أهداف
خطة فك الارتباط
بقلم:
يعقوف عميدرور*
في 18 نيسان 2004 نشرت حكومة اسرائيل
قرارها بالانسحاب من طرف واحد
من مناطق فلسطينية. ويقلل بيان
الحكومة - وعن حق - من قيمة
الانجازات المتوقعة للخطة. وحسب
البيان سيتحقق "واقع أمني
أفضل، في المدى البعيد" -
التعبير عدم المعنى والغامض.
ليس في البيان ذكر لوعود رئيس
مكتب رئيس الوزراء السابق بشأن
تجميد الوضع في يهودا والسامرة
في أعقاب تنفيذ الخطة. بل العكس.
فحسب البيان، نشأت الخطة لان
"الجمود الكامن في الوضع الراهن ضار. ومن أجل الخروج من هذا
الجمود فان على اسرائيل ان
تبادر الى خطوة لا تكون مشروطة
بشريك فلسطيني"؛ "الخروج
من قطاع غزة وشمالي السامرة
سيقلص الاحتكاك مع السكان
الفلسطينيين وفيه امكانية
كامنة لتحسين نسيج الحياة
والاقتصاد الفلسطينيين".
صحيح ان تفكيك المستوطنات
واخراج وحدات الجيش سيقلصان
الاحتكاك مع السكان
الفلسطينيين، وهو انجاز فيه
امكانية كامنة اخرى إذ واسعة هي
المناطق بين البحر والنهر التي
من المعقول ان يؤدي اخلاء
اليهود منها الى تقليص الاحتكاك
مع الفلسطينيين. ولكن يكاد يجمع
كل الخبراء على أنه للتوقع
بتحسن جودة حياة الفلسطينيين لا
يوجد أي سند، اذ أن فك الارتباط
سيوقع كارثة اقتصادية على
الفلسطينيين.
كما أن الزعم بان "خطوة فك
الارتباط ستسحب الأساس من تحت
المزاعم ضد اسرائيل بشأن
مسؤوليتها عن الفلسطينيين"
عديم الاساس من ناحية قانونية
وسياسية. واضح أنه طالما حافظت
اسرائيل على الحدود الخارجية
للقطاع، فلا أحد يدخل ولا أحد
يخرج بغير تفتيشها وسماحها،
فانها لن تزال
يُنظر اليها انها مسؤولة عن
مصير السكان هناك. وليس ذلك فقط،
بل ان الضغط لتفتح للفلسطينيين
أبواب دخول وخروج سيكون ثقيلا
جدا، ومن المعقول ان نفترض ان
اسرائيل ستتصالح على حاجاتها
الأمنية من اجل تخفيف الضغط.
يبدو اذا ان حكومة اسرائيل لم تنجح
في الإتيان في قرارها بأي تعليل
جدي يقف أمام النقد من اجل تسويغ
الخطوة الصعبة التي تخطوها.
احيانا، في الوقت الذي تُطرح فيه
للبحث خطة سياسية، يصعب تقدير
الى أين ستقود من ناحية أمنية،
وايضا بعد زمن تكون النتيجة في
الواقع مختلفا عليها ويوجد هناك
من يدافعون عن اجراءات معينة
ايضا عندما يكون الواقع مخالفا
تماما لما توقعوه. التوجه
الصحيح الذي يجب اتخاذه في
تحليل القرارات السياسية، من
مثل خطة الانفصال، هو توجه
تحليلي يسأل: ما احتمال تحسين
الوضع الأمني بعد الانفصال، وما
احتمال ان يزداد هذا الوضع
سوءً؟ ليس هذا مكان اقتراح
بدائل لخطة تُطرح للبحث، وإن
كان من الجدير ان نقدر تقديرا
عاما ما هي التطورات الممكنة لو
كان يُحافظ على الوضع الراهن،
بغير تنفيذ الخطة، وهذه هي غاية
هذه المقالة.
يصوغ مؤيدو الانسحاب أحادي الجانب
من اليسار الجانب الايجابي منه
هكذا على وجه التقريب: "خطة
الانفصال تخلق فرصة لنشوء
ديناميكية ايجابية في النظام
الاسرائيلي - الفلسطيني"، أو:
قد تكون خطة الانفصال "مرحلة
أولى في مسيرة تسوية النزاع مع
الفلسطينيين... سينشأ الشريك اذا
ما استغل الفلسطينيون الفرصة
وبرهنوا على جدية في نظرهم الى
المرحلة الاولى من خريطة الطريق
التي يجب ان تجر الى خفض العنف".
ولكن خريطة الطريق تتطلب خطوات
حثيثة وأوضح من مجرد "خفض
مستوى العنف". ولكن حتى اولئك
الذين يكتفون بهذا القليل، يحسن
بهم ان يُبينوا
كيف يمكن ان نحرز من
الفلسطينيين تقليص العنف بعد
الانسحاب من غزة. حتى بعد نزول
عرفات عن المنصة، هل هناك
احتمال بأن يوافق ورثته على
محاربة حماس، هل سيخطون خطوات
فاعلة من اجل ان يمنعوها عن
العمل، وكيف سيقضون على بنى
الارهاب التحتية أو يمنعون
تقويها؟ لقد أثبت عرفات انه لا يريد فعل المطلوب من
اجل إضعاف قدرات الارهاب، وواضح
ان هذا ما توقعته منه الزعامة
الاسرائيلية في عام 1994، عندما
دخل هو ورجاله الحلبة. لماذا
ستتصرف القيادة الفلسطينية
تصرفا آخر في حين تنسحب اسرائيل
تحت ضغط الارهاب نفسه، في الآن
الذي لا يوجد فيه عند
الفلسطينيين حتى التزام ما نحو
اسرائيل، على خلاف ذلك الذي كان
بعد اتفاق اوسلو. من المؤكد ان
كثيرين بين ظهراني الفلسطينيين
في غزة يريدون الهدوء الذي
يمكنهم من حياة طبيعية، ولكن
الخروج من غزة على نحو يظهر
كهرب، هل سيزيدهم قوة داخل
المجتمع الفلسطيني؟ بناء
على ذلك، ليس من
الواضح اعتمادا على ماذا يفترض
مؤيدو الخطة افتراضاتهم
المتفائلة للمستقبل.
لزمن ما كان يبدو ان هناك احتمالا
لإدخال مصر الى الصورة. ولكن
تبين ان هذا كان عرضا باطلا، نبع
من عدم معرفة سياسة مصر. يبدو
اليوم، ان مصر في الأكثر ستوافق
على تحسين جهودها قليلا، تلك
التي كانت ضئيلة حتى الآن، لمنع
تهريب السلاح الى غزة، وأنها
ستساعد في تدريب قوات الأمن
الفلسطينية. ان خروج المصريين
من الصورة لا يُمكن من بناء
تقدير على أساس المثال اللبناني.
ان من تحافظ اليوم على التوازن
الضعيف في لبنان وتمنع التدهور -
الذي تنبأ بعضنا به فيما يتعلق
باستمرار قتال حزب الله بعد
انسحاب الجيش الاسرائيلي - هي
سوريا، التي تتخوف من دفع ثمن
الحرب في الشمال. في غياب مصر عن
الحلبة في غزة، لا يبدو ان هناك
قوة ترى من جهة تهديدا
اسرائيليا، ومن جهة اخرى تكون
ذات قدرة على ان تفرض على
الفلسطينيين وقف الارهاب.
المعنى العملي والتكتيكي
o
بناء
على ما قيل آنفا يجب ان نقدر ما
الذي سيحدث في قطاع غزة نفسه،
أي، ما معنى نقل المسؤولية عن
الدفاع عن سكان سدروت، وعسقلان
وغربي النقب لأيدي الفلسطينيين.
وذلك، كما قيل آنفا، في الآن،
الذي ليس كما كان بعد اتفاقات
اوسلو، فيه لأحد في الجانب
الفلسطيني أي التزام لمحاربة
الارهاب. على عكس الزعم الذي
يُسمع احيانا في الصحافة
الاسرائيلية بأن حماس كأنما
تريد بقاء اسرائيل في غزة، هدف
المنظمة هو تحرير القطاع ويهودا
والسامرة من كل وجود اسرائيلي،
وان تستمر بعد ذلك في النضال
الطويل والصعب وراء الخط الاخضر.
لذلك هناك أساس لنقدر أن:
o
خروج قوات الجيش الاسرائيلي من
غزة سيكون كارثيا في المستوى
التكتيكي - انه سيأتي بصواريخ
القسام الحالية الى قلب عسقلان،
وسيكون مصيرها كمصير سدروت. اذا
ما ازداد مدى القذائف
الصاروخية، فستدخل بلدات اخرى
في مداها الفاعل.
o
لا يمكن ان نعلم ماذا سيكون معنى
اخلاء شمالي السامرة وهل سينشأ
من هناك تهديد اطلاق صواريخ
ايضا على مركز دولة اسرائيل.
سيكون الامر متعلقا بحجم حرية
عمل الجيش الاسرائيلي في
الميدان.
o
سيتسبب الانفصال بتقليص كبير في
قدرة دولة اسرائيل على الرد
ميدانيا - في غزة كما في شمالي
السامرة ايضا - على تطورات من
نوع اطلاق الصواريخ. سينبع
التقليص على نحو ضروري من
الانخفاض المتوقع في المستوى
الاستخباري، وأكثر من ذلك، من
الانخفاض في حرية استعمال القوة
العملية. سيخسر الجيش
الاسرائيلي قدرته على محاربة
سلسلة الانتاج وتنفيذ اطلاق
صواريخ القسام.
o
سيكون من الأصعب الدفاع عن خط
الجدار في غزة في حين انه لن
يكون من جانبه الآخر قوة
اسرائيلية تستطيع إنشاء حاجز
حقيقي أمامه.
o
اذا ما ضعفت مع الايام السيادة
الاسرائيلية في محور "فيلادلفيا"،
أو اذا انشيء ميناء بحري في غزة،
أو على الأقل جُددت الرحلات
الجوية للمطار الذي أقيم هناك
في الماضي، كما وُعدوا في
اتفاقات اوسلو، عندها ستُهرب
الى الميدان قذائف صاروخية
ستكون في مدى اصابتها كريات غات
والمداخل الجنوبية من أسدود،
وكذلك ستُهرب الى هناك صواريخ
مضادة للطائرات تمنع من حرية
عمل سلاح الجو فوق غزة، وحتى في
سماء دولة اسرائيل المجاورة
للجدار.
وتلخيصا، توشك دولة اسرائيل على
انشاء دولة في غزة، ستكون فيها
لحماس حرية عمل، دولة تكون
متصلة اتصالا وثيقا بحزب الله.
في اليوم الذي تخسر فيه اسرائيل
الرقابة الوثيقة على حدود
القطاع من البحر ومن الجو،
سينشأ هناك تهديد على شاكلة
لبنان - فقذائف صاروخية ستهدد
بلدات اسرائيل على مدى عشرات
الكيلومترات. وستخسر اسرائيل
قدرتها على الرد على الارهاب
الذي سيخرج من القطاع، كما انها
ليست تحارب اليوم الارهاب الذي
يخرج من لبنان (80 في المائة من
الأحداث الارهابية الخارجة من
يهودا والسامرة تنفذها منظمات
تتلقى دعما وتمويلا من حزب
الله، ولا تفعل اسرائيل شيئا
للقضاء على الظاهرة بعقب تخوفها
من اطلاق القذائف الصاروخية
لحزب الله).
ليس يمكن ان نعلم إن كان التدهور
سيكون ثوريا وأننا سنرى نتائجه
في عسقلان بعد ايام قليلة، أو ان
التهديد سيتحقق في زمن متأخر،
بعد ان يُستنفد الضغط الدولي
على اسرائيل لعرض خطة الانسحاب
القادمة. من المعقول ان نفترض ان
القدرة ستُبنى تحت غطاء السيادة
الفلسطينية في الميدان وان
التهديد سيتحقق مناسبا للحاجة
الفلسطينية. لن تكون لاسرائيل
القدرة الكافية على منعه أو على
التأثير في تحققه.
إن اولئك الذين يعتقدون انه سيكون
في الامكان العمل داخل القطاع
على أساس معلومات استخبارية في
نفس السهولة التي يعمل بها
الجيش الاسرائيلي اليوم، لا
يعرفون القيود السياسية. بعد
الانسحاب سيكون الجيش
الاسرائيلي ممنوعا من العمل في
القطاع. فقط اذا ما خرج من هناك
ارهاب دموي على طول الزمن، فان
اسرائيل ستمتلك قليلا قليلا
وبدماء كثيرة الشرعية للعودة
والعمل في القطاع. ان الارهاب
الذي ستلتقيه اسرائيل في
المستقبل، اذا ما قرر
الفلسطينيون استعماله، سيكون
ارهابا أكثر إحكاما وأقل تعرضا
للمس به. إن القفزة التي قام بها
الارهاب منذ عام 1994، زمن تركت
اسرائيل قطاع غزة، الى القدرة
التي تظهر اليوم، تعطي مقياسا
واضحا للمستقبل، عندما سيكون
القطاع منطقة لا يوجد فيها
لاسرائيل قدرة كافية على العمل.
استراتيجية محاربة الارهاب،
والانفصال
ان الأضرار التي فُصلت آنفا
مستيقنة، ولكنها ليست الأقسى.
الأقسى منها الامكانية
المعقولة بأن يمس الانسحاب
أحادي الجانب تصور الردع الذي
تجهد اسرائيل (والعالم
الديمقراطي) لبنائه في مقابل
موجة الارهاب العالمي. ستبرهن
اسرائيل بأعمالها على رؤوس
الأشهاد على ان الارهاب ينتصر
ويكون ذا مردود - وبهذا ستمنح
الزخم لاستمرار الارهاب ها هنا
وفي البعيد.
قبل اربع سنوات اندلعت حرب
الارهاب الفلسطينية. ابتدأت
الحرب زمن كانت اسرائيل ورئيس
الولايات المتحدة مستعدين
لتسليم الفلسطينيين قطاع غزة
بأجزائه كلها، وفيها محور
فيلادلفيا، والحرم القدسي
وأكثر أجزاء المدينة القديمة في
القدس وما يزيد على 90 في المائة
من مساحة يهودا
والسامرة. وكان على المائدة
ايضا اقتراح يوسي بيلين الخاص،
الذي كان مستعدا لأن تستوعب
اسرائيل عددا كبيرا من اللاجئين
في اطار تسوية شاملة. لم يوافق
الفلسطينيون في أية مرحلة على
التوقيع بأن يكون الاتفاق نهاية
للنزاع وعلى ان لا تثور مطالب
اخرى.
كان يبدو للفلسطينيين انه يمكن
إخضاع دولة اسرائيل بقوة
الارهاب، وبدرجة ما ايضا بتأثير
انسحاب الجيش الاسرائيلي من
لبنان قبل أشهر من ذلك. كان
عرفات مستعدا للخروج الى حرب
برغم ان المحادثات مع اهود براك
كانت لها انجازات كبيرة: أوشكت
الدولة الفلسطينية على القيام بمباركة
الولايات المتحدة وبموافقة
اسرائيل، وتكون عاصمتها القدس
الشرقية وفي مركزها "الحرم
الشريف". ولكن عرفات رفض قبول
العرض، كما يبدو لانه لم يكن
مستعدا لأن يكون الزعيم الذي
يُنهي النزاع، ولهذا لم يوافق
على الالتزام ان لا يكون
للفلسطينيين مطالب اخرى في
المستقبل. في نظره، كما في نظر
كثير من رجاله خريجي "نظرية
المراحل"، هدف الاتفاق ليكون
مرحلة في النضال للقضاء على
دولة اسرائيل. لهذا يتضح ايضا
لماذا لم يستطع ان يوافق حتى على
العدد السخي من اللاجئين الذين
وافق بيلين على ان يعودوا الى
دولة اسرائيل. في منهجه لا ينبغي
تحديد عدد اللاجئين الذين
سيعودون من هناك ولا ينبغي
تحديد الجهد للقضاء على دولة
اسرائيل في استمرار الطريق (ومع
ذلك ذكر أبو مازن مؤخرا، ان
عرفات في تلك المحادثات كان
متنازلا أكثر منه هو نفسه).
كما قيل، كان الارهاب أداة إخضاع
اسرائيل وإرغامها على قبول
مطالب الفلسطينيين، وهو الذي
بدا بعد الحرب المديدة في لبنان
غير قابل للهزيمة. رأى
الفلسطينيون الجيش الاسرائيلي
كمن هرب من حومة الوغى
اللبنانية مع العار، ودفع نصر
الله الفلسطينيين الى تكرار
نجاحاته. ولكن الفحص عن
المعطيات يُظهرنا على انه لم
يكن أساس لهذا التصور: خسر الجيش
الاسرائيلي خلال الشهور
الـ 17 الأخيرة من بقائه في
لبنان 21 قتيلا، كلهم من رجال
الجيش، وفي منظار محاربة منظمات
الارهاب والعصابات يتبين ان هذه
التضحية ليست غير ممكنة. زيادة
على ذلك، لم تكن لحزب الله في
ذلك الزمن نجاحات كبيرة؛ ولكن
الرأي العام في اسرائيل لم يثبت
للضغوط الداخلية، وكان يبدو
لقليل من زعماء المنطقة ان هذه
هي بداية انشقاق أوسع في
المجتمع الاسرائيلي سيلعب
لصالح الفلسطينيين، بحسب
المنطق نفسه. برغم ان الانسحاب
من لبنان يبدو نجاحا اسرائيليا
في ضوء الهدوء النسبي في
الشمال، إلا ان الإيحاء
الاستراتيجي للمدى الطويل الذي
ظهر من هذا الانسحاب تسبب بضرر
لاسرائيل، وبخاصة في السياق
الفلسطيني.
عندما اندلعت الانتفاضة، في حين
كانت المحادثات مستمرة، لم يفهم
الجيش الاسرائيلي وموجهو
الدولة ان دولة اسرائيل تواجه
نزاعا طويلا. كانت النظرية
السائدة ان عرفات ينهج نهجا
عنيفا فقط ليُمكن نفسه من جعل
مواقفه مرنة بعد فترة قصيرة.
بحسب هذا التوجه، كانت الحرب
شبه اجراء
رمزي - ليستطيع عرفات ان يُدلل
على استقلال أُحرز بالقوة. في
مقابل عدم الفهم السياسي تبين
ان الاستعداد في المستوى
التكتيكي قد لبى الحاجات، وفي
بداية الانتفاضة نجح الجيش
الاسرائيلي في منع النجاحات
التي أمل الفلسطينيون إحرازها
بقوة الجماهير المنقضة على "جيش الاحتلال". ابتدأت
المشكلة بعد ان
تحول القتال في غضون زمن
قصير، والذي كان في بدايته
شبيها بصورة أعنف من الانتفاضة
الاولى، الى حرب ارهاب صعبة
وطويلة. لم يبحث عرفات، كما
يبدو، عن "سُلم" يعطيه
اتفاقا سياسيا أفضل أو تعليلا
للتنازلات، بل حاول أن يُخضع
اسرائيل. كان كل هدف مدني شرعيا
في نظر منفذي الارهاب. وازدهرت
البنية التحتية للارهاب في
المناطق التي خسر فيها الجيش
الاسرائيلي كل سيادة على أثر
اتفاقات اوسلو.
في هذه المرحلة وُلد شعار "أتركوا
الجيش الاسرائيلي ينتصر". كان
هناك من بيّنوا انه لا توجد
للارهاب بنية تحتية ولهذا ايضا
لا ينبغي محاربته بوسائل القوة
العسكرية النظامية. الحقيقة هي
انه حتى نيسان من عام 2002، وخلال
سنة ونصف تقريبا، كانت أيدي
الجيش الاسرائيلي مكبلة. تعلم
الجيش بطريق صعبة انه لا توجد
أية امكانية لمحاربة الارهاب
بغير السيادة سيادة عملية في
الميدان. ابتدأ الضباط يفهمون
انه لا يوجد أي إمكان لمنع
الارهاب من الخارج بغير إحتكاك
حقيقي مع السكان المدنيين الذين
ينشأ الارهاب بين ظهرانيهم
ويخرج منهم. بعقب المجزرة عشية
الفصح من عام 2002 ابتدأت عملية
"السور الواقي"، التي كان
المبدأ الذي وجهها واضحا: يعود
الجيش الاسرائيلي الى قلب
المنطقة المأهولة في يهودا
والسامرة لكي يعود ويتسلط عليها
في المنظور العسكري. لم تأت
العملية الصعبة بثمار واضحة
فورا. بل العكس هو الصحيح. فخلال
زمن طويل اعتاد كثيرون أخيار
إهانة الجيش لأنه لا يأتي
بنتائج، لأن الارهاب في الواقع
مستمر ويبدو الجيش بعيدا عن أي
نصر. مرة اخرى تعلمنا بالطريق
الصعبة ان محاربة الارهاب ليست
قضية لمن ينقصهم الصبر. ظهرت
النتائج فقط بعد قتال متواصل
لسنتين تقريبا. في هاتين
السنتين زيد الجدار ايضا، وساعد
هذا جدا في الأجزاء التي أُنشيء
فيها، ولكن من الواضح انه ليس
صورة كل شيء. لأن من الواضح ايضا
انه في المناطق التي لا يوجد
فيها جدار طرأ انخفاض على
الارهاب. مع العملية انخفضت
ايضا نسب نجاح ارهاب المنتحرين
داخل الخط الاخضر
لأن "الشباك"
والجيش الاسرائيلي وصلا الى نسب
احباط مرتفعة جدا. ان البقاء في
الارض والاستعمال الواسع
للاغتيالات المركزة لزعماء
الارهاب ومشغليه، جرّا انخفاضا
ايضا في عدد المحاولات لتنفيذ
العمليات التفجيرية. لقد انشأ
القران الحاسم بين الانخفاض في
عدد المحاولات لتنفيذ العمليات
والارتفاع في نسب الاحباط، وضعا
جديدا من الخفض الملحوظ جدا في
حجم الارهاب.
كانت دولة اسرائيل على وشك انجاز
تاريخي. فلأول مرة بعد سنوات
كثيرة نجحت دولة ديمقراطية مرة
اخرى، ان تُري على نحو واضح انه
تمكن مواجهة الارهاب، بغير
إبادة منهجية للسكان ايضا، على
شاكلة المجزرة ضد "الاخوان
المسلمين" على يدي الأسد في
سوريا في عام 1982، وانه يمكن
محاربة المنظمات الاسلامية
المتشددة والوحشية التي تعمل ضد
المواطنين والانتصار عليها. في
عالم يكثر فيه جدا محاربو
الارهاب، وبغير نجاح في الغالب،
تستطيع اسرائيل ان تكون جهة
رائدة، متخصصة وأخلاقية معا.
برهن الجيش الاسرائيلي، على انه
عندما يُعطى الظروف الضرورية،
في الأساس لتحقيق السيادة في
الميدان وللقضاء على قيادة
الارهاب، فانه يعرف - بمساعدة
جهاز الاستخبارات الممتاز
للشباك - كيف يمس مسا صعبا
بقدرات الارهاب. كان يمكن ان
يُرى مرة اخرى انه لا أساس
للأسطورة التي نمت في العالم
بعد الحرب العالمية الثانية،
بأن الجيش لا يستطيع الانتصار
على حركات ارهابية وعلى عصابات.
كانت اسرائيل قريبة جدا من النصر.
لا تستطيع القوة العسكرية أبدا
ان تُزيح اسباب النزاع بين
الأمم أو بين المجتمعات، ويبدو
انها لا تستطيع ايضا القضاء على
ارادة الطرف الآخر. ولكن أُثبت
ان النشاط العسكري قد يقلص
تقليصا حادا من قدرة النظام
الارهابي على تنفيذ خططه.
اتضح
انه كانت هناك بنى تحتية
للارهاب - الزعماء، وقادة
الميدان، ومفجرو انفسهم
والمختبرات كلها قلب البنية
التحتية ويمكن الإضرار بها.
اتخذت اسرائيل بنجاح نهج "الاحباط
المركز" الذي يمس البنية
التحتية الحقيقية للارهاب، أي
الارهابيين ذوي الخبرة
الإنفاذية الكبرى. مرت سنتان
منذ ان ابتدأت عملية "السور
الواقي" الى ان لوحظت نتائجها
عمليا، وذلك لأن السيادة يُبدأ
احرازها عندما تُحتل الارض،
ولكن لا توجد "ضربة يُفرغ
منها ويُحسم الامر". يستطيع
الجيش الوصول الى سيادة حقة فقط
بمسيرة طويلة، سيزيفية احيانا
من خلال إظهار الحزم والمثابرة.
قام خِيار السيادة المجددة ايضا
نحو قطاع غزة، ولكنه رُفض بسبب
افتراض ان عملية كهذه ستكون
صعبة كثيرة الضحايا، سواء في
اوساط جنود الجيش الاسرائيلي أو
في اوساط السكان المحليين.
طالما استمر اطلاق النار على
سدروت وما يحيط بها فقط، فقد بدا
لكثيرين انه لا ينبغي ان يُفعل
في غزة ما فعلوا في يهودا
والسامرة، برغم انه عشية عملية
"السور الواقي" عارضها
كثيرون، وللأسباب نفسها. ماذا
سيكون الرد عندما يتسع اطلاق
النار نحو مدن اخرى؟.
أصبحت اليوم تُلحظ الفروق بين
المناطق التي عاد اليها الجيش
الاسرائيلي وامتلك سيادة بعد
القتال، أي في يهودا والسامرة،
وبين المناطق التي بقي خارجها
ولم يتسلط عليها من جديد - قطاع
غزة. في المكان الذي لا توجد فيه
للجيش الاسرائيلي سيادة منذ
تحقيق اتفاقات اوسلو، ولكن يوجد
جدار، تقوم سدروت التي أصبحت
مدينة حدود تضربها قذائف
القسام، والتي تدفع بالدم عن
خسارة السيادة. في مقابل ذلك، في
يهودا والسامرة، مع الجدار
وبغيره، لا يوجد اطلاق للنار
متواتر، وقليلا قليلا ايضا
يُقضى على أنواع الارهاب الاخرى
على يدي الجيش الاسرائيلي
وإضرارها اليوم أقل بكثير مما
كان، وستقل ايضا عندما ينقضي
بناء الجدار. وصل الجيش
الاسرائيلي الى درجة احباط
بنسبة 80 في المائة للارهاب في
يهودا والسامرة، وقادة الارهاب
الذين حلّوا بدلا من اولئك
الذين اعتقلوا أو قُضي عليهم هم
شبان لا تجربة لهم، يُشغلون
بحفظ
حياتهم أكثر من تنفيذ
الارهاب عمليا. توشك دولة
اسرائيل على التخلي عن كل هذه
الانجازات راغبة وبلا عوض.
المعنى للمستقبل
بعد الانسحاب أحادي الجانب، الذي
سيبدو للفلسطينيين كالهرب (حتى
لو برهنت اسرائيل بآيات وإشارات
ان الارهاب لم يتسبب بالقرار،
ولكن اسباب اخرى)، سيكون من
الصعب إقناع أحد ما في العالم
بعامة وفي الشرق الاوسط بخاصة
ان الارهاب لم ينتصر على دولة
اسرائيل. سيصبح انتصار الارهاب
أسطورة تؤثر في المستقبل، حتى
لو كان للفلسطينيين لتقديرات
سياسية أو تكتيكية، خفض للارهاب
بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي.
ربما يكون صراع داخلي كبير عند
الفلسطينيين على السيادة وعلى
الغنيمة، ولكن سيكون واضحا من
الذي هرب ومن الذي ترك الغنيمة.
منذ اليوم، وقبل ان ينفذ الانسحاب فعليا،
يعتقد ثلاثة أرباع الفلسطينيين
في المناطق ان قرار الانسحاب
أحادي الجانب هو تعبير عن
انتصار الارهاب الذي استعمله
الفلسطينيون. سيقول زعيم حزب
الله حسن نصر الله وبحق انه بعد
أربع سنوات من الحرب نجح
الفلسطينيون في تحقيق نصف
حلمهم، ولا يوجد أي سبب للتفكير
بأنهم في السنوات القريبة لن
يُحرزوا ايضا الجزء الثاني على
شرط ان يستمروا في محاربة
اسرائيل حرب ارهاب متواصلة.
ستكون الاستراتيجية الفلسطينية
واضحة: خلق تهديد على الجبهة
الداخلية العميقة لاسرائيل،
خلال ادارة حرب ارهابية وحرب
عصابات تحت غطاء هذه المظلة،
التي تمنع اسرائيل من الرد.
بدل الوجود عشية انجاز استراتيجي
ذي أهمية - في حين أصبح من الواضح
للجانب العربي ان دولة اسرائيل
ليست تتنازل أي تنازل سياسي
بعقب الارهاب بل تحاربه حربا لا
هوادة فيها بنجاح
حقيقي -
سيقيمنا الانسحاب أحادي
الجانب على شفا نزاع متواصل، في
ظروف أصعب بكثير، بإزاء عدو
يحشد قوة وزخما بعقب نجاحه. هذا
هو جوهر تفويت فرصة تاريخية.
كان من المثير الاستماع الى جهات
امريكية بينت ان الولايات
المتحدة عارضت معارضة مبدئية
الانسحاب أحادي الجانب لأنه
يخالف تصورها الاستراتيجي،
بأنه لا يجب الخضوع للارهاب. في
نهاية الامر نجحت القدس في
إقناع واشنطن في دعم العملية
لقاء زيادة شمالي السامرة على
الانسحاب والحد من البناء في
المستوطنات. منذ ان تخلت
اسرائيل عن انجاز محاربة
الارهاب وأبدت عن تخوفها من
الضغط الدولي، فقدت مكانتها.
كانت الولايات المتحدة هي
الأولى التي فهمت ذلك وهي تزيد
رزمة التنازلات للفلسطينيين
التي ستدفعها اسرائيل في اطار
تنفيذ الخطة. حتى الادارة
الجمهورية توضح ان انسحاب
اسرائيل من غزة وشمالي السامرة
هو فقط مرحلة أولى في العملية.
إن توضيحات رئيس مكتب رئيس
الحكومة سابقا، التي تحاول
تسويغ الانسحاب في نظر اليمين،
وكأنه بفضله سيتوقف كل ضغط
مستقبلي على اسرائيل، لا يوجد
لها ما تؤسس عليه. بعد يوم واحد
من إنهاء الانسحاب أحادي الجانب
سيبدأ الضغط الدولي لاستمرار
الانسحاب، إلا ان الضغط هذه
المرة سيكون أصعب، لأن في أساسه
ستقوم سابقة اخلاء المستوطنات
والمنطقة بغير مقابل ما من
الفلسطينيين. إن ما تطوعت
اسرائيل بفعله في غزة سيكون
القاعدة للطلب منها في يهودا
والسامرة. يقول وزير خارجية
الولايات المتحدة، كولين باول
والاوروبيون ذلك بصراحة.
من جهة اخرى يقوم اليسار، الذي
يخاف بإزاء التنازل أحادي
الجانب وبحق من النتيجة الممكنة.
إن اولئك الذين قادوا مفاوضات
خلال سنوات وما يزالون يؤمنون
ان هناك شريكا للمحادثات مع
اسرائيل، يعارضون قرار الحكومة.
من الواضح لديهم ان احتمال ان
يوافق أحد ما في الجانب
الفلسطيني على محادثة اسرائيل
يقل الآن على نحو عجيب. اذا كان
الفلسطينيون يتلقون بقوة
الارهاب ما طلبوا وبغير مقابل
فعلي أو تصريحي، فما المنطق
الذي يوجد، من جهتهم في
المحادثات التي يجب فيها
التنازل ايضا؟ حتى اذا لم يكن
اليوم شريك جدي في الجانب
الفلسطيني، فواضح ان الاجراء أحادي الجانب قد يؤجل
نشوءه الى سنوات اخرى كثيرة. ومع
ذلك، فان اليسار في اسرائيل
يستطيع ان يسجل لنفسه انتصارا
آخر في جهوده لإعادة اسرائيل
الى قريب من حدود 1967 وفك
المستوطنات في يهودا والسامرة.
لأول مرة في تاريخ الصهيونية
تفكك قيادتها مستوطنات بغير
مقابل وبغير ضغط خارجي، في حين
يخترق اليمين الحاجز، ومن
المؤكد ان يوسع اليسار الظاهرة.
لقد حطمت حكومة اسرائيل ايضا
طابو حقيقيا إذ اقترحت، كما قيل
آنفا، تفكيك مستوطنات في غزة
وشمالي السامرة بغير أي مقابل
من الفلسطينيين. وكما قيل، لا
ريب ان هذه السابقة سيستعملها
أعداء اسرائيل و"اصدقاؤها"
في المستقبل، في كل حين يريدون
ان يطلبوا تنازلات من هذا النوع
بغير شيء من الموافقة على
المرونة من الجانب الآخر. اذا ما
اعتقد رئيس الحكومة انه بتنازله
سيمنع الضغوط في المستقبل فانه
يخطيء. العكس هو الصحيح.
الانسحاب الاسرائيلي
بغير مقابل سيكون
النموذج الذي سيطمح اليه
الفلسطينيون ومؤيدوهم في
العالم الغربي، والآن سيسهل
عليهم الامر أضعافا مضاعفة.
الخلاصة
يشتمل الانسحاب أحادي الجانب
المقترح على مخاطرة
استراتيجية، وسياسية وعسكرية،
عرفّتها جهات أمنية رفيعة
بكلمات ثلاث: "ريح خلفية
للارهاب". لهذا التعريف
التلخيصي معنى لا فقط بالمفهوم
التبسيطي، أي القذائف
الصاروخية على عسقلان، بل ايضا
في المفهوم الواسع والعميق
للمصطلح، أي الخضوع التاريخي
لموجة الارهاب الاسلامي وشبه
قول ضمني للارهابيين: "هبّوا
وانجحوا بقوتكم تلك". هربت
اسبانيا من العراق على أثر
الارهاب في مدريد، وسيُنظر الى
الاسرائيليين كهاربين من غزة،
للسبب نفسه. ان ما كان سهلا
علينا رؤيته وتبيانه في السياق
الاسباني، نفضل ألا نفهمه
بالسياق الفلسطيني. يبقى الهرب
من الارهاب، حتى لو دعوناه "انسحابا
أحادي الجانب"، هربا،
ونتائجه كارثية. يجب على
اسرائيل ان تبقى ثابتة وان تتخذ
حتى قرارات صعبة، ولكن شجاعة،
في شأن السيادة من جديد على
مناطق اخرى في قطاع غزة من اجل
سلب القدرة على اطلاق النار على
سدروت. لهذا يوجد الجيش
الاسرائيلي.
اذا ما وُجد وعندما يكون في الجانب
الآخر من يُتحدث اليه، فسيكون
اخلاء المستوطنات وإجلاء الجيش
الاسرائيلي أوراق مساومة في
المفاوضات. تنازلت حكومة
اسرائيل عنها بغير مقابل،
وستتلقى في مقابل ذلك ارهابا
آخر فقط. لقد أحسن شارون أكثر من
الجميع بيان ذلك إذ ظهر في مؤتمر
الليكود، عندما كان عضو كنيست
عاديا، إذ قال: "يريد المعراخ
ان يُسلم قطاع غزة، ولدينا ايضا
تُسمع اصوات في هذا الشأن... نسي
اليهود كما يبدو لماذا حررناه
مرتين، في عام 1956 وفي عام 1967، من
المحتل المصري (وكانت محاولة
سبقت في نهاية حرب الاستقلال
نجحنا فيها تقريبا). لماذا دفعنا
الثمن ثلاث مرات؟ لان قطاع غزة
هددنا عندما لم يكن في حوزتنا.
إن المقترح هو التفريط
بأمن عسقلان، وكريات غات،
وسدروت، ونتيفوت وعشرات
الكيبوتسات والقرى الزراعية".
لقد أحسن شارون في تحليل الخطر
التكتيكي النابع من الانفصال؛
والخطر الاستراتيجي أقسى منه.
*عميد
احتياط، رئيس دائرة البحوث في
شعبة الاستخبارات العسكرية
سابقا، يميني متدين
معهد
يافي للدراسات الاستراتيجية
"تقدير استراتيجي" / المجلد
7، العدد 3، كانون الاول 2004،
جامعة تل أبيب
موقع
الانباء الاخباري / السبت 01
يناير 2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|