كما أنّني لم أذكر تلك الهيئات
التي تطلّ علينا موسميّاً، أي
في فترات محدّدة حصراً، لمصلحة
شخص أو حدث أو انتخابات ...
وأيضاً لم أذكر اللجان التي
تحمل اسم حقوق الإنسان، والتي
تبادر إلى تشكيلها أحزاب أو
تجمّعات سياسيّة أو دينيّة،
تعلم تماماً أنّ مثل هذه
التسمية مرغوبة حاليّاً
وبالإمكان استغلالها خدمةً
لمصالحها.
...
لم أذكر كلّ هذه الأنواع، علماً
بأنّها موجودة وأحياناً ذات
شهرة كبيرة، ذلك أنّني أفضّل أن
ننزع عنها مثل هذه التسمية، وأن
نشير إلى كلٍّ منها بحسب اسم
"صاحبها"، ولكن، هناك
هيئات أخرى يُشار إليها بوصفها
مشكوكٌ بأمرها، ويُقصد بها
عموماً تلك المرتهنة لقوى
خارجيّة. وهنا، نقول أنّ مثل هذا
النمط المرتهن للخارج
ولسياساته الاستعمارية موجودٌ
بيننا، على مستوى المسؤولين
الرسميّين وعلى مستوى الأحزاب
والإعلام والجمعيّات والتربية
... وعلى مستوى بعض هيئات حقوق
الإنسان. ولذا، فهي صفة غير
نابعة ولا محصورة بهيئات حقوق
الإنسان. إلاّ أنّها تُطلَق
بسهولة على مثل هذه الهيئات،
لأنّ نمطها ومواثيقها وآليات
عملها ومفرداتها وفدت إلينا من
الغرب، ولم تنطلق من نتاجنا
المحلّي. وبما أنّ رمي
الاتّهامات بوجه الغرب، مسألةٌ
سهلة وأحياناً محبّبة، وهي لا
تزال تشكّل الجزء الأكبر من
خطابنا السياسي، وبما أنّ
السلطات الحاكمة والجهّات
النافذة تفضّل ألاّ يرتفع صوت
المناضلين والناشطين باسم حقوق
الإنسان، لذا يسهل رميهم
بالشتيمة نفسها، فيصبحون
"مشكوكاً بأمرهم".
نقول هذا، ولا نعفي بالطبع بعض هذه
الهيئات وأفرادها، من ارتهانهم
الفعلي لسياسات الخارج،
والقائمة على انتهاك حقوقنا هنا
في هذا الشرق، كمجتمعات وشعوب
وكأفراد. ولا لزوم للتسمية في
هذا المجال. كما أنّنا نعلم علم
اليقين بأنّ بعض الأنظمة
والتّيارات في الغرب، تستخدم
"حقوق الإنسان" كي تدخل
إلينا بوجهٍ "غير مشكوكٍ
بأمره"، ليصبح لها اليد
الطولى على المستوى الرسمي كما
على مستوى الهيئات والمجتمع.
ولنا أن نسأل هنا: من يلقي تهمة
التشكيك بوجه هيئات حقوق
الإنسان؟ أهو دوماً الطرف
الموثوق به وغير المشكوك بأمره !
نشكّ في ذلك بالطبع.
س: سأتجه إلى سؤال آخر عن صورة
هيئات حقوق الإنسان في
المجتمعات العربية، لماذا تبدو
هذه الصورة غائمة أو غير مقنعة؟
ج: قبل اي شيء هذه الهيئات هي حديثة
العهد إجمالاً. وهي تبدو
نخبويّة في الغالب. عدد أعضائها
محدود. تخصّصية إجمالاً، بمعنى
أنّ من ينشط فيها يُفترض أن
يتدرّب على آليات وأنماط عمل،
وأن يحفظ البنود والنصوص ... عنصر
الشباب فيها قليل، فالجزء
الأكبر من أفرادها كانوا ناشطين
سابقاً في أحزاب ونقابات
وجمعيّات، ومنهم من كان في
مواقع رسميّة. وقد انتقل بعضهم
إلى هذا النمط من النشاط، بعد
يأسٍ أو فشل أو لأنّه نمط
"مرتّب ومحترم" .. ثمّ أنّ
هيئات حقوق الإنسان هي بالإجمال
غير ميدانية، أي أنّ أعمالها
تتمّ في الغالب في المكاتب
والمؤتمرات ودورات التدريب
والمراسلات الالكترونية
والشكاوى البريدية ... وبالتالي،
فهي غير جماهيرية. يُضاف إلى ذلك
أنّ خطابها الحقوقي لا يجذب في
الأساس الجماهير، مقارنةً
بالخطاب الدينيّ الذي يتوجّه
إلى المشاعر والغيبيّات
والأخلاق، أو مقارنةً بالخطاب
السياسي- الطبقي الذي يحرّك
الناس في فقرهم وفي سرقة
الأغنياء لحقوقهم، أو مقارنةً
بالخطاب الوطني الذي يحرّك
مفاهيم السيادة والاستعمار
والاحتلال والقومية المترسّخة
في النفوس. ذلك أنّ الخطاب
الحقوقي والعموميّ لنصوص حقوق
الإنسان (مجموعة من البنود
كالقوانين)، لا يثير النفوس،
ولا يصحّ في الأساس كي يشكّل
ركيزةً أو مرجعاً ننتمي إليه.
فما من أحد ينتمي إلى القانون،
بل نلجأ إلى القانون كوسيلة
لدعم حقوقنا في حال كان القانون
عادلاً وإنسانيّاً. لذا، ترى
الناس لا يقبلون على الانتساب
إلى هيئات حقوق الإنسان، ولا
يعرفون الكثير عن أنماطها،
ويتصوّرون أنّها لمجموعة من
المحامين والحقوقيّين
...
إذاً، هي نوعٌ خاص من الهيئات، ومن
العمل السياسي والاجتماعي.
وجودها ضروريّ برأيي، ولكن في
حدود هذا الدور الخاص. وأراه
دوراً أساسيّاً، إذا ما قام
ليدعم نضال الناس في سبيل حقوقٍ
وحرّيات أكثر.
وبما أنّها حديثة العهد، وعملها
يتطلّب بعض الآليات غير
المألوفة عامّة، لذا فهي بحاجة
إلى الوقت كي تتمرّس وتبرهن عن
فعّالية.
وقد بات ملحّاً الآن، أن نبدأ بقطف
ثمار هذا التمرّس وهذه
الفعّالية.
ولكننّا لا نستطيع أن نتحدّث عن
الفعّالية، دون التحدّث عن
الشروط والممنوعات وأساليب
الترهيب أو الترغيب التي تحيط
بهذه الهيئات (كما بسواها أو
بمثيلات لها). إذ كيف يمكن أن
يكون فعّالاً، من يتوجّب عليه
أوّلاً أن يحمي نفسه، قبل أن
ولكي ينشط؟ إنّها المهزلة التي
استدعت جهوداً عالمية، ومن
ضمنها جهود عربية، لوضع
اتّفاقية لحماية نشطاء حقوق
الإنسان. فقد بات هؤلاء
كالفدائيّين الذين يواجهون
الأنظمة والقوانين والسياسات
الحاكمة، ويُستفَردون هنا
وهناك.
س: ذكرت أنّ هيئات حقوق الإنسان لم
تتمثّل بأنماط جماهيرية،
وأنّها تُتّهم مسبقاً
بارتباطها بالغرب، وأنّها ما
زالت ناشئة ... وأنّ هذا كلّه
يضعف من فعّالية ثمارها. فماذا
تقترحين على هذه الهيئات؟
ج: لستُ بوارد تقديم وصفات جاهزة.
ولستُ أملك الحقيقة لأبشّر بها
وأعظ الآخرين … ولكنّني، وبحكم
معرفتي بالعديد من هيئات حقوق
الإنسان في المنطقة، وبفعل
متابعتي لها وصداقاتي مع عددٍ
من أعضائها، وأيضاً بحكم
ملاحظتي وتحليلي لواقعها
ولواقعنا العام، أقول أنّ
الأمور باتت
أوضح ممّا كانت عليه سابقاً.
فالهيئات الفاعلة في كلّ بلد،
صارت معروفة، وتلك الشكلية
والتقليدية صارت أيضاً واضحة
للجميع. كما أنّ فَهْم الناس
لهذا النوع من الهيئات يتقدّم
شيئاً فشيئاً. ولذا، فإنّ
الخطوات التدريجيّة، وغير
المتهوّرة، ستكون السبيل إلى
مزيد
من الفعّالية. ببساطة،
نحن بحاجة إلى صون حقوقنا
وحرّياتنا، من أنفسنا أحياناً،
ومن أخصام في الداخل، كما من
أخصام في الخارج. وأيّاً يكن
الشكل التنظيمي الذي نعتمده
للتحرّك من أجل حقوقنا،
فالأولويّة هي أن نلتصق بقضايا
الناس. هيئات حقوق الإنسان لا
تبدو جماهيرية، لا لأنها تخصّصية وحقوقيّة فقط،
بل لأنّها ابتعدت عن العلاقة
المباشرة مع الناس، المنتهكة
حقوقهم بالذات، وابتعد خطابها
عن لغة الناس. وللهيئات أن
تختار، البقاء على الصيغة
العالمية الوافدة، من الأمم
المتّحدة، أو "تطعيم" هذه
الصيغة وتحويلها إلى ما يشبه
حاجاتنا ومزاجنا
الشعبي العام، إنْ على مستوى
آليات الاتّصال بالناس، أو لغة
الخطاب الذي نتوجّه من خلاله
إليهم، أو حتّى على مستوى تسمية
الهيئات التي نؤسّسها للتوعية
والدفاع عن الحقوق. ولمَ لا !
فالأساس هو عملنا هنا ومع
الناس، لا ترجمة ما أُنتج هناك
وتطبيقه كالفرض المنزليّ ...
بالنسبة لي ولرفاقي، اخترنا
النضال من أجل وعيّ أكبر للحقوق
ومن أجل الدفاع عنها وعن
الحريّات، بالعمل الميداني
المباشر مع الناس، وبالنهج
اللاعنفي، مستفيدين ممّا ورد في
النصوص العالميّة ولكن مع بلورة
ميثاق فلسفي خاص بنا هو "شرعة
حقوق الناس" .. وعليه،
اخترنا
أيضاً اسماً خاصّاً لنا
ولمجتمعنا هو "حركة حقوق
الناس".
حاورها:
أحمد سليمان: رئيس تحرير مركز
الآن للثقافة والإعلام
الحوار
المتمدن - العدد: 834 - 2004 / 5 / 14
|