معاداة
العرب في مشروع
عنصري
جديد
د.
بثينة شعبان
في
جلسة فكرية ضمت نخبة من
الحريصين على هوية الأمة
ومستقبلها، من أقطار عربية
مختلفة، في إحدى العواصم
الأوروبية، تطرقنا إلى المخاطر
التي تهدد اللغة العربية، وهي
الوعاء الذي يجمع بيننا جميعاً
ويتيح لنا إمكانية التواصل
المعرفي والقومي، الذي يشكل
العصب الأساسي للانتماء. وفي
اليوم التالي، أرسل لي أحدهم ما
وصله من دراسة تهدف فيما تهدف
إليه تغيير الأبجدية العربية
واستبدالها بالحروف اللاتينية،
تحت مسمى «تحديث الثقافة
العربية»، واعتبار هذا المشروع
جزءاً من خطة الإصلاح في
المنطقة، التي تدخل ضمن إطار
مشروع «الشرق الأوسط الكبير»،
...
حيث
يدعي معدو هذا المشروع «أنه
وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول
تم إجراء أكثر من 600 دراسة بين
عامي 2002 و2004، خلصت كلها إلى أن
الغرب يواجه صعوبة كبرى في
استيعاب الحضارات العربية».
ويقول معدو المشروع: «بعد أحداث
الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، لم
يتمكن الغرب من التعرف على شعور
(الإرهابيين) الحقيقي أو
الدوافع الكامنة وراء ارتكابهم
لهذه الأحداث، بينما يتقن العرب
اللغات الإنكليزية والفرنسية
ويتحدثونها كما يتحدثها
الناطقون الأصليون بها». ولذلك
يستهدف المشروع اللغة العربية،
ويخطط لإلغاء المناهج القائمة
حالياً، التي تعتمد على دراسة
قواعد اللغة والصور الجمالية
وإبداعاتها «في إطار حركات
الإصلاح والسعي نحو تطبيق
الحرية والديمقراطية».
وتضيف
الدراسة: «إن الهدف من هذا
المشروع ليس تحرير اللغة
العربية فقط من أشكالها
التقليدية، التي ظلت قائمة كما
هي منذ آلاف السنين، ولكن تحرير
العقول العربية والإسلامية،
ويستهدف القضاء أساساً على
الموروثات السلبية، مثل
الانتقام والعنف والإرهاب».
ويحدد المشروع خطواتٍ ملموسة
للتخلص من قواعد اللغة العربية،
ومن ثم فصل اللغة عن ماضيها
وتراثها، وبالأخص عن القرآن
الكريم، لنزع صفة القدسية عنها،
ومن ثم تغيير المعاني، وذلك «لإقناع
الأجيال الشابة أنّ العصر
الحديث يتطلب التخلص من
التعقيدات اللغوية التي تفرضها
لغتهم العربية». ويؤكد المشروع
أنّ «الخطوة الأساسية في هذا
التعديل، تكمن في أن يوافق
العرب على تغيير شكل الكتابة،
ثمّ تبدأ الأشكال الحالية للغة
العربية في الاندثار شيئاً
فشيئاً». ويشمل المشروع خطواتٍ
مدروسة، شارك في وضعها علماء
نفس، ولغويون وسياسيون، وقد
حسبوا حساباً لأدق التفاصيل
وردود الأفعال عليها. ويمكن
تلخيص هذه الخطوات على الشكل
التالي:
الخطوة
الأولى: التعبير عن النص العربي
أو القرآني بفكرةٍ جديدة تؤدي
ذات المعنى.
الخطوة
الثانية: التعبير عن النص أو
الآية بفكرةٍ قريبةٍ منها.
الخطوة
الثالثة: تغيير فكرة النص أو
الآية من دون اصطدام مع الفكرة
الأصلية.
الخطوة
الرابعة: تغيير الفكرة بما يؤدي
إلى التشكيك في الفكرة الأصلية.
الخطوة
الخامسة: زيادة الألفاظ
والعبارات في ذات الفكرة وزيادة
مساحة التشكيك في الفكرة
الأصلية.
الخطوة
السادسة: القبول والإقناع
بتفسيراتٍ جديدة لهذه الفكرة
الأصلية، بما يؤدي إلى محو
معناها الذي كان قائماً لفتراتٍ
طويلة في أذهان الناس.
الخطوة
السابعة: دراسة ردود الفعل حيال
كل الخطوات السابقة ومجابهة
المعترضين على التغيير البطيء.
الخطوة
الثامنة: تغيير الفكرة الأصلية
وإحلال الجديدة محلها بشكلٍ
نهائي. وسيتم تحديد طبيعة «التوجهات
العدوانية أو المسالمة للعرب»،
من خلال دراسة مواقفهم من أشكال
الكتابة الجديدة و«الشخص
العدواني هو الذي يرفض أشكال
الكتابة الجديدة، أما الشخص
السوي، فهو الذي يعتمد على
استخدام الأشكال الجديدة
للكتابة». ويخطط واضعو المشروع
لمحاصرة الرافضين له باتهامات
مثل «متشددين» أو«متطرفين» أو«تقليديين»
أو «متحجرين» الخ.
ورأى
عدد من علماء النفس، الذين
اشتركوا بوضع هذا المشروع
العنصري، أنّ تغيير أشكال
الحروف العربية «سيقلل من حدة
العداء
والكراهية
المتأصلة لدى المواطنين العرب
ضد أميركا والغرب بصفةٍ عامة».
وهناك
مقترح يتضمنه المشروع ويقضي
بإلغاء لفظة «اليهود» على سبيل
المثال من اللغة العربية، لتحل
محلها في الأشكال الجديدة لفظة
«الساميون»، لأن لفظة «اليهود»،
ارتبطت دائماً لدى العرب بأشياء
بغيضة، بينما لفظ
«الساميون»
مقبول جداً لديهم، ويدل على
السمو والارتفاع بالأخلاق.
ويتهم واضعو المشروع الحضارة
العربية بأنها «تتناقض مع مبادئ
الماديات الحديثة واللغة
الدولية، في بناء التواصل
الفكري وأن هذه الحضارة
بطبيعتها متعصبةً، وأن هذا
التعصب يقود إلى الاصطدام
المباشر مع الحضارات الأخرى،
وأنه قد حان الوقت للقضاء على
ذلك التعصب».
إن
الحديث عن «صعوبة» اللغة
العربية، ناجم عن جهل بها أو
حقدٍ عليها وعلى عروبة العرب.
فكيف تنسجم اللغة الصينية التي
تم أحياؤها مع الغرب وحداثته؟
وكيف تتناغم اللغة الأوردية أو
العبرية، التي كانت لغةً ميتة
مع الغرب، بينما تتناقض اللغة
العربية التي قدمت للغرب أفكار
الفارابي وطب ابن سينا وفلسفة
ابن رشد وتصوف ابن عربي، مع
عصرنة الغرب وفكره؟ لقد كانت
اللغة العربية، وما زالت، أداةً
طيعةً لنشر العلوم والمعارف
والاختراعات والمفاهيم الفكرية
والفلسفية والدينية، في مختلف
أصقاع الأرض. فمن أين أتت فجأةً
كل هذه المخاوف من «صعوبة اللغة»
على الجيل الجديد؟ ما زال
الكثيرون في الوطن العربي
يتكلمون الشعر حتى من دون تعلم
الكتابة والقراءة. وما زال
الملايين يتكلمون العربية
الفصحى بالسليقة السليمة،
لأنها تنسجم مع المعنى والبلاغة
والإحساس بالفكر والرسالة
المبتغاة منها. إن لغتنا
كحضارتنا ومنطقتنا وأرضنا،
جميلة ومستهدفة من قبل أعداء
فشلوا أن يفهموا عمق الشرق
وحضارة الشرق، فعمدوا إلى
تشويهه من خلال نظريات
الاستشراق والمتبنين لها
والعاملين على ترويجها. اتخذوا
من أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر،
ذريعة لشن حملة عداء وكراهية
عنصرية شعواء على هذه الأمة،
تمثلت باتهام جميع أبنائها
بالإرهاب من أجل تصفية الصراع
العربي ـ الإسرائيلي والقضية
الفلسطينية، ونهب ثروات العراق
وحضارته التاريخية المجيدة.
واليوم يتسع أفق هذه الحملة
ليشمل اللغة والتراث والفكر
والدين والإرث الروحي
والاجتماعي لهذه الأمة برمته.
ولذلك من المتوقع أن يتم تمويل
الأبواق المحلية التي ستردد هذه
الطروحات عن صعوبة «اللغة
وقواعدها»، وعن «ضرورة تغيير
هذه القواعد أو إلغائها»، وعن «ضرورة
تعديل الأبجدية العربية». ومن
المتوقع أن يعقد مؤتمر هنا
ويصدر كتاب هناك لترويج هذا
المشروع من الداخل وهذا الجزء
من المشروع أكثر خطراً علينا
جميعاً. إن هذا المشروع
العنصري، وضع مخططاً يمتد على
عشرين سنةً للقضاء على اللغة
العربية، وفصل العرب تماماً عن
تاريخهم وحضارتهم. فهل هناك من
يضع خطةً تعليميةً مقابل هذا
المشروع العنصري لتعيد للغة
العربية ألقها وأهميتها
ومكانتها في العشرين سنةً
المقبلة؟ وهل يندفع وزراء
التربية العرب واتحادات الكتاب
لتعزيز مناهج تدرس اللغة
العربية لأجيالنا الصاعدة، كما
علمنا آباؤنا ومدرسونا لغتنا
الجميلة، حيث يصبح الإعراب
تعبيراً عن فهمٍ عميقٍ للمعنى.
ويصبح التنقل بين الفصحى
والعامية انسياباً لا كلفة فيه
ولا جهل. وتصبح نون النسوة
والمثنى جزءاً جميلاً وطبيعياً
من لغة كتب علماء اللغة قواعدها
بعد أن سمعوا كيف يتحدث الناس
بها، وتحكم قواعدها عناصر
منطقية سهلة ومنسجمة مع الفكر
وسهولة الوصول إلى المعنى مع
البلاغة والفصاحة والجزالة في
الأداء. وإذا كان الطفل
الفلسطيني ما زال يقاوم الدبابة
الإسرائيلية بحجر أليس حرياً
بالعرب أن يدافعوا عن لغتهم فهي
وعاء حضارتهم ورمز هويتهم؟ ولا
شك في أن لغتنا العربية تمثل
وجدان وأداة استمرارنا كأمةً
لها قيمة وحضور بين الأمم.
واعرباه
ـ2/7/2004
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|