بين
الأسير والمعتقل
المحامية
: رزان زيتونه
خلال السنوات الثلاث الماضية التي
انخرطت فيها في حركة حقوق
الإنسان السورية، التقيت
الكثير الكثير من المعتقلين
المفرج عنهم .
أدهشتني صلابة بعضهم وإيمانهم
بالدرب الذي اختطوه لأنفسهم،
وإصرارهم على متابعة نضالهم من
أجل حرية الوطن والمواطن.
وهزني انكسار معظمهم - خاصة من
التيار الإسلامي الذي قاسى
معتقلوه ألوانا من العذاب
والامتهان والحرمان لا تحتمل.
ذلك الجزء من أرواحهم الذي قتل
أو تشوه ، كان أكثر ما يؤلمني،
الصوت الذي أضحى يخرج من
حناجرهم ضعيفا جدا وبعيدا جدا
لدرجة التلاشي ، النظرة التائهة
التي تشعرك بأنهم خرجوا للتو من
عمق متاهة، أو زمن لا يشبه الزمن
.
هؤلاء قبعوا في ظلمة السجن سنوات
طويلة ، عرفوا ألم الجسد كما ألم
الروح ..والعقل أيضا ، من المؤكد
أن حلم الحرية استغرقهم أياما
وليال، لكن اللقاء بها ، حريتهم
، لم يكن كما يجب ، أو كما يفترض
، اللقاء باهت وحزين ، إذا
استثنينا لحظات اللقاء بالأهل
والأحبة ، اللقاء مكسور الخاطر
، متردد ، هل يعانقوا حريتهم ،
أم يكتفوا بمصافحتها ، أم
يميلوا برؤسهم عنها متظاهرين
أنهم لا يرونها .
لا يمكن لومهم على الإطلاق، قد
يحتاج المرء إلى صلابة جبل كي
يتحمل ما احتملوه... فوق
ذلك..هناك ما لم يقل، ما لا يقال،
ما لا يمكن قوله.
* * *
"- ماذا تخبرنا عن وضع الأسرى
المعنوي والصحي؟
الناحية المعنوية لا داعي للحديث
عنها، لأن رفاقي محصنون من هذه
الناحية، كلهم من دون
استثناء".".....نحن ننتمي
لوطن، لشعب، لدولة سورية عريقة
نعتز بها، وهذه الدولة من
المفروض أن تكون مشد ظهر لنا،
ومصدر قوة، وهكذا كان اعتبارنا
دائماً، ولكن بقاءنا في الأسر
عشرين عاماً، لم نلق خلالها
الاهتمام الكافي على كافة
المستويات، أمر يدعو للمرارة
والغضب..." ".....هل عظام
جاسوس إسرائيلي، أعدم منذ 40
عاماً، هي أثمن من زهرة شباب، أو
حرية، أو حياة، عشرات الأسرى
الجولانيين الذين يقبعون في
المعتقلات الإسرائيلية؟ لا
أعتقد أن المقارنة واردة في
الحسبان أصلاً.." ".....أتمنى
أن نحرر أسرانا بأيدينا، أن
يتحرروا بفضل جهدنا نحن
السوريين، وإذا كانت الحكومة
السورية لا تستطيع أن تفعل هذا
الشيء علينا نحن الجولانيين أن
نفعله بأنفسنا، وأعتقد أن لدينا
بعض الوسائل لذلك..."
(العبارات
بين قوسين هي للأسير المحرر
هايل أبو زيد / الجولان المحتل
بالتعاون مع أخبار الشرق 1-2-2005)
هايل أبو زيد ، الذي قضى في سجون
الإحتلال الإسرائيلي نحوا من
عشرين عاما ، تعرض خلالها
للتعذيب وإساءة المعاملة ، أفرج
عنه أواخر العام الماضي لدواعي
صحية، يحاصره جسد متعب بحاجة
إلى الكثير من العناية الطبية .
كان لقاؤه بالحرية مدهشا ،
التقاها منتصب القامة ، عالي
الصوت ، بنظرات عيون أضناها
المرض لكن لم يفقدها القدرة على
التحديق حيث يجب.
ربما هايل يملك طاقة كبيرة على
الاحتمال، ربما هي صلابته
الذاتية النابعة عن طباعه
الخاصة ، ربما هي شدة إيمانه
بالقضية التي اعتقل لأجلها ..لكن
على الأرجح ، هناك أكثر من ذلك.
ربما عندما يكون جلادك هو عدوك ،
تبقى المسافة بينك وبين الموت
المعنوي قائمة حتى في اللحظات
التي تقابل فيها الموت المادي .
لكن عندما يكون جلادك هو مواطنك في
الخندق ، هو ابن بلدتك أو جارك....
يغدو الألم عصيا على الفهم .
عندما يقوم السوري بتعذيب السوري
، عندما يهين سوري سوريا آخر ،
عندما يشعر السوري بالرعب من
السوري ، أشياء كثيرة تسقط .
".......منذ بداية المحاكمة كنا
رافضين للمحكمة العسكرية في
اللد وشرعيتها، باعتبارها
محكمة احتلال، فهي تحاكمنا
كمواطنين سوريين، في الوقت الذي
لا يحق لها أن تحاكمنا.....فكان
تعاطينا مع المحكمة برفض
التعاطي معها مطلقاً، وعدم
الاعتراف بشرعيتها، ورفضها من
كافة النواحي. لقد اعتقلنا
الجيش الإسرائيلي وأتى بنا
بالقوة إلى المحكمة، لكنهم لم
يستطيعوا أن يفرضوا علينا
الوقوف للقضاة داخل المحكمة، أو
الاعتراف بها...."
كان حيا أثناء اعتقاله ، كانوا
أحياء ، بقي حيا بعد الإفراج عنه
، وبقي رفاقه أحياء داخل الأسر.
هل سجانو العدو أقل قسوة وأكثر
رأفة من سجاني الصديق ؟ هل
الأسير في سجون العدو إنسان
أسطوري ، ومعتقل الرأي في بلده
إنسان عادي؟ .
يحاول سجان العدو كسر إرادة
الأسير وعزيمته وإيمانه ، لكن
سجان الصديق يحاول كسر الإنسان
في الإنسان ، وهو أقدر على
النجاح بمهمته من الأول ، لأنه
ببساطة أخي وشريكي في المكان ،
في الذاكرة ، في المستقبل،
بينما الأول أدرك تماما أنه
دخيل على زمني ومكاني .
يكره سجان بلدي أن يراني أحلق
بكرامتي ، فهو يبني عزه على ذلي
، ووطنيته على تخويني ، وحريته
على عبوديتي، وانتصاراته على
هزائمي ، وبقاؤه على تحطيمي ،
يسرق "سوريَتي" التي لا
أحسها إلا إذا أحسست كرامتي
وإنسانيتي ، وكلما حاصرني
محاولا إذلالي وكسري ، كلما
أضحى هذا الكيان المسمى سورية ،
بعيدا عني كشبح ، أمسى غريبا عني
، أُمسي بلا وطن .
لماذا لم نذكر اسم هايل أو أحد
رفاقه سابقا في أدبياتنا ، نحن
نشطاء حقوق الإنسان والمعارضة
في سورية؟ نحن مقصرون ؟ نعم ،
لكننا أيضا محاصرون .
خلال العام الماضي وحده أفرج عن
نحو 400 معتقل سياسي قضى معظمهم
أكثر من عشرين عاما في المعتقل ،
مثل ما قضى هايل أو أكثر . وما
زال داخل معتقلاتنا العشرات
ينتظرون حريتهم ، ما زلنا نبحث
عن أبسط حقوقنا ، عن الكلمة
الحرة، عن الاعتراف بالآخر، عن
الانتهاء من كابوس الاستدعاءات
الأمنية والاعتقالات ، عن عمل
نعيل به أنفسنا ، عن احترام من
حقنا أن نعامل به......الخ .
الجولان جزء من وطني ، لكن لماذا
أحسه بعيدا جدا ، بيني وبينه بحر
شاسع من أقبية المخابرات وأدوات
التعذيب والمهانة والفقر
والخوف ...
صحيح جدا ، نحن العرب أمة القضايا
الكبيرة ، هل يشك أحد أننا سنقهر
"إسرائيل" ونحرر
أراضينا؟!!.
-------------------------------------
"موقع
الرأي"
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|