لغز
الجولان
د.محمد
م. الأرناؤوط*
على الرغم من أهمية الجولان في
المنطقة يمكن القول إن ندرة
الدراسات الحديثة منه، وخاصة في
سوريا، تشكل لغزاً في حد ذاته.
ولذلك فإن صدور كتاب جديد مثل
"الجولان في صراع السلام"
في دمشق بالذات، مع ما فيه من
دراسات جديدة لكتاب سوريين
وأميركيين وإسرائيليين، يجعل
منه حدثاً يستحق التوقف عنده
والتأمل فيه.
فالجولان، إلى جانب أهميته كمصدر
مهم للمياه للدول المجاورة (لبنان
وسوريا والأردن وإسرائيل)، فإن
موقعه الاستراتيجي كان دائماً
وراء تحريك الحدود من حوله سواء
في وقت السلم أو الحرب. فقد كان
الجولان ضمن حدود فلسطين تحت
الانتداب البريطاني حتى آذار 1923
حين أصبح ضمن حدود سوريا تحت
الانتداب الفرنسي بموجب اتفاق
خاص بين بريطانيا وفرنسا. وخلال
حرب 1948 اخترقت الحدود وبقيت
خطوط الهدنة (إلى الغرب قليلاً
من حدود 1923) تعتبر خطوطاً مؤقتة
إلى أن جاءت حرب 1967 وأقامت
حدوداً جديدة، وخاصة بعد قرار
الكنيست في كانون الأول 1981 بضم
الجولان إلى إسرائيل.
ومن ناحية أخرى فقد ساهم موقع
الجولان عبر التاريخ في جذب
عناصر اثنية مختلفة للإقامة فيه.
وهكذا فقد انجذب إليه الدروز في
القرن السادس عشر طلباً للأمن
كما وطنت فيه الدولة العثمانية
التركمان والشركس في نهاية
القرن التاسع عشر. وإلى ذلك
الوقت يعود أيضاً اهتمام الحركة
الصهيونية التي أقامت فيه أولى
المستوطنات (بني يهودا) بناء على
الماضي التوراتي. ومن هنا لم يكن
ضم الجولان إلى إسرائيل في 1981
لاعتبارات أمنية واقتصادية فقط
وإنما لاعتبارات عاطفية أيضاً
بضغط من اليمين المتنامي الذي
كان يعتبر الجولان جزءاً من "أرض
إسرائيل" بالمفهوم الديني
والتاريخي.
ويلاحظ هنا أن إسرائيل، التي
احتلت الجولان في 24 ساعة فقط
خلال 9-10 حزيران 1967 (وهذا لغز آخر)،
تصرفت هناك بشكل مختلف
بالمقارنة مع الضفة الغربية
وسيناء التي كانت قد احتلتها
قبل ذلك. فقد تم طرد السكان
العرب والتركمان والشركس الذين
كانوا يسكنون في 139 بلدة وقرية (ما
يقارب 130 ألف نسمة) ولم تترك فيه
سوى الدروز في أربع قرى فقط (مجدل
شمس وبقعاتا ومسعدة وعين قينة).
ومن الواضح هنا أن إسرائيل كانت
تخطط لخلق تواصل/تداخل أرضي
وسكاني وسياسي ما بين دروز
الجليل ودروز الجولان، ولكنها
لم توفق تماماً في هذا المسعى.
ولكن من ناحية أخرى عززت إسرائيل
الخيار الآخر/الاستيطان الذي
رفع بسرعة عدد اليهود في
الجولان إلى حد أنه تجاوز عدد
الدروز (19 ألف يهودي مقابل 17 ألف
درزي). ويلاحظ هنا أن أول
مستوطنة أقيمت في الجولان كانت
بعد شهر واحد فقط من الاحتلال (تموز
1967). وقد تنوعت وتوزعت بعدها
المستوطنات وبرزت مع الزمن
مدينة كتسوين التي تتحول إلى
عاصمة الجولان.
وبالإضافة إلى ذلك فقد ركزت
السلطات الإسرائيلية بعد ضم
الجولان في 1981 على تطوير البنية
التحتية لتنمية السياحة في
المنطقة بالاعتماد على مراكز
التزلج الجديدة التي أقيمت وعلى
مراكز المياه المعدنية
والمواقع الأثرية التي أبرزت
حتى وصل عدد السياح إلى أكثر من
مليونين في السنة، مما يوحي بأن
إسرائيل لم تعد تتصرف مع
الجولان كـ"منطقة محتلة"
وإنما كمنطقة مندمجة سكانياً
واقتصاديا وسياحياً وإدارياً
مع إسرائيل.
في المقابل يطرح سؤال كبير: ما
الذي يمثله الجولان بالنسبة إلى
سوريا؟
كان الجولان يعني بالدرجة الأولى
الحمة بالنسبة إلى الدمشقيين (ضمت
إلى سوريا بعد حرب 1948) الذين
كانوا يقصدونها بكثافة
للاستجمام، وما عدا ذلك كانت
منطقة عسكرية مغلقة ولذلك لم
تتطور بنيتها التحتية ولم تمد
الاقتصاد السوري بشيء يذكر على
الرغم من غناها بالموارد خلال
1948-1967. ومع تدمير عشرات القرى
بعد حرب 1967 وتهجير السكان العرب
والتركمان والشركس إلى دمشق
وضواحيها نشأ الجيل الثاني وولد
الجيل الثالث وارتبطا مع الواقع
الدمشقي من خلال الدراسة والمهن
والسكن والمصالح، حيث لم يعد
هناك سوى الذكريات لدى الكبار
الذين أصبحوا أقلية.
ولكن مع كل هذه الاعتبارات بقي
الجولان في نظر القانون الدولي
"أرضا محتلة"، وساهمت
السياسة السورية في التركيز على
الطابع العربي للنزاع مع
إسرائيل إلى إرجاء حل مشكلة
الجولان التي كانت تزداد
تعقيداً في غضون ذلك. والآن، بعد
الانسحاب الإسرائيلي من سيناء
ومن جنوب لبنان
والاستعداد لانسحاب آخر من قطاع
غزة (ومن الضفة الغربية لاحقاً)
سيأتي دور الجولان في نهاية
المطاف.
ولاشك أن تأخير الجولان إلى
الجولة الأخيرة ليس لصالح سورية
بطبيعة الحال بعد اختلال
موازيين القوى. فإسرائيل تستفيد
باستمرار من الموارد المائية
والاقتصادية (الزراعة والرعي)
والسياحية، وتعتبر أن كل سنة
تقضيها هناك انما تؤخر انسحابها
أكثر وأكثر.
فقد رأينا في الشهور الأخيرة
مقاومة اليمين المتطرف لشارون
بسبب الانسحاب من غزة التي لا
تعني شيئاً (تاريخياً
واقتصادياً وسياحيا) لإسرائيل
بالمقارنة مع الجولان. ولذلك
فهناك في الأفق معركة طويلة مع
المستوطنين لأجل الانسحاب
المحتمل من الجولان. فمع التوصل
إلى حل ما
مع الفلسطينيين لابد من حل مع
سوريا لإقفال ملف النزاع العربي
الإسرائيلي، ولا يمكن لأي حل أن
يكون بدون الانسحاب من الجولان.
ولكن ورقة إسرائيل الأخيرة تكمن
في مقاومة المستوطنين، إذ إن
قضايا الماء والأمن يمكن التوصل
إليها من خلال الاتفاقيات
الثنائية والدولية، والتي تريد
إسرائيل أن تكون ضمن التعاون
الثنائي/الإقليمي المشترك في
مرحلة ما بعد الحرب/السلام مع
التطبيع.
وفي هذا الإطار تراهن إسرائيل على
تأخير الانسحاب، حتى بعد التوصل
إلى اتفاق مع سوريا، من الجولان
وربطه بإحراز تقدم في السلام/
التطبيع حتى يكون غطاء لسحب آخر
المستوطنين الذين يستعدون منذ
الآن للمواجهة الشرسة مع أية
حكومة تجبرهم على ذلك.
من هنا فإن الكتاب الجديد عن
الجولان، الذي أعده وقدم له د.رضوان
زيادة، يساهم بحق في سد النقص في
المكتبة العربية (والسورية
خصوصاً) عن الجولان بما يقدم من
دراسات متنوعة تجمع رؤى مختلفة
سورية وأميركية وإسرائيلية
وتضم خرائط مفصلة تنمي الوعى
بأهمية الجولان وتحاول ان تجيب
عن الأسباب التي عتمت على
الجولان بالمقارنة مع سيناء غزة
والضفة الغربية.
وأخيراً يلفت النظر في هذا الكتاب
على أهميته تضارب المعطيات،
وخاصة حول عدد المستوطنات وعدد
السكان اليهود والدروز، إذ
يختلف العدد من دراسة إلى أخرى.
ومن ناحية أخرى كان المرء يتوقع
أن يجد في الكتاب دراسة أخرى عن
مصير/واقع السكان الأصليين
للجولان الذين نزحوا إلى دمشق
وضواحيها، ومدى ما يمثلونه من
كتلة واحدة وقوة ضغط لها مصالح
في العودة إلى الجولان. فكما أن
إسرائيل تستعد منذ الآن لترحيل
"مؤلم" للمستوطنين من
الجولان (الذين لا يتجاوز عددهم
عشرين ألفا) فإن سوريا يفترض أن
تكون مستعدة لتوطين "مكلف"
لحوالي نصف مليون من "النازحين" في الجولان بعد أن
سويت قراهم بالأرض ودمرت
السجلات التي تثبت ملكياتهم.
*مدير
معهد بيت الحكمة في جامعة آل
البيت -الأردن
(كلنا
شركاء) : 10/2/2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|