بعد
توقيع سورية على الاتفاقية
البداية
تكون مع الإرادة السياسية بوقف
التعذيب
المحامي
وسام جلاحج
لا شك في أن الحديث عن مسائل تتعلق
بحقوق الإنسان يحمل في طياته
الكثير من الصور القاسية
والحزينة. فمنذ أكثر من نصف قرن
والمنظمات والجمعيات المعنية
بحقوق الإنسان تناضل وتكافح
للتصدي للظواهر التي تشكل مساً
وانتهاكاً للذات البشرية
وامتهاناً لها.
ولعل أحد أهم موضوعات حقوق
الإنسان هو موضوع التعرض
للتعذيب والإهانة والمعاملة
القاسية، وخصوصاً عندما تكون
هذه المعاملة صادرة عن الحكومات
والمؤسسات الرسمية المعنية
بتطبيق القانون.
وفي هذا السياق جاءت اتفاقية
مناهضة التعذيب وغيره من ضروب
المعاملة أو العقوبة القاسية أو
اللاإنسانية أو المهينة، والتي
اعتمدت بموجب قرار الجمعية
العامة للأمم المتحدة في 10
كانون الأول من عام 1984 والذي حدد
السابع والعشرين من حزيران من
عام 1987 تاريخاً لنفاذها.
أثار انضمام سورية إلى هذه
الاتفاقية بموجب المرسوم
التشريعي 39 الصادر في الأول من
تموز من العام الحالي، جملة من
التساؤلات والتكهنات والمواقف.
بين من عدَّها خطوة إيجابية لطي
باقي الملفات المتعلقة بحقوق
الإنسان، وبين متحفظ بشأنها
منتظراً كيفية تعامل الحكومة
معها، وبين من عدَّها مجرد حركة
للتصدير الخارجي.
نص الدستور السوري، في المادة
الثامنة والعشرين منه على عدم
جواز تعذيب أي شخص أو معاملته
معاملة سيئة (لا يجوز تعذيب أحد
جسدياً أو معنوياً أو معاملته
معاملة مهينة، ويحدد القانون
عقاب من يفعل ذلك).
وفي الباب الرابع من قانون
العقوبات السوري المتعلق
بالجرائم المخلة بالإدارة
القضائية، ورد في المادة 391 أن (من
سام شخصاً ضروباً من الشدة لا
يجيزها القانون رغبة منه في
الحصول على إقرار عن جريمة أو
على معلومات بشأنها عوقب بالحبس
من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات.
وإذا أفضت أعمال العنف عليه إلى
مرض أو جراح كان أدنى العقاب
الحبس سنة).
وعليه نجد أن نص المادة 28 من
الدستور جاء عاماً وشاملاً لكل
أنواع التعذيب بغض النظر عن شخص
مرتكبها أو طريقة إيقاعه أو
ممارسته. ويكاد يقارب نص المادة
الأولى من الاتفاقية التي
تعرِّف التعذيب تعريفاً مسهباً
يطول كل الأعمال التي تسبب
ألماً أو عذاباً، سواء أكان
جسدياً أم عقلياً، ولأي سبب من
الأسباب كائناً ما كان. حتى إنه
يطول التعذيب القائم على
التمييز بكل أشكاله
.
ومن قراءة بقية مواد الاتفاقية
ونصوصها نجد أن بعضها يقارب ما
ورد في اجتهادات المحاكم
والقوانين السورية. فالمادة
الرابعة من الاتفاقية تؤكد أن (
تضمن كل دولة طرف أن تكون جميع
أعمال التعذيب جرائم بموجب
قانونها الجنائي)، كما هو وارد
في المادة 391 من قانون العقوبات
السوري. رغم أننا لا ندري كم هي
الحالات التي طبقت فيها هذه
المادة، وكم هو عدد الأشخاص
الذين طالتهم. وأيضاً المادة 15
من الاتفاقية تنص على أن ( تضمن
كل دولة طرف عدم الاستشهاد بأية
أقوال يثبت أنه تم الإدلاء بها
نتيجة للتعذيب، كدليل في أية
إجراءات)، إذ إن بعض المحاكم
درجت في حالات خاصة على عدم
الأخذ بأي إقرار أو اعتراف يثبت
أنه انتزع بفعل الشدة أو
التعذيب.
وتلقي مواد الاتفاقية اللاحقة،
بالإضافة إلى ما ورد، مجموعة من
الأعباء على عاتق الدول
المنضوية تحتها، من الاعتراف
بأن هذه الأفعال تشكل جريمة يجب
الإفصاح عنها وعدم التستر على
مرتكبها، وضمان أن لا يفلت من
العقاب تحت أية ذريعة،
والإجراءات المتعلقة بالتحقيق
والتسليم وتبادل المعلومات
والولاية القضائية وعدم تسليم
شخص إلى دولة إذا ثبت إنه سيتعرض
إلى التعذيب فيها، وقضايا
التعويض على من ارتكبت بحقه
أعمال تعذيب، وحماية الشاكي
والشاهد وغيرهم من الأشخاص
الذين يخبرون عن وقوع مثل هذه
الانتهاكات، كما هو وارد في
المادة 13 من
الاتفاقية التي تنص على أن (تضمن
كل دولة طرف لأي فرد يدَّعى أنه
قد تعرض للتعذيب في أي إقليم
يخضع لولايتها القضائية، الحق
في أن يرفع شكوى إلى سلطاتها
المختصة، وفي أن تنظر هذه
السلطات في حالته على وجه
السرعة وبنزاهة. وينبغي اتخاذ
الخطوات اللازمة لضمان حماية
مقدم الشكوى والشهود من جميع
أنواع المعاملة السيئة أو
التخويف نتيجة لشكواه أو لأي
أدلة تقدم).
و الجزء الثاني من الاتفاقية
المتعلق بمهام لجنة مناهضة
التعذيب وتشكيلها وعملها، هو
الأكثر أهمية فيما لو تم
الإعلان والاعتراف بمهام هذه
اللجنة في التحقيق وتلقي
البلاغات والشكاوى سواء من دولة
ضد دولة أخرى أم من الأفراد ضد
حكوماتهم. وقد أعطت المادة 28 من
الاتفاقية الحق لأي دولة أن لا
تعترف باختصاص اللجنة المنصوص
عنه في المادة 20 منها، والمتعلق
بالتحقيق وزيارة أراضي الدول
الطرف في الاتفاقية للتحقق من
قيام عمليات تعذيب منظمة على
أراضي هذه الدولة. وهذا ما فعلته
الحكومة السورية حين نص المرسوم
التشريعي رقم 39 على عدم اعتراف
الجمهورية العربية السورية
باختصاص لجنة مناهضة التعذيب
المنصوص عليه في هذه المادة.
ومن النظر والتدقيق في مواد
الاتفاقية نجد أنها تلقي على
عاتق الحكومة السورية جملة من
الالتزامات يجب عليها أن تحققها
تطبيقاً لبنود ومواد هذه
الاتفاقية. وذلك كله في وقت ما
زالت المنظمات الدولية
والعربية والوطنية المعنية
بحقوق الإنسان تتهم الحكومة
السورية بوجود حالات انتهاك
لحقوق الإنسان وممارسة التعذيب
على أراضيها.
فدائما البداية تكون بالبحث عن
نية الحكومة وكيفية تعاملها مع
مثل هذه الحالات في حال وقوعها.
وهذا ما رأت فيه منظمة العفو
الدولية حجر الأساس في تطبيق
الاتفاقية، إذ أكدت أن (البداية
بمكافحة التعذيب تكون مع
الإرادة السياسية بوقف
التعذيب، وأنه لا يجب أن تكون
هذه الإدانة رمزية، بل ينبغي على
السلطات أن توضح بجلاء للموظفين
العاملين تحت أمرتها بأنها لن
تسمح بممارسة التعذيب (مكافحة
التعذيب ـ دليل التحركات))
والبون ما زال شاسعاً بين موقف
الحكومة الرسمي الناكر لوقوع
مثل هذه الأعمال والممارسات
داخل أجهزتها ومؤسساتها
الأمنية، وبين تقارير وبيانات
المنظمات المعنية بحقوق
الإنسان. فهذه التقارير (
كالتقرير السنوي لمنظمة العفو
الدولية والذي تستشهد المؤسسات
الحكومية به للتنديد بأفعال
وانتهاكات وقعت في بلدان أخرى)،
ما زالت تؤكد وتسرد العديد من
هذه الممارسات التي تقع داخل
الجهورية العربية السورية.
وتقارير المنظمات العربية
والمنظمات والجمعيات السورية
المعنية بشؤون حقوق الإنسان في
سورية (المحظورة غالباً)، تخصص
دائماً فصلاً خاصاً للحديث عن
عمليات تعذيب وضرب وامتهان
للعديد من الأشخاص الذين
اعتُقلوا مع ذكر تواريخ وأسماء
هؤلاء الأشخاص. والمسلسلات
التلفزيونية السورية لم تعدم
الحيلة لتصوير هذه الحالات سواء
من باب الواقعية أو من باب
السخرية والتهكم والمرارة كما
تناولتها بعض المسلسلات
الكوميدية السورية في الآونة
الأخيرة. وحتى إن مسلسلاً
إذاعياً مستمراً منذ ربع قرن
مازال يصور كيفية التحقيق داخل
أقسام الشرطة والأمن الجنائي
لدينا من خلال شخصية (المساعد
جميل) الذي يثير لدى سماع صوته
من قبل المتابعين لهذا ا لمسلسل
الكثير من الضحك المر الممزوج
بالأسف على هذا الواقع.
و إذا كانت الاتفاقيات الدولية
تعدُّ في منزلة أعلى من القانون
الداخلي، فإن التعامل مع هذه
الاتفاقية يرتب على الحكومة
إلغاء أي قانون أو مادة أو نص
يؤدي للحد من تطبيق بنود ومواد
هذه الاتفاقية، وخاصة تلك التي
تمنح حصانة من أي نوع لأجهزة
الأمن أو الشرطة أو أي جهة
مسؤولة عن تطبيق القانون،
وخصوصاً أثناء حجز أي شخص أو
توقيفه أو استجوابه بقصد انتزاع
إقرار أو اعتراف منه.
وضمن هذا السياق جاءت المادة
الثانية من الاتفاقية لتسحب
البساط من تحت أقدام الحكومات
التي تحاول تبرير قيام هذه
الأعمال بالظروف الاستثنائية
التي تمر بها البلد، عندما نصت
على أنه (لا يجوز التذرع بأية
ظروف استثنائية أياً كانت، سواء
أكانت هذه الظروف حالة حرب أو
تهديداً بالحرب أو عدم استقرار
سياسي داخلي أو أية حالة من
حالات الطوارئ العامة الأخرى
كمبرر للتعذيب).
ونشير إلى أن الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان الذي ينص في
المادة الخامسة منه على أن لا
يتعرض أي إنسان للتعذيب ولا
للعقوبات أو المعاملات القاسية
أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة،
وكذلك الاتفاقيات والمعاهدات
المتعلقة بحقوق الإنسان التي
سورية طرف فيها، تفترض الالتزام
بمثل هذه المواثيق والتعامل
الجدي معها وتطبيقها على نحو
يطول كل من تسول له نفسه
انتهاكها وخرقها وضمان أن يقدم
إلى المحاكمة وأن ينال الجزاء
العادل. وبقدر نجاحنا في هذه
المهمة نكون قد وضعنا قدمنا على
الطريق الصحيح الذي يحفظ كرامة
المواطن ويصون حقوقه.
النور
28/7/2004
|