ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 10/02/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


بعد سقوطه الأخلاقي

الاحتلال في العراق يواجه طريقاً مسدوداً

د. بشير موسى نافع

تجري هذا الأسبوع محاكمة جنود بريطانيين بتهمة تعذيب معتقلين عراقيين. وقد أتيح للرأي العام البريطاني الاطلاع علي المستوي الذي هبط إليه بعض عناصر الجيش في العراق بفضل شجاعة وضمير سيدة تعمل في معمل لتحميض الأفلام. كانت حكومة بلير، المسؤولة عن توريط الجيش البريطاني في مشروع احتلال العراق، أنكرت طوال العام الماضي ان تكون القوات البريطانية ارتكبت أي تجاوزات شبيهة بتلك التي ارتكبتها عناصر عسكرية وأمنية أمريكية في العراق. وقد أدي التدافع في الأوساط السياسية والإعلامية البريطانية حول الاتهامات الموجهة إلي الجيش بتعذيب العراقيين إلي خسارة رئيس تحرير صحيفة لندنية يومية رئيسية لمنصبه. الصور/الفضيحة التي هزت الشعب البريطاني خلال الاسبوع الماضي، رافقها اتهامات شبيهة، وإن بدون صور هذه المرة، لضابط استخبارات وجنود من القوة الدانمركية التي تشارك في احتلال العراق. وكما كان الأمر في مسلسل التعذيب الأمريكي البشع في معتقل أبو غريب، فإن ما نشر عن الممارسات البريطانية والدانمركية ليس إلا جزءاً من الحقيقة؛ وينبغي ألا يشك أحد في ان هذه الممارسات ليست مقصورة علي الأمريكيين والبريطانيين والدانمركيين. ولن يمر وقت طويل قبل ان يكتشف العالم ان ممارسات التعذيب واهانة العراقيين كانت عنصراً رئيسياً من ثقافة الاحتلال ككل.

الذين ورطوا جيوش بلادهم في هذا الاحتلال البشع يتحملون المسؤولية، تماماً كما تتحملها العناصر التي ارتكبت جرائم التعذيب. وهي مسؤولية كبري، مسؤولية تجاه شعوب بلدانهم، تجاه الشعب العراقي المظلوم، وتجاه الرأي العام العالمي الذي عارض علي نطاق واسع غزو العراق واحتلاله. ولكن أحداً من المسؤولين الأمريكيين لم يظهر من الشجاعة الأخلاقية ما يكفي للاستقالة من منصبه اعتذاراً عن ممارسات أبو غريب. كما ان وزراء الحكومة البريطانية، الذين خاضوا معركة صاخبة طوال العام الماضي ضد من وجهوا الاتهامات لقوات الاحتلال البريطانية، او حتي من دعوا إلي التحقيق في مثل هذه الاتهامات، غرقوا في معظمهم في الصمت عندما نشرت الصور البشعة، رافضين تحمل المسؤولية عما حدث. وكذلك تصرفت أركان الحكومة الدانمركية.

كانت إحدي أهم المسوغات التي برر بها المسؤولون الأميركيون والبريطانيون غزو العراق واحتلاله ان الحرب هي حرب تحريرية للشعب العراقي، حرب تقوم بها القوي الحامية للقيم الانسانية ضد نظام ديكتاتوري يحكم شعبه بالحديد والنار. ولكن الواضح ان جنود الجيوش الغازية والمحتلة، وليس المعارضون للحرب فقط، لم يأخذوا خطاب قادتهم مأخذ الجد. تتصرف القوات المحتلة للعراق كما تصرفت القوات الإمبريالية المحتلة عبر التاريخ. ليس ثمة من تقرير صحافي واحد من العراق أشار إلي ود أو تعاطف الجنود المحتلين مع العراق وأهله. ما يعرب عنه جنود قوات الاحتلال هو كرههم المتزايد للعراق، تذمرهم من المهمة الموكلة لهم، ورغبتهم الجارفة في محو العراق عن خارطة الوجود، والعودة السريعة إلي بلادهم. وربما يفسر البعض هذا السلوك بتصاعد المقاومة وتزايد الخسائر في صفوف القوات المحتلة. ولكن الحقيقة ان اعتماد أساليب القمع والإهانة بدأ منذ الأيام الأولي للاحتلال؛ بل ان القوات المحتلة حرصت في الشهور الأولي علي تلفزة اقتحاماتها الوحشية لمنازل العراقيين، ربما لنشر الخوف والذعر بين أولئك الذين لم يسعفهم الحظ بزيارة وحدات جيش الاحتلال لمساكنهم.

كأي قوة محتلة، كان هدف الجنود المحتلين، أمريكيين وبريطانيين وإيطاليين ...إلخ، هو السيطرة علي العراق وأهله، إخضاع العراق لإرادة المحتل، وتحطيم أي إرادة عراقية لا تنبع من إرادة المحتل. وعندما تصاعدت المقاومة، وأكد العراقيون علي رفضهم الاحتلال ومشروعه، تصاعدت حدة أساليب القمع والإهانة، وانتقل المحتلون من مستوي السيطرة والإخضاع إلي حالة من جنون الكبرياء. جنود غرباء وفدوا من بلاد تفصلها عن العراق بحار وآلاف الأميال، يجهلون لغة العراق، تاريخه، وعادات وتقاليد وقيم شعبه؛ جنود متخمون بأحاسيس العلو والتفوق العنصري، دفع بهم كرأس حربة وأداة لانجاز مشروع أسس علي ادعاءات لا أصل لها. كما كل الاحتلالات، فإن آثار السيطرة الإمبريالية لا تقتصر علي حياة وروح الشعب الواقع تحت الاحتلال بل وعلي حياة وروح القوة المحتلة أيضاً. ليس العراقيون فقط من أصبحوا عرضة للموت والدمار والكراهية، بل وجنود الاحتلال أيضاً. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، تفسير هذا الانتشار لممارسات التعذيب وقتل العزل والأسري، من بغداد إلي سامراء إلي الفلوجة والبصرة والموصل، بدون رؤية الروح الإمبريالية التي يحملها المحتلون.

بيد ان خلف ممارسات التعذيب ومعسكرات الاعتقال والموت الجماعي، ثمة نتيجة أخري لا ينبغي تجاهلها. لقد ظن الغزاة، والعالم كله ينكر عليهم شن حرب لا مبرر لها ضد بلد لم يشكل تهديداً لهم، ان ترحيب الشعب العراقي بهم وبوعود الديمقراطية والرفاه سيعوض الشرعية الدولية التي عجزوا عن إحرازها. بادعاءات الكشف عن المقابر الجماعية التي قام بها النظام السابق، وانشاء صورة أحادية الجانب للعراق الحديث، حاول الغزاة تغطية الاحتلال بغلالة أخلاقية. اليوم، وقد انتشرت ممارسات التعذيب وزرعت أرض العراق الجديد بالمقابر والمعتقلات، ينهار المسوغ الأخلاقي للغزو والاحتلال. ولكن ليس غلالة الاحتلال الأخلاقية هي التي سقطت فقط، بل وبات الاحتلال يقف أمام طريق سياسي مغلق أيضاً.

بعد اندلاع المقاومة، والفشل في اخمادها، وبعد انكشاف زيف مسوغ أسلحة الدمار الشامل، وبعد مسلسل التعذيب وتدمير المدن وتهجير الآمنين، كيف يمكن للاحتلال ان يعيد اختراع نفسه؟ الجواب لدي مؤدلجي الحرب في واشنطن كان بسيطاً: العودة إلي وعود الديمقراطية والحرية وعقد انتخابات برلمانية، تنبثق عنها حكومة عراقية تدعي الشرعية. في عصر ما بعد الحرب الباردة، ليس مثل الانتخابات أساساً للشرعية؛ وإن سارت العملية الانتخابية كما يراد لها فإن أحداً لن يستطيع اتهام الحكومة العراقية القادمة بافتقاد الشرعية. ومنذ استلمت حكومة علاوي المؤقتة مقاليد الحكم، أصبحت الانتخابات هي الحلم الذي ينتظر المحتلون تحقيقه. عبر الانتخابات، سيعاد البريق إلي المسوغ الأخلاقي للغزو، وعبر الانتخابات سيمكن إعلان النجاح الامريكي في العراق وتبرير الخسائر البشرية والمادية الهائلة للمحتلين والعراقيين علي السواء، وعبر الانتخابات ثمة أمل ما زال في انقاذ مشروع الاحتلال. ولكن الذين خططوا للانتخابات نسوا تفصيلاً صغيراً في سيناريو الانقاذ: كيف يمكن ان ينتقل العراق كل هذه النقلة في ظل الاحتلال. ما كان مطلوباً من الحلفاء العراقيين انجازه هو عقد الانتخابات في ظل الاحتلال وبإشراف ضباطه ودبلوماسييه ورجال استخباراته. ولان العراقيين يعيشون في العراق، وقد خبروا الإمبراطوريات الإمبريالية من قبل، فقد رفضت قواهم الوطنية اللعبة من أساسها. الذي طالبت به القوي التي قررت مقاطعة الانتخابات كان بسيطاً وسهلاً، لو ان أحداً في واشنطن يريد خيراً للعراق، وهو إعلان جدول انسحاب زمني للقوات المحتلة، بحيث يستطيع العراقيون رؤية الضوء في نهاية النفق والاطمئنان إلي ان الانتخابات ليست وسيلة لإطالة أمد الاحتلال. خطة الانقاذ الانتخابية تسير الآن إلي الهاوية. أكثر من سبعين حزباً ومنظمة نقابية وتجمعاً سياسياً سيقاطع الانتخابات. في العديد من أحياء بغداد تتجول عناصر المقاومة جهاراً نهاراً تدعو الناس إلي المقاطعة، بينما أصبح من المؤكد ان أربع محافظات تقطنها أغلبية عربية سنية وتشكل أكثر من ستين بالمائة من مساحة العراق ستقاطع الانتخابات. شخصيات وعلماء شيعة بارزون أعلنوا المقاطعة، بينما تعتمد الأحزاب الشيعية علي السيستاني لجلب الناخبين إلي صناديق الاقتراع. عدد من وزراء الحكومة المؤقتة لا يخفون ضيقهم بالتصميم الأمريكي علي عقد انتخابات ناقصة وغير آمنة في نهاية واحد من أكثر الشهور دموية. أما علي صعيد العلاقات بين عناصر الطبقة الحاكمة الجديدة، فإن التطاحن علي السلطة أدي إلي سلسلة من الاغتيالات ومحاولات الاغتيال، وإلي تبادل الاتهامات علي شاشات الفضائيات العربية.

قبل عقدها، كانت الانتخابات تمثل أملا من نوع ما. بعد عقدها، لن يتبقي ثمة من أمل. بتصاعد المقاومة والعنف، واتساع الهوة بين شلل حلفاء الولايات المتحدة، سيكون مشروع الاحتلال قد وصل إلي نهايته المحتومة. لا أسلحة دمار شامل، لا استقرار ولا أمن، لا ماء ولا كهرباء ولا عمل، لا مسوغ أخلاقيا، ولا مخرج سياسيا. فماذا تبقي لمشرع الغزو والاحتلال من انجازات يريها للعالم؟

بعد عقد الانتخابات سيكون علي واشنطن ان تسلك واحداً من طريقين. الأول ان توحي للحكومة العراقية القادمة، أياً كان سادتها، ان تطلب جدولة انسحاب قوات الاحتلال. وبعد تفاوض شكلي، تعلن إدارة بوش انسحاباً كاملاً من العراق خلال عام أو أقل، مؤكدة علي ان في ذلك فسحة كافية لبلوغ الجهازين العسكري والأمني العراقيين سن الرشد واكتساب القدرة علي التصدي لتحديات الداخل والخارج. بذلك يترك حلفاء الاحتلال لقدرهم، وتدعي الإدارة الأمريكية ان الانسحاب الكامل كان هو المخطط الأمريكي الأصلي علي كل حال. انتهت الديكتاتورية والاستبداد في العراق، وبذلك قامت الولايات المتحدة بواجبها الأخلاقي والسياسي والأمني في بلاد الرافدين. أما ما يزيد عن مئة ألف من الضحايا العراقيين، ونصف مليون ممن تعرضوا لتجربة الاعتقال، والمدن والأحياء المدمرة في كافة أنحاء البلاد، فمجرد تفاصيل. الطريق الثاني هو طريق العناد والمكابرة، طريق الإمبراطوريات الإمبريالية التقليدي. الانسحاب من العراق بدون تحقيق مكاسب ملموسة سيري في المنطقة العربية والعالم باعتباره هزيمة أمريكية بالغة، بعد ان وضع مؤدلجو الغزو العراق في إطار من هجوم أمريكي شامل علي المنطقة وشعوبها وانظمتها، وعلي النظام العالمي بأسره. وسيكون هناك في واشنطن دائماً، كما كان في كوريا وفيتنام، من يقول ان الأمور ستتحسن بعد بعض الوقت وبعض الزيادة في القوات المحتلة. مزيد من الاحتلال، مزيد من الموت والدمار وفضائح التعذيب، ومزيد من الفشل.

*كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي / 27 كانون ثاني (يناير) 2004

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ