المثقفون
بين المناصب والمواقف
أمين
هويدي
كلنا يذكر ما تتناوله الصحف
وأجهزة الإعلام كلما دار الحديث
عن تعديل وزاري مرتقب... حيث يكون
(عبده مشتاق) (1) هو محور الحديث!
ولا أدري إن كان الحديث يعني اسما
بذاته، ولكنه رمز موجود في كل
وقت وآن، هو نوع من المثقفين
موجود هنا وهناك، يطلب المنصب
ويتحاشى الموقف، وإذا ما أصبح
المنصب غرضًا يجب اقتناصه تراجع
الموقف حتى لا يشكّل حائلا في
الطريق.
والعنوان - ودون حاجة إلى تفاصيل -
نركّز به على علاقة المثقف
بصاحب القرار، فهو الذي يعطي
المنصب وهو الذي يدعو بسياسته
وتصرّفاته إلى اتخاذ الموقف
سواء كان معارضا عن صدق أو مؤيدا
عن قناعة، فالوسائل المتبعة
تتفق دائما مع الأغراض
المستهدفة.
يحدد ابن خلدون في مقدمته ببراعة
مدهشة نظرة صاحب القرار إلى
المثقف (فكل من السيف والقلم آلة
لصاحب الدولة يستعين بهما على
أمره، إلا أن الحاجة في أول
الدولة تكون إلى السيف مادام
أهلها في حاجة لتمهيد أمرهم أشد
من الحاجة إلى صاحب القلم، كذلك
في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها.
أما في وسط الدولة فيستغني
صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه
قد تمهد أمره ولم يبق همّه إلا
في تحصيل الثمرات من الجباية
والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ
الأحكام، والقلم هو المعين له
في ذلك ويكون أصحاب القلم في هذه
الحال أوسع جاها وأعلى رتبة
وأعظم نعمة وثروة وأقرب من
السلطان مجلسا وأكثر إليه ترددا)،
تصوير دقيق قدمه ابن خلدون في
زمانه لرؤية صاحب القرار إلى
المثقف مع مراعاة التغييرات
التي حدثت لكل منهما في زماننا
الحالي.
هنري كيسنجر بدوره ينظر إلى هذه
العلاقة من وجهة نظر المثقفين،
فهو واحد منهم فيقول في كتابه (ضرورة
الاختيار
- The Necessity for choice: (تظل معظم الأفكار حبيسة في رءوس
أصحابها إلا إذا دفعت في رءوس
وقلوب الرجال الأقوياء الذين في
قدرتهم تحويل الدراسات إلى
سياسات، والتصورات إلى قرارات،
وعلى حملة الأفكار أن يسعوا إلى
رجال السلطة لإقناعهم بأفكارهم
حتى تدبّ فيها الحياة ودون ذلك
تظل هذه الأفكار حبيسة ومجرد
سراب. ولذلك فلا يجوز للمثقف أن
يقف عند نوع معين من المعرفة، بل
عليه أن يسير في دروبها
المتشعبة، وأن يرجع بين وقت
وآخر إلى مكتبته أو معمله ليعيد
شحن بطاريته)، وكأني بكيسنجر
يتحدث عن نفسه رغم أنه يوجه
كلامه إلى كل المثقفين.
يحكي كيسنجر في كتاب آخر من كتبه
وهو (عالم أعيد بناؤه - كاستلروا
ومترينخ وإعادة بناء السلام)
طريقة من طرق اختيار صاحب
القرار لمساعديه من المثقفين (يجتمع
مئات من المثقفين ورجال
الجامعات وأصحاب العقول Think Tanks في حلقة دراسية في كوانتيكو، وهو
منتجع فخم، ويبدأ الجنرالات
والأدميرالات والرسميون من
رجال الحكومة والمؤسسات الخاصة
في اختيار نابغة من النوابغ
لضمه إلى هيئة مستشاريهم، تماما
كما يحدث في أسواق الرقيق)، وقد
اختاره نلسون روكفلر وهو
ديمقراطي مستشارا له من هذا
السوق، وما لبث أن انتقل ليعمل
مع ريتشارد نيكسون
الجمهوري مستشارا
للأمن القومي بالرغم مما في ذلك
من انتهازية لم ينكرها (فمترينخ
نفسه كان عظيمًا، ولكنه كان
انتهازيًا، فلابد للسياسي
العظيم من أن يتحلى بشيء من
الانتهازية، ثم إنني أخدم
الرئاسة ولا أخدم الرئيس).
ينسى المثقفون أن صاحب القرار
واحد منهم قفز إلى السلطة
بطريقة أو أخرى، ويعتقد أن غيره
من المثقفين يريدون تقييده داخل
معتقداتهم ودراساتهم وهو يرفض
ذلك، فهو سيد داره ويقوم بدوره
بالفكاك من دراساتهم النظرية
لأنه يرى عن حق أنهم لا يعيشون
الأزمات التي يواجهها فهو لا
يريد تفاصيل عن القضايا
والأزمات التي يعيشها ليل نهار.
إنه يريد حلا، الأمر الذي لا
يعتقد أغلب المثقفين أنه واجب
عليهم..
في ندوة حضرتها مع أكثر من مائة من
المثقفين في تونس كان هذا هو رأي
الغالبية العظمى منهم بل أخذ
الحماس أحدهم فقام وأعلن قيام (جمهورية
المثقفين)، واضعا رئيس المؤتمر
في منصب رئيس جمهوريته وسط
التصفيق الحاد للحاضرين!
وخرجت من قاعة المؤتمر أعيد
حساباتي عن قيمة مثل هذه
الاجتماعات التي يتم فيها تشخيص
المرض دون القدرة على علاجه في
عصر اختفت فيه الأيديولوجيات
وأصبح التعامل فيه بين المشروع
والمشروع المضاد.
صاحب القرار يرفض أن يكون من صنع
غيره فهو يعتقد أنه صانع
للتاريخ فهو كالشاهد الرخامي
يحفر عليه انتصارات وهزائم عصره
أما المثقف فهو دارس للتاريخ
وكاتب لتفاصيله، فأغلب
المثقفين في نظره لا يميلون إلى
الإبداع بل يميلون إلى النقل من
غيرهم ومحاكاتهم، يدلون
بالاقتراحات دون الاهتمام
بإمكانية أو كيفية التنفيذ
بينما يعيش هو تحت ضغط الأزمات
ووراءه الجماهير يطالبون
بالحلول وهو يعلم أنه لن يقوّم
من الرأي العام بأفكاره بل
بقدرته على تنفيذ تصوراته
ووعوده وإلا أصبح كالفيلسوف،
والفلاسفة لا يحلون المشاكل بل
يزيدون من تعقيدها إذ لهم
طريقتهم الخاصة في النظر إلى
الأمور.
ويصنف صاحب القرار المثقفين إلى
تصنيفات أربعة: صنف يعطي مشورته
الصادقة على شكل بدائل مختلفة،
وصنف يظن أن آراءه لا يعلى عليها
وعلى صاحب القرار الأخذ بها،
وصنف يكتب لإثبات المواقف، وصنف
رابع يداهن السلطة وينافقها
ويزين الآراء المطروحة منها
لبيعها إلى الجماهير...
صاحب
القرار يرتاح إلى الصنف الأول
وربما يأخذ عنه ما يناسب
معتقداته دون أن يذكر ذلك حتى لا
يكون لأحد فضل عليه، ويرفض
الصنف الثاني إذ لا يرضى أن يكون
دمية يحركها آخرون، ويحتقر
الصنف الثالث، أما عن الصنف
الأخير فبالرغم من أن غالبية
أصحاب القرار يميلون إلى المداهنة فإنهم يملونها بمرور
الوقت خاصة أن البدائل متوافرة
في السوق.. عندي برقية أرسلها
أحد المثقفين إلى أحد الرؤساء
عقب جلوسه على الكرسي نصها: (لا
أملك إلا قلمي ويشرفني أن أضعه
في خدمتك) كان الأستاذ يريد
منصبا!
ويفضل صاحب القرار اختيار معاونيه
من أهل الثقة وكم يكون سعيد الحظ
لو أنه عثر على أفراد من أهل
الثقة والخبرة معا ولكن لا يمكث
هؤلاء في مواقعهم إلا لفترة
قصيرة لأن أهل الثقة لديهم
القدرة والخبرة ليزيحوهم (بضربة
كتف)!!! وقصة أهل الفكر والمثقفين
مع مراكز البحوث بأسمائها
المختلفة قصة طويلة وهي موجودة
بالمئات على أرض الكنانة: ماذا
يفعلون? ما الذي يدور داخل
جدرانهم? من أين الرعاية
والتمويل? ما إنتاجهم ومع من
يتعاملون? أسئلة تحتاج إلى جواب.
أن يقترب المثقف من أصحاب القرار
خطوة لا غبار عليها بشرط ألا
يكون ذلك على حساب اعتقاداتهم،
وأن يكون ذلك بدافع خدمة
القضايا فالولاء يكون للرئاسة
وليس للرئيس.. على المثقف أن
ينزل من برجه العاجي إلى الشارع
والواقع ويحتك بالجماهير ليعيش
قضاياها ويبحث عن العلاج ولا
يكتفي بتوصيف المشاكل والرجوع
إلى أصولها التاريخية فهو مطالب
بأن يقترح حلا.. والتاريخ لا يحل
المشاكل فحلها اليوم في
الجغرافيا والديموجرافيا.
ولو تجنب صانع القرار نظرة ابن
خلدون في تعامله مع المثقف على
أنه آلة في خدمته، ولو عزز
المثقف قدراته في أن يجد حلا
للمشاكل والقضايا لقامت جسور
بين صاحب القرار والمثقفين.
ولكن المعادلة صعبة: فإذا ركز
المثقف على المنصب الذي يشتهيه
قد يكون ذلك على حساب الموقف،
وإذا التزم بالموقف ربما كان
هذا على حساب إدراكه للمنصب..!!
البيضة قبل الدجاجة، أم الدجاجة
قبل البيضة..?!!
ـــــــــــ
(1)
عبده
مشتاق هو تلك الشخصية
الكاريكاتيرية التي ترسم
كثيرًا على صفحات إحدى الصحف
المصرية لتصور حال الحالمين
بتولي الوزارة.
الوحدة
الإسلامية ـ قضايا الأمة
22/09/2004
|