جدلية
الدين والسياسة في العدوان
الأميركي على العراق
المجموعة
الليكودية هي الصانع الحقيقي
للقرار الاستراتيجي الأميركي
العدوان
على العراق حرب أميركية ذات
أهداف إسرائيلية
تغيير
الخرائط وإعادة رسم الحدود
وتفتيت المنطقة وفرض الإذعان
والخضوع للسياسات الأميركية –
الصهيونية هو الهدف الحقيقي
"
يا بنت بابل المحتّم خرابها,
طوبى لمن يجازيك بما جزيتنا به.
طوبى لمن يمسك صغارك ويضرب بهم
الصخرة " (المزمور 137)
الدكتور
عبد الغني عماد*
عندما قال الرئيس بوش قبل أيام من
اتخاذه قرار العدوان انه يقرأ
كل يوم في الكتاب المقدس قبل
النوم ليستلهم القرار المناسب,
قيل يومها انه يقرأ المزمور (137)
من كتاب التوراة الذي يتضمن وعد
الرب ودعاء اليهود بتدمير بابل
التي نفاهم اليها نبوخذ نصر كما
تذكر التواريخ.
ليس في الأمر دعابة, فقد كثرت في
الآونة الأخيرة الكتابة في
الصحافة الأميركية عن الخلفية
الدينية التي تشكل العقل
السياسي والمرجعية المؤطرة
لتفكير الرئيس بوش. فقد أعدت
كبريات هذه الصحف ملفات ودراسات
ومحاور خصصتها لدراسة هذا
الجانب, ومنها ما أعدته مجلة "نيوزويك"
الأميركية في عددها الصادر في
(10/3/2003) والمخصص عن الاعتقادات
الدينية التي تدفع جورج بوش
الابن الى سلوكه السياسي
والعسكري الحالي, وكيفية تحوله
الى تبني الاصولية
البروتستانتية المتصهينة ليقود
أميركا في مغامرات يطغى فيها
الحماس الديني على العقل
السياسي.
يتألف الملف من ثلاث مقالات, أهمها
بعنوان "بوش والرب" بقلم
هاوارد فاينمان, تليها "خطيئة
التكبر" بقلم البروفيسور
مارتن مارتي وهو قسيس وأستاذ
بجامعة شيكاغو, والثالثة بعنوان
"انجيل على نهر البوتوماك"
بقلم كينيث وودواد. في نفس
الاسبوع نشرت صحيفة الواشنطن
بوست أيضاً مقالاً بنفس الاتجاه
وهو بعنوان "بالنسبة لبوش..
انه الاحساس بالتاريخ والمصير"
بتاريخ (9/3/2003). وكان سبقه مقال
هام وعميق بعنوان "عن الرب
والانسان في المكتب البيضاوي"
بقلم القسيس فريتس ريتش بتاريخ
(2/3/2003) ناقش فيه المنطق الذي
يقوم عليه التفكير الديني لبوش
وأثر ذلك السلبي على أميركا
وعلى المسيحية عموماً.
هذه بعض المقالات التي بدأت تكشف
للأميركيين المخاطر المترتبة
على السياسات الراهنة للرئيس
بوش والتي تصدر عن رؤية وحماس
ديني مشوه دون اعتبار للمصالح
الحقيقية للولايات المتحدة
ولدورها في العالم.
عائلة بوش وحصاد الكراهية
يمكن لهذا الجيل ان يتذكر جورج بوش
الاب والابن وانجازاتهما "الحضارية"
في قتل المدنيين العزل لسنوات
طويلة. لكن قلة من يعرفون تاريخ
هذه العائلة وانجازاتها
وسيرتها في جمع الثروة والعداء
للعرب والمسلمين. فالجد الاكبر
لهذه العائلة كان يدعى ايضاً
جورج بوش, وهو عاش بين عامي (1796 –
1859) وله سلسلة من الكتب وضع فيها
اشنع ما يمكن ان يكتب عن العرب
والمسلمين والنبي محمد صلى الله
عليه وسلم في الولايات المتحدة.
يكشف منير العكش في كتابه الجديد
"أميركا والابادات الجماعية"
حقيقة هذا الجد الاكبر الذي
أصدر كتاباً حاقداً مليئاً
بالكراهية عن حياة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم عام 1831,
والكتاب محفوظ في مكتبة
الكونغرس, وله ايضاً عدة كتب في
شروح أسفار العهد القديم,
ويعتبر كتابة "وادي الرؤى,
احياء رميم اسرائيل". Valley of vision: the daybones
of israel
وهو من أبرز ما كتب في ذلك الحين في
إطار المسيحية الصهيونية
الداعية الى ضرورة العمل من أجل
تجميع يهود العالم في فلسطين
وتدمير امبراطورية "السارازن".
والسارازن هو الاسم الذي يطلقه
الصليبيون وأوروبيو القرون
الوسطى على العرب والمسلمين,
وكان الرومان يطلقونه على بعض
رعاياهم تحقيراً.
ونستطيع ان نستطرد في ذكر "مآثر"
هذه العائلة التي خصص لها
الفرنسي اريك لوران, مراسل
الفيغارو المعروف باختصاصه في
السياسة الدولية, مطلع هذا
العام كتاباً بعنوان "حرب آل
بوش, الاسرار المخزية" يتحدث
فيها كيف يستمر جيلان من هذه
العائلة في خوض نفس العدوان على
العراق, ويذهب الى كشف علاقات
هذه العائلة بشركات النفط
ويتحدث ايضاً عن الجد صموئيل
بوش, ثم عن ابنه بريسكوت بوش, حيث
كان الاول مستشاراً للرئيس
هربرت هوفر, والثاني كان شريكاً
في مجال التعدين مع الألماني
النازي تيسين الذي أصبح في عهد
هتلر مديراً لشركة الاتحاد
المصرفي, حيث قامت فيما بعد
ادارة الرئيس روزفلت بمصادرة
موجودات هذا المصرف لأنه يتعامل
مع "العدو".
اما "مآثر" بوش الابن فلا
نزال نشهدها الآن في العراق. هذا
الرجل الذي بدأ حياته بعيداً عن
التدين, كان مدمناً على الخمر,
الى أن نجحت زوجته في اعادته الى
الكنيسة والكف عن الشراب. لكن
الرجل الذي أثر في حياته
الدينية ونقله نقلة جذرية من
حياة الادمان الى الاصولية
المسيحية – المتصهينة هو القس
"بيلي غراهام" الذي قال بوش
فيه مرة "انه الرجل الذي
قادني الى الرب". وغراهام هو
من أبرز وجوه اليمين المسيحي
الصهيوني في الولايات المتحدة
اليوم. وقد سمعنا الكثير عن خطبه
العنصرية ضد العرب والمسلمين بل
وضد الدين الاسلامي بعد 11 ايلول.
ومن كتب بوش الابن المفضلة التي
يقرؤها يومياً في البيت الأبيض
– طبقاً لنيوزويك – كتاب
القسيس "ازوالد شامبرز"
الذي مات في مصر عام 1917 وهو يعظ
الجنود البريطانيين
والاستراليين هناك بالزحف الى
القدس وانتزاعها من المسلمين.
بدأ بوش الابن نشاطه السياسي
عام 1988 حينما أوكل أليه والده
ملف العلاقات بالقسس والوعاظ
المسيحيين وتعبئتهم للتصويت
اليه, ومن حينها توطدت علاقاته
بتلك القوة الدينية اليمينية
الصاعدة, خصوصاً في الجنوب
الأميركي, وازدادت فعاليتها
حينما سيطرت تلك المجموعات على
الحزب الجمهوري حيث استفاد منها
في تقلد منصب حاكم ولاية تكساس,
ثم في انتخابه رئيساً فيما بعد.
الارث الديني والعقل السياسي
ثمة علاقة وطيدة بين الولايات
المتحدة والصهيونية, تتخطى
البعد السياسي والاستراتيجي,
وتتصل بالخلفية التأسيسية
للكيان الأميركي. فالمهاجرون
البيض الرواد الأوائل كانوا في
غالبيتهم من اتباع الكنيسة
البروتستانتية التي شقت الطريق
فيما بعد نحو تأسيس العديد من
الكنائس المسيحية - المتصهينة,
خلافاً للكنيسة الكاثوليكة,
التي يقدر اتباعها بحوالي 60
مليون شخص. ويمكن القول اجمالاً
ان انصار بوش هم في الغالب من
البيض البروتستانت ممن ينتمون
للكنيسة المعمدانية او الكنيسة
المنهجية Methodist التي ينتمي اليها بوش.
تأسست الذهنية الأميركية المؤيدة
لاسرائيل على قراءة هذه الكنيسة
المتصهينة, التي ترى ان هناك
ثلاث اشارات يجب ان تسبق "عودة
المسيح" الاولى هي قيام
اسرائيل, وقد تمت, والثانية هي
احتلال مدينة القدس, وهو ما حصل
عام 1967, حيث يعتقدون ان المسيح
سيمارس منها الحكم على العالم
بعد قدومه الثاني المنتظر,
والثالثة هي اعادة بناء هيكل
سليمان على انقاض المسجد الأقصى.
وبعد اكتمال هذه الرؤية ستقع
معركة "هرمجدّون" التي
يظهر المسيح فوقها مباشرة, بعد
ان يباد الكفار, فيحكم العالم
الف سنة تقوم بعدها القيامة. "هرمجدّون"
هذه تقع في سهل مجدّو بين القدس
وعكا حيث يبشر الانجيليون
المتهودون بأن معركة نووية
وكيماوية ستحصل على أرضها. كان
رونالد ريغن, الرئيس السابق
للولايات المتحدة من أشد
المتحمسين والداعمين لهذه
الرؤية وله فيها أحاديث عديدة
ومسجلة.
القراءة في الأرث الديني الاميركي
تنبىء عن رؤية متعالية للأمة
الأميركية, يعبر عنها منظرو هذا
الكيان. فإنشاء الولايات
المتحدة أمر صادر عن "ارادة
قوة" وعن قناعة بأن "القدرة
الربانية" كلّفت هذا الكيان
تسيير شؤون العالم وادارته وان
عليهم اداء هذه الرسالة, انه عقل
مسكون بيقين تجسيده "لأمر
الهي" إنها صورة يؤكدها
العشرات من المفكرين والمؤرخين
الاميركيين.
لذلك لم يكن صدفة ان المهاجرين
الأوائل الى اميركا اعطوا
أبناءهم اسماء عبرانية (ابراهام
– سارة – اليعازر..) وفرضوا
تعليم العبرانية في مدارسهم
وجامعاتهم حتى أن أول دكتوراه
منحتها جامعة هارفرد عام 1642
كانت بعنوان (العبرية هي اللغة
الأم) وأول كتاب صدر في اميركا
هو سفر المزامير, وأول مجلة كانت
مجلة اليهودي, وسمح البروتسانت
البيوريتانيون لليهود ببناء
محافلهم الدينية في وقت مبكر
اثناء هجرتهم للعالم الاميركي
الجديد قبل ان يسمحوا للكاثوليك
ببناء كنائسهم, وسموا انفسهم
"اطفال اسرائيل" في طريقهم
الى الأرض الموعودة واحتفلوا
بيوم السبت كيوم راحة لهم.
لقد ترسخت مع الأيام في الذهنية
الأميركية مفاهيم وأفكار
المسيحية الصهيونية, وأرسى
الرئيس الأميركي وودرو ولسون
قاعدة الالتزام بالوطن القومي
اليهودي من خلال التزامه بوعد
بلفور, وتابع بعده روزفلت هذه
السياسة, وكان بعده ترومان أكثر
فظاظة في تأييده لما يعتقد انه
"إرادة الله" التي يجب أن
تتجسد بعودة شعبه الى أرضه.
ما علاقة هذه المعطيات فيما يجري
اليوم؟ نرى ان العلاقة وطيدة
لأن اليمين المسيحي – المتهوّد
الذي ينتمي اليه جورج بوش
وعائلته يؤمن بأن اسرائيل مشروع
الهي, ومحطة تاريخية لازمة
لعودة المسيح. وكل رجال الدين
الفاعلون في هذا التيار يقفون
معه وهم يمثلون اليوم القاعدة
الانتخابية الاساسية للحزب
الجمهوري. وهذه الخلفية وحدها
تجعل بوش يتبنى القراءة
الاسرائيلية لغزو العراق حتى
ولو أدى ذلك الى اشعال حرب مع كل
المسلمين وانهيار العلاقة
التاريخية مع أوروبا.
وقد تابع العالم قصة "ريتشارد
بيرل" وزملائه, الذي استقال
مؤخراً تحت وطأة فضيحة قيل انها
مالية. لكن الحقيقة غير ذلك.
فهذا اليهودي الأميركي الذي لقب
بأمير الظلام, عمل منذ أعوام ضمن
فريق ترأسه من مثقفي اليهود
الاميركيين على وضع ما سمي بـ
"الاستراتيجية الاسرائيلية
للعام 2000" قدمت الى بنيامين
نتنياهو عام 1996, دعوا فيها الى
دفع اميركا الى غزو العراق
لتأمين التفوق العسكري
الاستراتيجي لاسرائيل, كما دعوا
الى التخلي عن اوسلو وانتهاج
سياسة هجومية عدائية ضد
الفلسطينيين, والتخلي عن فكرة
"السلام الشامل" و"الأرض
مقابل السلام" لصالح فكرة "السلام
القائم على ميزان القوى". وهو
تم تطبيقه من قبل التيار
الليكودي في اسرائيل. ويبدو ان
البند المتعلق بالعراق يجري
تطبيقه اليوم. هذا التيار
الليكودي - الاميركي يعتبر
عصب الادارة الأميركية الحالية.
عمل ريتشارد بيرل في معهد
الدراسات الاستراتيجية
المتقدمة والدراسات السياسية
وكان عضواً في المعهد اليهودي
لدراسات الامن القومي, وقبلها
كان مديراً لصحيفة الجيروزاليم
بوست الاسرائيلية. وشغل مؤخراً
رئاسة "مجلس سياسات الدفاع"
في ادارة بوش الابن, بالاضافة
الى عمله كمستشار لوزير الدفاع
دونالد رامسفيلد, مع العديد من
اليهود الاميركيين المحيطين
بوزير الدفاع, وليس أقلهم نائب
الوزير بول ولفويفتز. عند
استقالة "بيرل" قدمت قناة
"سي أن أن" الرجل على أنه
"صاحب فكرة غزو العراق".
نجح اليهود الاميركيون بالتحالف
مع اليمين المسيحي المتهود في
الولايات المتحدة في الامساك
بمفاصل القرار الاستراتيجي ولم
يعد خافياً, في الدوائر
الاستراتيجية الأميركية أثر
الدين في رؤية بوش السياسية, بل
حتى في خطابه السياسي الذي يكثر
فيه من استخدام مصطلحات دينية.
ويمكن رصد عدة ملاحظات مقلقة في
هذا المجال منها:
- زلة اللسان التي اشار بها بوش
الابن الى أن اميركا تخوض حرباً
صليبية ضد الارهاب.
- تصريح جون آشكروفت وزير العدل
الاميركي الحالي, الذي اعتبر
فيه ان الاسلام دين يطلب فيه
الله منك ان ترسل ابنك لكي يموت
من أجله, والمسيحية ايمان يرسل
الله فيه ابنه لكي يموت من أجلك.
- تسريب التقرير الصادر عن مركز
استشاري للبيت الأبيض يتحدث عن
امكانية توجيه ضربات نووية
محدودة ضد دول "محور الشر".
- طلب الادارة الاميركية من
السعودية ومصر وباكستان إعادة
النظر بالمناهج التعليمية
الاسلامية في معاهد التدريس
الديني.
- صدور تقرير راند كوربوريشن, مركز
الدراسات التابع للبيت الأبيض,
الذي يعتبر السعوديين ناشطين
على كل المستويات في السلسلة
الارهابية, ويوحي التقرير الذي
صاغه لورنت مورفاييتش
بالاستيلاء على حقول النفط,
وتجميد الارصدة السعودية في
البنوك الأميركية والمقدرة بـ
600 بليون دولار واقامة جمهورية
اسلامية في المنطقة الشرقية
التي توجد بها حقول النفط
وتسكنها أغلبية شيعية.
- صدور سلسلة من التصريحات من
اليمين المسيحي الاصولي المقرب
من الرئيس والذي يملك وسائل
اعلام واسعة الانتشار مثل:
· ما قاله القس جيري فالويل حين
وصف النبي محمد (صلى الله عليه
وسلم) بالارهاب ورجل الشر في
حديث لشبكة سي. ان. ان.
· ما قاله القس جيري فينزاكد في
حزيران ( 2002) خلال المؤتمر
السنوي للمعمدانيين, عن أن
النبي محمد (ص) كان يمارس
الاستغلال الجنسي للاطفال, فهو
اتخذ 12 زوجة آخرها في التاسعة من
العمر.
· ما قاله القس بات روبرتسون عن أن
الاسلام دين لا يرغب بالتعايش
وان النبي (ص) متعصب ومسعور.
· ما قاله القس فرانكلين غراهام,
والمقرب جداً من بوش, حين اعتبر
الاسلام ديانة الشر لأنه يدعو
الى قتل الكفرة من غير المسلمين.
هذه التصريحات الصادرة عن قساوسة
متصهينين أثارت ردود فعل عديدة
شملت المسلمين والكثير من
المسيحيين المعتدلين وبعض
المثقفين, بل ان إفتتاحية "الواشنطن
بوست" في (8/10/2002), أدانت هذه
الهجمة وطالبت الرئيس بموقف
يدين هذه التصريحات العنصرية,
خاصة وان هؤلاء بغالبيتهم من
المقربين اليه "وهو غالباً ما
يتحدث بلغتهم "حسب تعبير
الجريدة, ومع ذلك بقي بوش صامتاً.
معارضة من داخل المؤسسة المسيحية
الاميركية
أصبح شائعاً إتهام الرئيس بوش
بالغباء وانعدام البصيرة, وصارت
الكثير من وسائل الاعلام تجاهر
مع شيء من السخرية بهذا الأمر.
وقد كتب القس "فريتس ربيتسش"
في الواشطن بوست عن "الرب
والانسان في المكتب البيضاوي"
وتتبع المصطلحات الدينية في
خطابه, والنزعة الوثوقية في
أحاديثه, مثل قوله "ان الحرية
والخوف, العدل والفظاعة, ظلا
دوماً في صراع, ونحن نعرف ان
الرب ليس حيادياً في هذا الصراع
"ومن ذلك تكراره أن اميركا"
امة مؤمنة وخيّرة ومثالية"
واحياناً "امة رحيمة وسخيّة".
ولسنا في حاجة الى التعليق
بالقول ان اطفال فلسطين والعراق
يعرفون الكثير عن هذه الرحمة
وذلك السخاء!! ويعلق القس فريتس
بشيء من السخرية داعياً الى قدر
أكبر من التواضع وقدر أقل من
التبجج. ويقول "أن اغلب
المصلين الذين يأتون الى كنيستي
الصغيرة لا يعتبرون انفسهم ولا
يعتبرون الامة الاميركية
مجموعة من القديسين "وهم يرون
ان انتصارنا على صدام حسين ليس
دليلاً كافياً على فضيلتنا أمام
الناس وأمام الله".
القس فريتس يقدم قراءة تاريخية
موضوعية لما يبدو حماساً دينياً
لدى اليمين المسيحي – المتصهين,
ولدى بوش الابن, فيجد جذوره في
تراث المستوطنين الاوروبيين
الاوائل في القارة الأميركية
الذين كانوا متدينين الى حد
التعصب. كانوا يؤمنون بان
اميركا هي صهيون الجديدة والارض
الموعودة, وهؤلاء الاميركيون
اليوم هم ورثة هذه الذهنية.
وقد عالجت هذا الموضوع بشكل مفصل
في كتابي الجديد الصادر عن دار
النفائس بعنوان "صناعة
الارهاب, في البحث عن موطن العنف
الحقيقي". والمشكلة كما تتضح
ليست في أن أنصار اليمين
المسيحي المتصهين يعبرون عن
مطامعهم السياسية ورؤاهم
الدينية والتي يعتبرون أنهم
وجدوها في شخص بوش اليوم, بل ان
المشكلة الحقيقية هي ان الرئيس
بوش نفسه يؤمن بذلك.
ان ما يقلق في هذه الظاهرة هو
انقلاب العلاقة التقليدية بين
الكنيسة والدولة في الولايات
المتحدة, بحيث اصبح رجل الدين,
كما يمثله هذا التيار, في خدمة
رجل الدولة بكل ما يعنيه ذلك من
استغلال للمسيحية في تبرير
الغزو والاستعمار, وإشعال
الكراهية والبغضاء والحروب مع
الديانات الأخرى.
وما يقلق أكثر أن انصار بوش هؤلاء
امثال القس بيلي غراهام وابنه
فرانكلين وجيري فالويل وبات
روبرتسون وغيرهم, الذين يسيطرون
على عقول تيار متصاعد من
الاميركيين البسطاء, يتصدرون
المصفقين له, بدلاً من ان يقدموا
الهداية الاخلاقية, حسب تعبير
القس فرنسيس, ان هؤلاء يمثلون
فلسفة دينية تزرع العنف وتؤسس
الكراهية والتكبر. ويخلص القس
فريتس في مقاله العميق الى
توجيه صرخة تحذير: ان اقتناعنا
بأن الرب الى جانبنا يجعل
الحاجة الى مراجعة الذات والى
التواضع أقل. ويضيف: إن التكبر
الأميركي في العصر النووي, ليس
انحرافاً اخلاقياً فقط, بل هو
يحمل في طياته بذور الكارثة".
اما الاصوات المسيحية التي ارتفعت
في العالم منددة بالحرب الظالمة
على العراق, ورافضة هذا المنحى
العسكري الاميركي الذي أخذ يتجه
نحو التفرد والتمرد على قرارات
الشرعية الدولية, فهي كانت في
الحقيقة قوية وصارمة في تعبيرها
عن ارادة المسيحية والمسيحيين
في العالم. وما موقف الفاتيكان
والكنائس الاوروبية, وغالبية
الكنائس الكاثوليكية في اميركا
إلا دليل على وعي متزايد بمخاطر
هذا النضج الامبراطوري الجديد.
اختلاط الدين بالسياسة والمصالح
لا بد من التنويه بأن سياسة الرئيس
بوش ليست سياسة "البعد الواحد"
فلا يمكن تفسيرها دينياً فقط
فهو شخصية مركبة تختلط فيها
الحماسة الدينية بالمنفعية
السياسية والمالية. فرائحة
البترول تفوح من هذه العائلة
أباً عن جد. فبوش الاب يعمل في
مجال النفط منذ العام 1953 وهو
صاحب شركة زاباتا بتروليوم,
والابن بدأ اعماله مع شركة Arbosto
Energy, ويحيط به داخل
الادارة عدد كبير من العاملين
في هذا المجال.
أما على الصعيد السياسي فقد تبنى
الرجل, وقبل أحداث 11 ايلول,
اتجاهاً استراتيجياً يمينياً
محافظاً, تجاوز فيه العمل من
خلال الأمم المتحدة والمؤسسات
الدولية, بل عمد الى تجاوز
حلفائه الاوروبيين في كثير من
القضايا المشتركة. وقام
بالتراجع عن التزامات الادارة
السابقة تجاه ما يسمى بعملية
السلام في الشرق الأوسط منذ
اليوم الأول لدخوله البيت
الأبيض. وجاءت احداث 11 ايلول
لتعزز هذا الاتجاه المتشدد,
والذي يتبنى الرؤية الليكودية
ليس فقط تجاه القضية الفلسطينية,
بل حتى رؤيتها لشكل وبنية الشرق
الاوسط" الذي تريد إعادة
ترتيبه وفق ما أعلن كولن باول
بصراحة, بل بفظاظة. قيل ان قرار
اجتياح العراق اتخذ في البيت
الأبيض في اليوم الثالث بعد
سقوط البرجين في 11 أيلول, وما
يؤكد هذا القول, ان لسان الجنرال
فرانكس قائد الحملة العسكرية
على العراق انزلق في أحد
مؤتمراته الصحفية قائلاً: "نحن
نحضر لهذا اليوم منذ أكثر من سنة".
هذا الكلام يثبت ان القرار متخذ
ولا علاقة لأسلحة الدمار الشامل
أو لمجيء المفتشين, أو حتى لقرار
مجلس الأمن إيجاباً أو سلباً.
يقول منير العكش, في كتابه القيم
والهام "أميركا والإبادات
الجماعية", ان رمزي كلارك
وزير العدل السابق حين وضع
كتابه الشهير عن جرائم اميركا
ضد الانسانية في حربها الاولى
على العراق, كانت وقتها الفرقة
الجوية القتالية السابعة
والسبعون في الجيش الأميركي قد
انتجت ووزّعت كتاب أناشيد تصف
فيه ما ستفعله الفرقة في الخليج,
وتنذر هذا المتوحش "القميء"
و"خدن الافاعي" بأن يستعد
للابادة. فيما ينتهي احد هذه
الأناشيد بخاتمة تقول: الله
يخلق أما نحن فنحرق الجثث. Allah
create but we cremate))
والكتاب كما يصفه خليط من
السادية والفحش, ومعظمه تشنيع
وتشهير وشتائم بذيئة للعرب
والمسلمين باعتبار انهم أعراق
منحطة و"حشرات" و"جرذان"
و"أفاعي". وربما تكون هذه
البذاءات مقتبسة من كتاب "حياة
محمد" (صلى الله عليه وسلم)
لجورج بوش الجد الأكبر لهذه
العائلة العنصرية والحاقدة.
قيل ان مستشار غورباتشوف خاطب
الاميركيين عندما كان الاتحاد
السوفياتي يتداعى قائلاً: "سنصيبكم
بخطب جلل. سنحرمكم من عدو". لم
يكن يدور في ذهن هذا المستشار
عندما قال هذه الجملة البليغة
والعميقة ان العقل الاميركي
يعرف مدى خطورة بقاء الكيان
الاميركي موحداً ومهيمناً بلا
"عدو". فهذا "العدو"
ضرورة, ولو لم يكن موجوداً لوجب
إيجاده. ومنذ ذلك الحين صعد الى
السطح الحديث عن "الارهاب"
وجاءت احداث 11 أيلول لتسعرّ
العداء ضد الاسلام, ولتربط
المقاومة بالارهاب ولتتبنى
المنطق الصهيوني في هذا المجال.
ومن يقرأ الصحف الاسرائيلية
اليوم, يراها تحفل
بالسيناريوهات التي ترسم معالم
العصر الاسرائيلي القادم
واحلامهم الوردية في اقامة "اسرائيل
الكبرى انطلاقاً من محور تل
أبيب – عمّان - بغداد. فهل يدري
الصامتون والشامتون والحاقدون
من الحكام العرب ما ينتظرهم حين
ينهار أحد أحجار الدمينو؟
*
أستاذ في الجامعة اللبنانية
واعرباه
|