السياسة
الخارجية الغريبة
للاتحاد
الأوروبي
الكاتب:
آن- سيسيل
روبير
لدى
اجتماعهم في ألسنور في
الدانمارك في الأول من
أيلول/سبتمبر عام 2002، اكتفى وزراء
دول الاتحاد الأوروبي الخمس
عشرة باعتماد موقف
الحد الأدنى في موضوع الحرب المرتقبة من
الولايات المتحدة على العراق.
فما عدا دعوتهم
الى "استنفاد الوسائل
الديبلوماسية" هم رفضوا
إعلان موقفهم من "حرب محتملة النشوب”.
فالمواقف الديبلوماسية
الأوروبية متباينة، من
بريطانيا الداعمة للموقف الأميركي
الى ألمانيا وفنلندا الرافضتين
حتى لفكرة الحرب، مروراً بفرنسا
الراغبة في منع
اللجوء التلقائي الى القوة،
تتسع رقعة المواقف. وكما كانت
اسبانيا وإيطاليا
وهولندا قد بدت في ألسنور قريبة من
الموقف الأميركي، فإنها رفضت
اللحاق بلندن التي
طالبت بأن توجه الدول الخمس عشرة إنذاراً
نهائياً الى بغداد. ومن جهتها
فإن بلجيكا (١)
والسويد، وبالرغم من بعض الاستياء من
التصرف الأميركي الاحادي
الجانب، قد لزمتا موقف
المسايرة الذي اتخذته باقي
الدول.
وإذا
لم يكن للاتحاد الاوروبي من
وجود في هذا الوضع، فإن الأوروبيين من
جهتهم موجودين، وبالرغم من
انقسامهم يصدر عنهم
في لندن وبرلين وباريس كلاما
أوروبيا في مواجهة التفرد
الأميركي (٢). فالواقع أن
المشكلة العويصة للسياسة
الخارجية المشتركة التي
أنشأتها معاهدة ماستريخت في
العام 1992، تكمن في التناقض بين
الموقف الموحد المستحيل للدول
الخمس عشرة وبين
المواقف المستقلة التي تتخذها بعض الدول.
ذاك ان مسألة فعالية أوروبا
ووجودها حتى
على الساحة الدولية، لا يلخصان بالكلام
على السياسة والفيديرالية، بل
يتعلقان في
العمق بالتاريخ وبالذهنيات وبطبيعة
البناء الأوروبي نفسه،
بتناقضاته كما بمعوقاته. وهذا
ما يلخصه العالم السياسي نيكول
نييسوتو بقوله: "إن عملية
الحد الذاتية للبناء الأوروبي
على النواحي الاقتصادية" قد
تلازمت مع "التبعية للولايات
المتحدة وللحلف الأطلسي”
(٣).
ولقد
كشفت أزمة العراق هذه
الاختلافات حول تطور النظام
العالمي وحول قيام خطاب أوروبي
متميز عن خطاب الولايات المتحدة.
فالتبعية "البافلوفية"
من جانب بريطانيا، كما الدعم من
جانب اسبانيا أو هولندا، ليست
سوى التعبير
الأقصى عن الارتباط التقليدي
بواشنطن (٤) لكن قلة هم القادة
الأوروبيون،
حتى الأكثر انتقاداً منهم، الذين
يرفضون مبدأ "الزعامة"
الأميركية. وبشيء من الأسف
يقول النائب الألماني الاشتراكي
الديموقراطي في البرلمان
الأوروبي، السيد يانيس
ساكيلاريو ما معناه أنه يجب ألا "نغضب"
واشنطن أو "نربك" تحركها.
وأكثر ما تفعله
بعض الدول هو انها تطالب بدور أكبر
كما فعلت فرنسا التي حاولت
عبثاً في العام 1998
أن تفاوض على عودتها رسمياً الى الأجهزة
العسكرية لحلف الأطلسي مقابل
منحها القيادة
العسكرية في المنطقة .وبحسب السيد
ساكيلاريو أن "كل طرف يأمل في
أن يقر له السيد
بفضله”.
ويرى
السيد فرنسيس فورتز، النائب
الفرنسي في البرلمان الأوروبي
والعضو في الحزب الشيوعي، أن "موقف
القادة الأوروبيين ناتج
احياناً من افتقاد
الشجاعة السياسية" التي "في ظروف ما
بعد 11 أيلول/سبتمبر عام 2001، قد
تغذي عدم
استقرار النظام العالمي”. ويكشف هذا
التصرف بحسب السيد فرنسوا
هايسبورغ من مؤسسة الأبحاث
الاستراتيجية عن وجود "ثقافة
الارتهان” للولايات المتحدة في
بعض الدول الأوروبية.
وبالتأكيد أن الاتحاد الأوروبي
محكوم بذلك بسبب افتقاره الى
الوسائل
وخصوصاً في الشؤون العسكرية
والمخابراتية. وبالرغم من انشاء
قوة تدخل سريع في العام(
2000 )60000
عنصر في العام (2003) ومركز للأقمار
الصناعية في توريخون في
اسبانيا، فإنها
تبقى الى حد بعيد مرتهنة
للتقنية والسلاح الأميركي،
وهذا ما انكشف في شكل
فاضح أثناء التدخل في دول البلقان.
وفي ما خص الشرق الأوسط يشدد
السيد جوري على أن
هذا الارتهان "يقلل من صدقية الاتحاد
الأوروبي ذاك أن من يظهر قوته هو
المسموع فقط
في المنطقة."
لكن
بعض دول الاتحاد ترى أن للسيطرة
الأميركية بعض الفائدة.
ففي ما خص اللعبة الأوروبية الداخلية
تقوم بدور "الموازِن الكبير
بين القوى” (٤) مما
يشكل ضماناً للدول الصغرى في
مواجهة الدول الكبرى. فمن شأن
"المظلة" الأميركية أن
تحيد الحركات الديبلوماسية
الأكثر دينامية وتقيم التوازن
في ما بينها (وفي نوع خاص في
بريطانيا وفرنسا واسبانيا
وألمانيا). ثم ان معظم الدول
الأعضاء في الاتحاد
ليس لها تقليدياً سياسة خارجية،
ومن جهة أخرى فإن بعضها يدعي
رسمياً الحياد (فنلندا
والنمسا وإيرلندا.)...
وفرنسا
هي الوحيدة التي دافعت تاريخياً
عن فكرة
اوروبا القوة العظمى المستقلة في
إزاء الولايات المتحدة
والمستندة الى سياسة دفاع
مشترك (٥). ويرى بعض المراقبين (٦) أن
هذا التفرد الفرنسي عائد الى
اللاوعي الجماعي
في قارة اوروبية ترفض فكرة القوة العظمى
في حد ذاتها، تلك الفكرة التي
تذكّر بدمار
الحرب وسياسة الابادة النازية
وبالاستعمار. ومن جهة أخرى فإن
احد أكبر أشكال سوء التفاهم
يتأتى من كون فرنسا ليست مصابة
بهذا الخوف من فكرة القوة
العظمى، ذلك أن تاريخها
يجمع، بحسب السيد فورتز بين
المتناقضات، مثل "الاستعمار
ومعارضة الاستعمار، الهيمنة
والعولمة”. لكنه يضيف موضحاً أن
"كل شعب يفسر كلمة قوة عظمى
بطريقة مختلفة، فيحملها
مضموناً نابعاً من تاريخه، مما
يعني أن هذا المعنى لا يولد مع
الطبيعة
الجينية وهذا ما يؤكده تطور
السياسة الألمانية”. فعلى
الأرجح ان ما شجع فرنسا على
حزمها في المفاوضات الطويلة التي جرت في
مجلس الأمن هو الموقف المتصلب
للدولة الألمانية
التي يتزايد نشاطها على الساحة
الدولية.
ويرى
السيد ساكيلاريو أن
تصريحات المستشار الألماني غيرهارد
شرودر التي يدين فيها الحرب مع
العراق هي على الأخص
"إشارة" موجهة الى
الأوروبيين مبرزة "التمايزات
النوعية" مع الديبلوماسية
الأميركية. ويأتي هذا في سياق عودة
ألمانيا الى الساحة السياسية،
تلك العودة التي
جسدتها عملية التوحيد في العام 1990،
والتفرد في الاعتراف باستقلال
كرواتيا وسلوفينيا
في العام 1992.
ويرى
هذا النائب ان واشنطن عندما
تتصرف بهذا الشكل
"تساعدنا على التوحد"، ذاك أن
"الادعاء أننا نشارك
الولايات المتحدة القيم نفسها
هو
كذبة كبيرة” .ويعطي امثلة على ذلك من مثل
مبالغتها المفرطة في الاستخفاف
بالقانون الدولي،
وضمناً في القاعدة العسكرية في
غواتانامو، والعنف الغارق فيه
المجتمع الأميركي
أو اعتماد عقوبة الاعدام التي
ألغتها جميع دول الاتحاد، "فلا
يمكن القول
بكل بساطة إننا نشاركها الحضارة
نفسها لمجرد ان لدينا نحن أيضاً
نظام انتخابات! ففي
طهران أيضاً تجري انتخابات...”.
فمسألة
القيم المشتركة هي في صميم
المأزق
الذي تعيشه أوروبا السياسية. فالسيد مارك
مانجينو من مؤسسة كوبرنيك يؤكد
أن "أوروبا
تبدو عاجزة عن تحديد رؤية مشتركة لما
يمكن أن يشكل مصلحة لها على
الساحة الدولية. حتى
أنها تبدو عاجزة عن البحث في هذا
الموضوع." وما يفوتها هو
التطور السياسي للقارة
العجوز، وهكذا نجد ان مصير
الدول الوسطى والشرقية التي
تحررت من الوصاية
السوفياتية قد تم البحث فيه في
إطار حلف الأطلسي. والدليل
الآخر على ذلك هو هذا
الارتجال الذي يميز حالة التباعد
القائمة وسوء التفاهم بالنسبة
الى تركيا كما على النتائج
المحتملة لحرب على العراق
وخصوصاً في موضوع تزود النفط.
والأهداف المحددة
حالياً للسياسة الخارجية
والأمن المشتركين
(PESC)، كما للسياسة الأوروبية الأمنية
والدفاعية
(PESD) التي نصت
عليها معاهدة نيس في كانون
الأول/ديسمبر عام
2000، تأتي في شكل عام في إطار إنساني.
والمهمات التي عرفت باسم "بترسبرغ"،
والتي
اقرت في العام 1992، تتعلق في شكل
أساسي بإدارة الأزمات
وبالمساعدات الانسانية.
ويعتبر
السيد مانجينو أن "إيلاء
الاهتمام الزائد لهذا النوع من
الأهداف يحد من طموحات
الاتحاد السياسية”. فإنشاء
منصب ممثل أعلى للاتحاد
الأوروبي في العام 1999
وتشكيل أجهزة تقريرية جديدة (للاستراتيجيات
والمواقف المشتركة) في معاهدة
ماستريخت
يجب ان يكونا البوتقة التي تعد الرؤى
المشتركة الأكثر اتساعاً. ويقول
السيد فورتز "الا
ان الدول التي تعي أنها تفتح
الباب أمام أعمال لا يمكنها
التحكم بها كلياً تعتمد
قوانين تافهة وفارغة” (٧).
وإذا كان هناك من جهة أخرى من
حاجة للتذكير، فإن
خيار السيد خافيير سولانا، الأمين
العام السابق لحلف الأطلسي يذكر
بسيطرة القبضة
الأميركية. فقد أعلن الممثل الأعلى
للاتحاد الأوروبي أنه "مقتنع
بأن في العراق أسلحة
دمار شامل" لكنه على الأقل
اقترح "العمل عبر الأمم
المتحدة” (٨).
إن تحديد
سياسة خارجية مشتركة تعكس
للاتحاد الأوروبي صورة ما لا
يقر به، فأين هو
"الخارج" بالنسبة الى اتحاد لا
يكف عن توسيع حدوده؟ وما هي
المصالح المشتركة
المفترض الدفاع عنها والقيم الخاصة التي
يجب تطويرها؟ يرى السيد مانجينو
أن أوروبا تتصرف
حالياً مثل "امبراطورية
تابعة داخل عالم رأسمالي تدافع
عن أسواقه وعن مصالحه عندما
تتعرض هذه الاسواق والمصالح
للخطر”. وخير دليل على ذلك هو
هذا التشبث
الاقتصادي الذي يطاول اتفاقات
الانضمام المعقودة مع الدول
الأوروبية الشيوعية
السابقة او مع دول حوض المتوسط، كما
الانقياد للليبيرالية
الاقتصادية التي نصت عليها
معاهدة كوتونو التي تحكم
العلاقات بين دول الجنوب.
إذاً،
ان رسم سياسة
خارجية وامن مشترك
PESC فعليين يفرض الابتعاد صراحة عن الرؤية
الأميركية لعالم
"فوضوي"
حيث القوة هي التي "تضع
القانون” (٩). وعندها فإن
العلاقة الأوروبية
بالثقافة والقانون، كما "النموذج
الاجتماعي الأوروبي"، وهو
غالباً ما يُذكر ونادراً
ما يدافَع عنه، يمكن أن يعتمدا
أساساً لنقاش واسع بين
الأوروبيين يسبق تحديد الرؤية
المشتركة
لكن
دول الاتحاد لا تزال بعيدة جداً
عن اتخاذ هذه الخطوة المهمة.
فالسيد فرنسوا هايسبرغ الذي سيمثل فرنسا
في المفاوضات على السياسة
الخارجية والأمن
المشترك يرى أنه "بعكس ما حدث يوم
اعتماد العملة الموحدة في العام
1992، فإن الظروف
التاريخية لوضع رؤية مشتركة لم تتضافر
بعد”. ففي تلك الحقبة كانت
لفرنسا وألمانيا كلتيهما
مصلحة في الاتفاق، فرنسا لأنها
كانت ترغب في إسقاط القوة
المالية لبون ضمن آلية
أوروبية، وألمانيا لأنها كانت
تعمل للحصول على الموافقة على
توحيد
الألمانيتين. أما بالنسبة الى
السياسة الخارجية والأمن
المشترك فإن هذه الظروف غير
متوافرة. الا أن السيد هايسبورغ يعتبر أن
"هذا لا يعني أنها لن تتوافر
يوماً
ما”.
إن
العواصم الأوروبية، وفي
مقدّمها لندن وباريس، لا ترى أي
فائدة يمكن أن تجنى من
التوفيق بين ديبلوماسياتها
ووسائلها العسكرية وحتى من
توحيدها. وإذا
كانت ألمانيا تطرح نفسها محامية
عن هذه المسيرة فإنها لا تتوانى
عن التصرف الفردي
كما برهنت عليه أزمة البوسنة في العام 1998
والمواقف الأخيرة التي اتخذها
السيد شرودر
ضد الحرب على العراق. وما يراه
السيد فرنسوا هايسبورغ هو “أن
الدول لا تتحرك الا إذا
تبينت أن هناك مصلحة عليا في
التخلي عن شيء ما”.
ويرى
السيد ساكيلاريو
أن هذا الحنين الى التمسك
بالسيادة الوطنية هو أحد
الأسباب الرئيسية لعدم فعالية
الاتفاق على صعيدي السياسة
الخارجية والامن المشترك.
وايضاً فإن السيدة إيما
نيكولسون، نائبة رئيس اللجنة
البريطانية للشؤون الخارجية
تشدد على انه في ما خص
أزمة العراق "فإن مجلس الوزراء هو الذي
سقط عندما اتخذ مواقف مائعة
زاعماً أنه بذلك
يحافظ على المصالح الوطنية المزعومة”.
وفي رأيها أن البرلمان في قراره
الصادر في 16
أيار/مايو عام 2002 المطالب بتشكيل محكمة
خاصة بحقوق الانسان في العراق
"كان من
الممكن أن يسمح للاتحاد بتوحيد الصوت”.
وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر عام 2002،
فإن المفوض
الأوروبي المكلف العلاقات
الخارجية البريطاني كريس باتن،
اكتفى بالتشديد على ضرورة
الحفاظ على سلطة مجلس الأمن،
وإنما أيضاً على ضرورة استباق
أي احتمال لعدم
احترام السيد صدام حسين لأي قرار
يصدر عن هذا المجلس.
إن
ما نصت عليه
معاهدة نيس من اعتماد "أشكال تعاون
معززة"، وهو نوع من تحالف ضيق
يضم على الأقل
ثماني دول اعضاء، قد يفتح آفاقاً لتطور
مشترك. الا أنه بناء على طلب
بريطانيا استبعدت
مسألة الدفاع عمداً عن هذا
الاجراء، ذاك ان مشكلة السياسة
الخارجية والأمن المشتركين
ليست مؤسساتية بل انها سياسية
بامتياز. وقد تساءل مؤخراً أحد
الموظفين
الأوروبيين: "فهل سنتخذ قراراً
بالغالبية الموصوفة بإرسال
جنود ليلاقوا
حتفهم؟".
المصدر:
le monde diplomatic
29/8/2004
|