الإسلام
واستباحة الدماء
عصام
العطار *
هل يستبيحُ الإسلامُ دماءَ
الأبرياء حتى من الأطفال
والنساء ، كما يدّعي عليه
المدّعون ، ويُرَوِّج
المروِّجون ، في عدد من البلاد
ووسائل الإعلام ؟!
لا يقول ذلك إلا جاهلٌ ، أو كاذب ،
أو مُضَلَّلٌ بما ينشره
الجاهلون ، ويفتريه المضلِّلون
، ويزوِّرونه بمختلف الألوان
والأشكال.
فالإسلام يعصم دماء الأبرياء (1) ،
ولا يستبيحها ولا يبيحها بحال
من الأحوال ، ويَعُدُّ
استباحتها ولو كانت دماء فردٍ
واحد أو أفراد ، كبيرةً من أكبر
الكبائر ، وجريمةً من أفظع
الجرائم ، وعدواناً خطيراً على
الحياة الإنسانية كلّها ، وعلى
البشر جميعاً.
قال تعالى : ( ... مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسَادٍ فِي الأَرْضِ
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا ... ) [ المائدة : 32 ]
وجعل الله تعالى من أخصّ خصائص
عباده المؤمنين الصادقين ،
الذين اصطفاهم من خلقه ، ونسبهم
لنفسه ، وزيّنهم بأكرم الصفات ،
وأجملها : أنهم لا يقتلون النفس
التي حرّم الله إلاّ بالحق.
قال تعالى في صفات عباده الفائزين
هؤلاء : ( وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ وَلاَ
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ
أَثَامًا % يُضَاعَفْ لَهُ
الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهَانًا % إِلاَّ مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً
صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ
سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا % وَمَنْ تَابَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ
يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ
مَتَابًا ) [الفرقان : 68-71]
ولا يجوز قتل الأطفال والنساء غير
المقاتلات ، والرجال غير
المقاتلين ، أو غير القادرين
على القتال في الحرب.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما ،
عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما "أَنَّ امْرَأَةً
وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
مَقْتُولَةً ؛ فَأَنْكَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ
"
وفي أحاديث أخرى
:
* أنه بعث رجلاً في غزوة من
غزواته إلى خالد بن الوليد ،
وكان خالد على المقدّمة ، فقال :
« قُلْ لِخَالِدٍ : لاَ تَقْتُلِ
امْرَأَةً وَلاَ عَسِيفًا (2) »
رواه أبو داود.
"إلْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ
لَهُ : لاَ يَقْتُلَنَّ
ذُرِّيَّةً وَلاَ عَسِيفًا »
رواه أبو داود والنسائي وابن
ماجة.
* وروى أبو داود عن أنس رضي الله
عنه ، أن رسول الله
صلى
الله عليه وسلم قال : " لاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا
فَانِيًا ، وَلاَ طِفْلاً
صَغِيرًا ، وَلاَ امْرَأَةً ..
وَأَصْلِحُوا ، وَأَحْسِنُوا ،
فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ "
وقد جمع الخليفة الأول أبو بكر
الصديق رضي الله عنه عدداً من وصايا رسول الله صلى
الله عليه وسلم للمسلمين في الحرب ، في وصيته
الجامعة لجيش أسامة بن زيد رضي
الله عنهما ، ومما جاء فيها
:
((يا أيها الناس !
لا تخونوا ، ولا تَغُلّو ، ولا
تغدِروا ، ولا تُمَثُّلوا ، ولا
تقتلوا طفلاً صغيراً ، ولا
شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، ولا
تعقروا نخلاً ، ولا تحرقوه ، ولا
تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تذبحوا
شاة ، ولا بقرة ، ولا بعيراً
إلاّ لمأكلة . وسوف تمرون بأقوام
قد فَرّغوا أنفسهم في الصوامع ،
فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له ))..
وقد كان الخلفاء الراشدون من بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرصون
على توجيه الجند الإسلاميّ إلى
مراقبة الله في أنفسهم ، وفي
خصومهم ، وفي مختلف تصرفاتهم ،
وإلى الابتعاد في مختلف ظروفهم
عن المعاصي والآثام ، وبضبط
النفس ، وإقامة العدل
والتَّحرُّر من الظلم ،
والتحلّي بأقوم السلوك وأكرم
الأخلاق على الدوام ، كما يظهر
لنا ذلك في كتاب عمر بن الخطاب
إلى سعد بن أبي وقاص
:
* كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه
من الأجناد
: "أما بعد ؛ فإني آمرك ومن معك من
الأجناد بتقوى الله على كل حال ،
فإنّ تقوى الله أفضلُ العدَّة
على العدوّ ، وأقوى المكيدة في
الحرب
. وآمرك ومن معك أن
تكونوا أشدّ احتراساً من
المعاصي منكم من عدوكم ، فإنّ
ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم . واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظةً
من الله يعلمون ما تفعلون ،
فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا
بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله
. واسألوا
الله العون على أنفسكم ، كما
تسألونه النصر على عدوكم ، أسأل
الله ذلك لنا ولكم. ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم
أهل الصلح ، واللهُ وليُّ أمرك
ومن معك ، ووليُّ النصر لكم على
عدوكم ، والله المستعان ".
فالحرب في الإسلام لها قيودُها
وآدابُها وأخلاقُها الإنسانية
، وليست انفلاتاً من كلِّ قيد ،
واستباحةً لكل عمل ، وطلباً
لِلْغَلَبَةِ بأيِّ سبيل.
الحربُ في الإسلام يجب أن تكون لها
أهدافُها المشروعة ،
ومبرراتُها المشروعة ،
ووسائلُها المشروعة ،
وتصرفاتُها المشروعة أيضاً ،
وهو يؤثر السلم على الحرب ما
أمكنتْ سُبُل السلم ، ويميل
إليه إن مال إليه الخصوم : )
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ
فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ
عَلَى اللَّهِ ... ) [الأنفال : 61].
وأعود إلى قضية قتل النساء
والأطفال في الحرب.
قال الإمام مالك والإمام الأوزاعي
– كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في
فتح الباري
:
- "لا يجوز قتل
النساء والصبيان بحال ، حتى لو
تَتَرّس أهل الحرب بالنساء
والصبيان ، أو تَحَصّنوا بحِصْن
أو سفينة ، وجعلوا معهم النساء
والصبيان ، لم يجز رميُهم ولا
تحريقُهم " فتح الباري ج6 ص 147.
وإذا كان هنالك آراء واجتهادات
أخرى تخالف ما تقدم لأئمة
وعلماء آخرين ؛ فقد " اتفق
الجميع على منع القصد إلى قتل
النساء والولدان " فتح الباري
ج6 ص 147.
ومن أعجب العَجَب أنّ بعض الذين
يَصِمون الإسلام باستباحة دماء
الأبرياء ، وقتل الأطفال
والنساء ، هم أولئك الذين
استباحوا دماء الأبرياء – وما
يزالون يستبيحونها - ، وقتلوا
الأطفال والنساء – وما زالوا
يقتلونهم - في أفغانستان
والعراق وفلسطين ، وغيرها
وغيرها من البلاد.
وما يزال العالم يتذكّر ، ولن ينسى
العالم في مقبلات الأيام ،
القنبلةَ النوويّة التي
أُسْقِطت – دون ضرورة مُلْجِئة
– على هيروشيما ، والقنبلةَ
النوويّة التي أُلْقِيَت – دون
ضرورة مُلْجئة – على ناجازاكي ،
فدمرت كلّ شيء ، وأحرقت كلّ شيء
، ولم تُبْقِ على إنسانٍ ،
طفلاً
كانَ أو امرأةً أو رجلاً ، ولا
على حيوانٍ ، ولا على نبات ،
وغَرَسَتْ في الأرض وفي الفضاء
بذور الهلاك والبلاء لقادم
الأجيال.
وما يزال العالم يتذكّر ، ولن ينسى
العالم في مقبلات الأيام ،
عشرات الملايين من النساء
والأطفال والرجال المدنيين ،
الذين قُتلوا في الحرب العالمية
الثانية ، أو أصيبوا ، أو
شُرِّدوا ، أو نالهم من الشدة
والبلاء والعذاب ما يَخِفّ معه
الموت.
يجب أن ينتهيَ هذا كلُّه في عالَم
اليومِ والغد ، وأن نتكاتف ،
نحنُ البشرَ جميعاً ، ونكافحَ
لينتهي في أوطاننا المختلفة ،
وفي كل مكان من الأرض ، القتلُ
الظالم الآثم دون حق.
يجب أن ترتفع أصواتُنا كلُّها
عالِياً عالياً في هذا السبيل
على الصُّعُدِ الرسمية
والشعبية ، المحلية والدولية ،
وأن نبذل في ذلك ما نستطيع وإنْ
قلَّ ما نستطيع.
إنّ الدماء البريئة كلَّها حرام
حرام ، يستوي في ذلك دماءُ
النساء والرجال ، والشيوخ
والأطفال ، والأقوياءِ
والضعفاءِ ، والأغنياءِ
والفقراء ، وأبناءِ العالم
الأول والعالم الثالث والعالم
العشرين !!
يجب ألاّ يتمكّن القويُّ من ذَبح
الضعيف ، والغنيُّ من استغلال
الفقير ، وصاحبُ السلطان
والإعلام من وضع من شاء من
الضعفاء بالباطل في قفص الاتهام
، والحكم عليهم بالباطل بالموت
أو الحياة ، وبالسجن والقيود أو
بإطلاق السراح.
يجب أن ترتفع راية العدالة
والمساواة والكرامة والتضامن
الإنسانيّ في هذه الدنيا ، وأن
تُسَنَّ لذلك القوانين ، وتقوم
لذلك المؤسّسات الرسمية
والشعبية ، المحلية والعالمية ،
وأن يتآزر الناس الطيّبون
الواعون في كل مكان ، ومن كلِّ
مكان ، حتى تُتَرْجَم القوانين
الجيّدة إلى واقع ملموس ، ولا
يتلاعبَ بالمؤسسات الجيّدة
الأقوياء القادرون.
لقد بلغ العالم من التقدّم
التكنولوجي المذهل ،
والإمكانات الهائلة للخير أو
الشر ، ما يجعله أكثر فأكثر بين
احتمالين
:
ـ التفاهم والتعاون على أساس من
العدالة والرحمة ، والأخوّة
الإنسانية ، والخير المشترك.
ـ أو التنابذ والأنانية والجشع
والظلم والصراع بمختلف الأشكال.
الخيارُ الأوّل هو خيارُ الحياةِ
والعقل والحضارةِ السامية
والخلقِ الكريم ، ومصلحةِ
الإنسانية والإنسان.
والخيارُ الثاني هو خيارُ الشرِّ
والنُّكْرِ والهلاك.
إنّنا نقف مع الخيار الأول بكل ما
نستطيع.
ونبسط أيدينا إلى سائر الناس في
هذا السبيل.
21/02/2005
*مفكر
إسلامي مقيم بألمانيا
الهوامش
:
1-
ـ
أن يحفظُها ويحميها ويمنع
إراقتها
2-
ـ
العسيف : الأجير
----------------------------------
*
مجلة الرائد العدد 248
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|