ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الثلاثاء 26/10/2004


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

واحة اللقاء

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


جدل الإرادة والنّهوض

الدكتور سامي الشيخ محمد / درعا

sami.ch@shuf.com

من شأن نظرةٍ فاحصةٍ  للأسباب والعوامل المؤدّية لنهوض الأمم وانهيارها الكشف عن أهميّة عنصر الإرادة في عمليّتي النهوض والانهيار. فلا غرابة في القول أنَّ الإرادة الإنسانية من أهمّ العناصر الفاعلة في تاريخ البشر صعوداً وهبوطاً على الإطلاق . وتعاني الأمّة العربيّة اليوم مخاض النّهوض بفعل الآثار النّاجمة عن  الانهيار الّذي ألمّ بها منذ أكثر من خمسة قرون. فمن الأهميّة بمكان الحديث عن الإرادة وتبيان أثرها على عمليّة النّهوض العربي المنشود في واقعنا العربيّ الرّاهن. والإرادة الإنسانيّة تنقسم من النّاحية الوظيفيّة  إلى قسمين: إرادةٍ فاعلةٍ، وإرادةٍ منفعلةٍ، نتعرض إليهما بشيءٍ من التّفصيل . 

الإرادة الفاعلة:

الإرادةُ الفاعلةُ نوعان: إرادةٌ عاقلةٌ ملتزمةٌ، وإرادةٌ منفلتةٌ مغامرةٌ يجمع بينهما القدرة على الفعل، كلتاهما منتجتان للأفعال خيرها وشرّها، حسنها و قبيحها. أمّا الإرادةُ العاقلةُ الملتزمةُ فتتّصف بكونها: إرادةٌ حرّةٌ عاقلةٌ رشيدةٌ قادرةٌ سيّدةٌ على نفسها وعلى الأفعال الّتي تصدر عنها، فهي مريدةٌ مختارةٌ للموضوعات الّتي تقع في نطاق اهتماماتها، مبدعةٌ مبتكرةٌ، نشيطةٌ، واعية، صانعة للتّاريخ الإنسانيّ، صاعدةٌ باستمرار، غير منفلتة في حركتها. إنّها القدرة الذاتيّة للإنسان، باطنيّة في منشأها ظاهريّةٌ في أفعالها، مكانها النّفس والعقل لا الجسد، فكم من الأجساد الرّقيقة تسكنها إرادةٌ قويّةٌ وكم من الأجساد الغليظة تسكنها إرادةٌ ضعيفة، هذهِ الإرادةُ عاقلةٌ تختارُ الأدوات الملائمة للأفعال الّتي تقوم بها. وهي قادرةٌ على تحويل التصوّرات والمتمثّلات الّتي تتمثّلها إلى تعيّناتٍ  ملموسة. وبالتّالي فهي قوّة حيّة تسكن الإنسان، وقدرةٌ لا متناهية على الفعل والحركة. راشدة منتصرة، نافعة، أفعالها أخلاقيّةٌ لأنّها ملتزمة، هذا النّوعُ من الإرادة هو ما نحتاج إليه للنّهوض بواقعنا ومباراة الأمم المتقدّمة، إرادةٌ عقلانيّةٌ أخلاقيّة فاعلة .

وأما الإرادة المنفلتةُ المغامرة، ففضلاً عن كونها فاعلة، إلاَّ أنّها متحلّلةٌ من أيِّ التزاماتٍ عقلانيّة وأخلاقيّة، من هنا فهي عرضةٌ للوقوع في الضّلال، وارتكاب الشّرور والمعصية،  وهي عشوائيّةٌ، يتجاوز ضررها نفعها، تُعوِّلُ على تحقيق الفعل دون الالتفات لوجهته الأخلاقيّة، منتجةٌ للخوف والرّعب والكوارث، ساحقةٌ ماحِقةٌ لكلّ ما يعترض سبيلها، من صنوف الجمادِ والإنسان والحيوان والنّبات، أجَلُها قصيرٌ وانهيارها سريع سواءٌ كانت على مستوى الفرد أو الجماعة أو الدّولة.

لذا ينبغي التّنبّه لخطورة هذا النّوع من الإرادةِ المنفلتة المغامرة، بواسطةِ النّأي عنها وعدم السّماح لأنفسنا الوقوع فيها. 

الإرادة المنفعلة :

لا نُبالغُ إذا قلنا أنَّ مجتمعاتنا العربيّة تخضع لسلطان الإرادة المنفعلة في فكرها وأقوالِها وأفعالِها.فالشّعاريّة والمنبريّة الانفعاليّة هي السّمة الأبرز للخطاب السّياسيّ والإعلامي والثّقافيّ العربيّ، وبطبيعة الحال فنحن لا ننكرُ حقّنا في أن نحلم وننفعل باعتبار ذلك حاجة إنسانيّة، لكنّنا ننكر أن تنأى أحلامنا وانفعالاتنا بنا عن الواقع ومتطلّبات إحداثِ فعلٍ تاريخيٍّ فيه. فإذا لم نحوّل أحلامنا وانفعالاتنا إلى وقائعَ حيّةٍ ملموسةٍ، فإنّهُ لا جدوى عمليّة منها في سعينا للنّهوض بواقعنا إلى مصاف الأمم المتقدّمة. من هنا علينا الاعتراف بأنَّ إرادتنا المنفعلة عاجزة عن القيام بأفعالٍ تاريخيّةٍ هامّة فهي إرادةٌ لا تقوى على الصّعود، نكوصيّة، مستباحةٌ أو محافظة ، تميل بطبعها للاتّباع والتّقليد، تبريريّة، سقيمة، تقف عند حدود الموروث من الأمور فتقدّسهُ، متخلّفة، قاصرة، خَرِفةٌ، خَرِبةٌ، تالفةٌ، فاسدة، مهزومة، ضارّة. ينبغي الانعتاق منها لصالحِ  امتلاكنا إرادةً فاعلةً رشيدةٍ ملتزمة.

يمكننا ممّا تقدّم إستخلاص التّالي: إنَّ الإرادةَ مفتاحُ صعود الأمّة وهبوطها ، مفتاحُ صعودٍ عندما تكونُ إرادةً فاعلةً عاقلةً ملتزمة ، ومفتاحُ هبوط عندما تكون منفلتةً مغامرةً ومنفعلة ، فمنذ سقوط قرطاجة حتّى ظهور الإسلام ومنذ سقوط الأندلس إلى هذا اليوم ، نخضع إمّا لسلطان إرادة منفعلة أو لسلطانِ إرادةٍ فاعلةٍ منفلتةٍ مغامرة منتجةٍ للاستبداد والدّيكتاتوريّة والكوارث والهلاك ، فالفرقة والتمزّق والضّعف والتّخلّف والجهل ، وعدم القدرة على مقاومة التّلوّث الّذي تحدثهُ الأمم المتقدّمة فينا، وخروجنا من مسارات صناعة التّاريخ ، السّمة الأبرز لنا ، رغم أنّنا عشنا عصوراً من التقدّم والرّقيّ والازدهار وصناعة التّاريخ طيلة أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمئة عام قبل حلول القرن الثّاني قبل الميلاد (سقوط قرطاجة) . ومنذ الفتوحات العربية الإسلاميّة في القرن السّابع الميلادي حتّى سقوط الأندلس في القرن الخامس عشر .

ولطالما لا يتحقّق صعود الأمم إلاَّ بامتلاكها إرادةً فاعلةً رشيدة ، فإنَّه لن تقوم للعرب قائمة إلاَّ إذا امتلكوا إرادةً فاعلةً تحلُّ محلَّ إرادتهِم المنفعلة . ووجود هذهِ الإرادة ينبعُ من ذات الأمّة نفسها ، ولعلَّ ماهيّة التحدّيات المصيريّة الّتي تواجه العرب في عالم اليوم تكفي لإنتاج هكذا إرادة ، وأولى علامات ولادتها ، وفاة الإرادة المنفعلة فيهِم ، وصناعةِ وعيٍ عقلانيٍّ فاعلٍ مثمر ، يعيد للإرادة الفاعلة كرامتها . لقد طغت الخطابيةُ والمنبريّةُ والشّعاريّةُ ، والانفعاليّةُ على وعي العرب وسلوكِهِم قروناً طويلةً ولا تزال حتّى وقتنا الرّاهن ، فأنتجت ضروباً من الضّعف والجبن والتّخاذلِ والاستبداد واحتقار الذّات ، والتّبعيّة للآخر ، واغتيال كلّ إرادةٍ فرديّة فاعلة في الأمّة . والعمل على وأد إرادة الحياة لدى الأمّة في مهدها من جانب معظم الفئات العادمة فيها. رغم ذلك فالأمل في ولادة إرادة عربيّة فاعلةٍ قابلةٍ للحياة قائمٌ في داخلِ الأمّةِ ذاتِها ، ومن إمارات ذلك ولادة ظاهرة المقاومة العربيّة في أكثرِ من قطرٍ عربيّ في مواجهةِ أعداء الأمّة ، سواءٌ في فلسطين أو لبنان أو العراق . فالمقاومة صناعةُ الأحرار ، وتعبيرٌ حقيقيٌّ عن ولادة الإرادة الفاعلة الحرّةِ في الأمّة، فالمقاومون في تلك الأقطار، جهاديّون استشهاديّون، سادة لا عبيد، فاعلون لا منفعلون، قادرون على إلحاق الهزيمة بالأعداء، وبالموت الّذي يفرُّ منهُ الجبناءُ والمهزومونَ المستبدّون، نعم الإرادةُ العربيّةُ الفاعلةُ آخذةٌ في الاتّساع ، على أنقاض إرادةٍ منفعلةٍ آخذةٍ بالزّوال .

وممّا لاشكَّ فيه أنَّ الأمّة العربيّة لم تعدم وجود بعض الإرادات الفاعلة فيها طيلةَ الخمسة قرون الماضية. والدّليلُ على ذلك بروز حركات المقاومة العربيّة في مواجهةِ الاحتلالين العثماني والأوروبي وخوض حروب الاستقلال في مواجهة القوى الاستعماريّة الحديثة والمعاصرة في عددٍ من البلدان العربيّة ، وآخرها حرب تشرين في العام 1973 والتصدّي للغزو الصّهيوني للبنان في العام 1982 واندلاع انتفاضتي الشّعب الفلسطيني في العام 1987 والعام  2000  ، مروراً بإلحاق الهزيمة بالاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان ، وتصاعد أعمال المقاومة المسلّحة للاحتلال الأنجلو أمريكي للعراق . بمعنى أنَّ الإرادة العربيّة الفاعلة لم تنعدم منذ سقوط الخلافة العربيّة الإسلاميّة حتّى يومنا هذا ، فهي إرادةٌ آخذةٌ في التّجذّر والاتّساع ، لكنّها لم تبلغ الحدّ الّذي يجعلُ منها إرادة كليّةً موحّدةً تجعلُ من العرب قوّةً عالميّةً يُحسبُ حسابها ، وتعيد لهم كرامتهم ومكانتهم الّتي يستحقّونها بين الأمم .

من هنا يتعيّن على العرب التّركيز على الأفعال لا الأقوال ، على العقل والعلم ، لا على التّقليد والخرافات ، على العمل المنتج والتّقانة لا على التّنظير الأجوف والاستهلاك ، ولكن من الجهة المعنيّةُ بتفعيل الإرادة العربيّة والانتقال بها من مستوياتٍ جزئيّة منخفضةٍ إلى مستوياتٍ كليّةٍ متقدّمة ؟ الشّعوبُ أم قادتُها ؟ تؤكّد تجارب البشريّة عبر تاريخها أنَّ قادة الشّعوب وطلائعها هم الجهةُ الوحيدة القادرة على تثوير إرادتها ، والانتقال بها من طور الانفعال إلى الفعل ، ومن الفعل غير المنظّم إلى الفعل المنظّم ، بمعنى أنَّ ترشيد الإرادة الجماهيريّة الفاعلة يقع على كاهل تلك الجهة . من هنا تبرز أهميّة الدّور الّذي يضطّلعُ بهِ القائد في تفعيل إرادة المجتمع والانتقال به من وضعيّة الهبوط إلى وضعيّة الصّعود ، وبالطّبع لا يعدم العرب وجود قادة أكفاء للنّهوض بهم من واقِعِهم المأزوم ، لكنَّ المعضلة بهذا الشّأن أنَّ معظم القادة العرب ليسوا مؤهّلين لإنجاز هذهِ المهمّة ، من هنا تصبحُ مهمّة إنتاج قادة نهضويين يعبّرون عن مصالح شعوبهِم تتصدّرُ أولويّات العمل للخروج من أزمتنا الحضاريّة الرّاهنة ، على أنَّ إنتاج هؤلاء القادة ينبغي أن يكون ثمرةً لعمليّةٍ مجتمعيّةٍ في المقام الأوّل والأخير بمعنى أن تظلّ سلطة القائد خاضعةً لسلطة المجتمع تفادياً لحدوث التفرّد والاستبداد ، بوصفهما داءً عضالاً يحول دون نهوض المجتمع وتقدّمه ، من هنا ينبغي أن يحظى القائد بثقة الشّعب وأن يكون بوسع الشّعب عبر مؤسّساتهِ وممثّليه حجب الثّقة عنه متى وجد في ذلكَ مصلحةً لهُ .

من ناحية أخرى ينبغي أن تكون الإرادة العربيّة الفاعلة إرادةً رشيدة ، كي لا تقع في الضّلال فتُستَخدم للقيام في أفعالٍ شرّيرةٍ ، تفضي للدّمار والتّهلكة والاستبداد . فثمّة إرادات فاعلة غير رشيدةٍ كان مصيرها الزّوال . ولا يفوتنا الإشارة إلى الدّور الّذي تلعبه التّحدّيات الخارجيّة في تعطيل إرادة النّهوض العربيّ وأبرزها : الهيمنة السياسية والاقتصادية لعدد من الدّول الغربية وفي مقدّمتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة على معظم البلدان العربية ،إلى درجـة يصعب معهـا الشروع في تأسيس نظام سياسي اقتصادي عربي مستقل  قابل للحياة، وقادرٍ علـى تخطي العقبات التي تحول دون نهوضه وازدهاره. كذلك الخطر الناجم عن وجود الكيان الصهيوني في المنطقة وارتباطه العضوي بالنظام الإمبريالي العالمي، وما يترتب على ذلك من استنزاف للقدرات الاقتصادية لبعض البلدان العربية الواقعة على خط المواجهة في إطار سعيها لتعزيز قدراتهـا الدفاعية والعمل على امتلاك الأسلحـة الحديثة باهظة التكاليف على حساب خطط التنمية وإقامة  المشاريع الاقتصادية الكبرى للوقـوف في وجه الأطماع والتهديدات الصّهيونيّة المستمـرّة، بمعنى أنَّ التّحدّيات الخارجية للنهوض العربي يمكن حصرها في تحدّيين اثنين: الأول: الهيمنة الأجنبية، و الثاني: وجود دولة الكيان الصّهيوني وتهديدها للأمن القومـي والتنمية العربيين.

وعليـه فلا يمكن للنّهوض العربي أن يرى النّور إلاَّ في ظلِّ وجود أيديولوجية قوميّة لدى جميع البلدان العربيّة تضـع في أولوياتها: تحرير إرادة الإنسان العربي،  ومشاركته في عمليتي البناء والتنمية ،وممارسته للديمقراطية، والذّود عن كرامته، وتحقيق العدالة والمساواة بين كافة أفراد المجتمع، وتحشيد طاقات الأمّة للانعتاق الكلّي من السيطرة الأجنبية وهيمنتها السياسية والاقتصادية، واقتلاع الكيان الصّهيوني من المنطقة العربية.

نشرة "كنعان" الإلكترونية ـ العدد 482/ 13 تشرين الأول 2004

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ