تفكيك
السياسة الخارجية الأميركية
بقلم
جورج
كتن
السياسة الخارجية الأميركية تجاه
المنطقة العربية لا تحكمها
المبادئ والأيديولوجيا التي يروج لها
علناً، بل مصالح الدولة الكبرى
التي تتبدل حسب
المتغيرات العالمية.
لذلك لا يمكن إجمالها في قالب
واحد هو العداء للشعوب
والأنظمة، فقد
توالت على العالم مراحل
ومتغيرات وتعاقبت على قيادة
الولايات المتحدة إدارات وسياسات متعددة، فأميركا أيدت في
العقد الأول بعد الحرب العالمية
الثانية استقلال
دول عربية عديدة كما
تدخلت بحزم لإنهاء العدوان
الثلاثي على مصر في العام 1956، ثم
انقلبت
في النصف الثاني من الخمسينيات
للسعي لإحلال النفوذ الأميركي
فيما سمي الفراغ
الناشئ في الشرق الأوسط بعد
انحسار الاستعمار، وهي سياسة
فرضتها المصلحة الأميركية في الصراع مع القطب
السوفييتي، بإنشاء أحلاف
ومساندة انقلابات عسكرية ضد
أنظمة متحالفة معه،
والاعتماد على إسرائيل كأداة
لتنفيذ أهدافها، والتغاضي عن
استبداد
أنظمة عربية حليفة...
ولم يختلف الاتحاد السوفييتي
كثيراً كدولة عظمى في كون
مصالحه هي التي توجه سياساته الخارجية،
رغم الدفعة الكبيرة من
الأيديولوجيا التي رافقتها،
والتي لم تمنع من
تقديم الدعم السياسي
والاقتصادي والعسكري لأنظمة
عربية استبدادية
موالية
له في الحرب الباردة ضد المعسكر
الغربي، وحتى استعمال القوة
العسكرية لمواجهة
أي تغيير في أنظمة دول أوروبا
الشرقية، حيث طبق الاتحاد
السوفييتي مبدأ السيادة المحدودة. وبحيث لم يختلف
تحالفه من أجل مصالحه مع أنظمة
بذرائع وطنية
واشتراكية على حساب
الديمقراطية، عن تحالف أميركا
مع أنظمة لمواجهة انتشار
الشيوعية على
حساب الديمقراطية أيضاً، إلا في
أن الأول كان منسجماً مع كونه
دولة استبدادية تتحالف مع دول على شاكلتها، بينما
أميركا دولة ديمقراطية تدعم دول
استبدادية لتيسير
مصالحها. وقد استفادت
دولاً عربية من تلاقي مصالحها
مع إحدى الدولتين العظميين حسب المراحل
المختلفة، ألا أن قوى أخرى ظلت
مسكونة بعقدة العداء المطلق
للسوفييت أو العداء المطلق لأميركا، رغم أنه
في السياسة لا يوجد أعداء
دائمون ولا أصدقاء
دائمون.
انتقدت الإدارة الاميركية
الحالية، بناء على الوقائع
العالمية الراهنة، سياستها السابقة في دعم
أنظمة استبدادية متحالفة معها،
ورأت أن الشرق
الأوسط الغارق في
التخلف والفقر والقمع، المولدة
لليأس وثقافة الانتحار، بحاجة لتحول
ديمقراطي يراعي حقوق الإنسان
ويعزز دور المجتمعات المدنية
ويوسع المشاركة السياسية ويحرر المرأة ويحول
الاقتصاد إلى اقتصاد السوق
المترافق مع ضمانات
اجتماعية. وهي ترى أن
قوى التطرف تستغل الأوضاع
الاقتصادية المتردية، والنقص
الفادح
في
الحريات السياسية وصراعات
المنطقة، لنشر خطابها الداعي
للحقد على الآخر والتحريض على العنف والإرهاب على المستوى
الإقليمي والدولي. وهي ليست
المرة الأولى التي تدعو
فيها أميركا لنشر
الديمقراطية خارج حدودها، فقد
شجعت بعد الحرب العالمية
الثانية انتقال
دول المحور المهزومة من الفاشية
إلى الديمقراطية، كما وجدت في
دعم الحركات الديمقراطية في أوروبا الشرقية
وسيلة لإضعاف المعسكر
السوفييتي الذي شكل خطراً
كبيراً على مصالحها.
وهي تدعو حالياً لحداثة تراعي
عقائد المنطقة وتقاليدها
الاجتماعية،
تختلف عن التغريب الذي
يفرض النموذج الغربي، إذ ترجع
إخفاق الديمقراطية لأسباب لا تتعلق
بثقافات أو ديانات بل لعقائد
سياسية واقتصادية متخلفة، مع
التأكيد على أن ينبع التغيير من المنطقة وليس
إملاءه من الخارج، فكل ما تريد
عمله إزالة العقبات
والسدود والتشجيع على
التغيير وترك الشعوب لتبني
الديمقراطية حسب متطلبات
مجتمعاتها.
فقيام أنظمة ديمقراطية عربية
مصلحة أميركية في مواجهة
الإرهاب، ولكنه لا يعني أن الأنظمة الجديدة ستكون
تابعة وعاجزة عن معارضة المواقف
الأميركية التي لا
تلتقي مع مصالح
شعوبها، والمثال التركي
والألماني يوضح إمكانية ذلك.
وإذا كانت السياسة الأميركية
الجديدة المعلنة قد انعطفت مع
بداية القرن الحالي لمواجهة الأنظمة
الاستبدادية، فإنها ما زالت في
خطواتها الأولى، ناقصة
المصداقية ومقصرة،
ولا بد أن تفعل الكثير للتقليل
من العداء الموجه ضدها والواسع الانتشار
لدى الرأي العام العربي، ويظهر
تقصيرها في انحيازها لإسرائيل
وسكوتها عن عدوانها على الشعب الفلسطيني
واستمرار احتلالها لأراضيه،
وفي إدارتها لسياسة غير
ديمقراطية في
العلاقات الدولية من خلال عملها
لوحدها في المنطقة الذي عزز
الشكوك
حول
سعيها للهيمنة، مما يفترض
العودة للعمل من خلال الشرعية
الدولية والأمم المتحدة والانخراط في مؤسساتها وإصلاحها
والموافقة على الاتفاقات
الدولية التي تبحث عن حلول
للمشكلات الكونية،
وعدم الانزلاق لانتهاك حقوق
الإنسان بحجة الحرب على الإرهاب.
المصداقية الاميركية في أدنى
مستوياتها، والشكوك كثيرة بمدى
الجدية في تطبيق السياسة المعلنة، إلا
أن اختبارها الحقيقي سيكون في
العراق بعد مرحلة
انتقالية كافية
لإنهاء العمليات الإرهابية
وتوسيع دور الأمم المتحدة في
الإعمار والانتقال
للديمقراطية وإعادة السيادة
كاملة للعراقيين وإنهاء
الاحتلال. ففشل أميركا في العراق يعني عودة
النظام الاستبدادي السابق،
والمزيد من الوقت لأنظمة
استبدادية في المنطقة
أصبحت من مخلفات مرحلة الحرب
الباردة المنقضية. والتغيير في السياسة
الخارجية الاميركية ما يزال
منقوصاً ولا يعني هذا المزيد من
الحروب، إذ يجب عمل الكثير من أجل حل عادل للصراع
الفلسطيني –الإسرائيلي
والسوري –الإسرائيلي،
بإعادة كامل الأرض
المحتلة مقابل الأمن والسلام
للجميع، وسياسات متوازنة تربط
المعونات
لإسرائيل بإنهاء احتلالها،
وتفعل اللجنة الرباعية وتتبنى
وثيقة جنيف كمكمل لخريطة الطريق وكمرجع للحل
النهائي. وفي الجانب الآخر ربط
المساعدات والشراكات
والاستثمارات بمدى
التقدم في احترام حقوق الإنسان
والانتقال الديمقراطي، وهذا ما يفعله
الأوروبيون في اشتراط هذا
الاحترام لدخول الاتحاد
الأوروبي وشراكاته، مما جعل تركيا تقف منذ أربعين عاماً على
أبوابه لعدم استكمالها
لمواصفات الدخول، وخاصة في
المسألة الكردية.
السياسة الخارجية في منطقتنا
العربية لا تتغير تقريباً إلا
ببطء، طالما أنها محصورة في طبقة سياسية
محدودة تفضل "الاطمئنان"
لثوابت تعود لمراجع يتراوح
قدمها بين عشرات القرون وعشرات
العقود، فتختار من الماضي
سياسات للحاضر والمستقبل في تعاملها مع أي تغيير
في السياسة الأميركية، فترفض
تصديقه لأنه لا
ينسجم مع ما تحفظه من
ثوابت، تعتقد أنها تفسر أي
سياسة منذ إبادة الهنود الحمر
حتى إلقاء
القنابل الذرية على اليابان
والحرب الفييتنامية...وتفضل
تحميل مسؤولية هذه الأعمال للمجتمع الأميركي بكافة
أجياله وإداراته السابقة
والحالية واللاحقة، وتبتعد
عن تفكيك وتحليل
السياسة الأميركية الراهنة
باعتبار أن الجرائم والأخطاء
القديمة تنقضها،
فتحول إيجابياتها إلى أكاذيب
وسلبياتها إلى براهين على أن
الماضي مستمر في الحاضر والمستقبل.
إن معارضة أنظمة عربية للسياسات
الاميركية الجديدة بالتذرع
بالشعارات الوطنية لتصعيد العداء للخارج،
هو وقوف إلى جانب مصلحتها
للبقاء في السلطة واستمرار
احتكارها لثروات
بلدانها على حساب أكثرية شعوبها
المفقرة والمهمشة، فهي تستخدم
منذ زمن
بعيد شعارات "مواجهة
الصهيونية والتدخلات الخارجية"
لتأجيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يتباطأ بعضها
بالانفتاح على اقتصاد السوق
بحجة "قطاع عام" فيه شيء ما من
"الاشتراكية"!!، بينما هو
في واقع الأمر غنيمة لمافيات
الفساد المرتبطة بالأنظمة، التي لن تتمكن من
مواجهة الهيمنة العالمية كما
تدعي إلا بإطلاق حريات
مواطنيها، ولن تستطيع
الهرب من التأثيرات الخارجية
المتزايدة بحجة الدفاع عن
الخصوصية
والسيادة، التي بدأت المسيرة
الإنسانية في تجاوزها لصالح
الإنسان الكوني، لأي
دولة انتمى، فالسيادة
تحولت في أغلب الأحيان إلى مبرر
لرفض تدخل الخارج في
اضطهاد
الأنظمة لشعوبها.
أما المعارضات العربية - فيما عدا
أقلية ضئيلة تنحاز للسياسات الأميركية مع تجاهل سلبياتها
وتعارض بعضها لمصالح شعوبها -
فتنزلق لتأجيج العداء
للسياسات الاميركية
مما يجعلها غير قادرة على تفكيك
وتحليل هذه السياسات والبحث عن تقاطعات
مع إيجابياتها ورفض سلبياتها،
إذ يفضل بعضها تأييد الأنظمة
الاستبدادية ضد الضغوط الخارجية، وهي سياسة قديمة
يتم التشبث بها بحجة الوطنية،
رغم أنها قادت
لهزائم شاملة، إذ رغم
التضحية بحريات المواطنين لم
يتم في معظم الحالات إنقاذ
"الوطن". ويفضل آخرون
طريقاً ثالثاً هو الأصعب، لا
ينحاز لأي طرف في الصراع الدائر بين
أنظمة استبدادية وقوى خارجية،
كما فعلت غالبية الشعب العراقي
في الحرب الأخيرة، وهو طريق لا يعني الحياد السلبي بل
التعامل الإيجابي مع كل ما هو في
مصلحة الشعب من
أية جهة أتى، أما رفض
الإيجابي الآتي من الخارج فهو
مد في عمر الأنظمة
الاستبدادية.
لقد جرب العرب خلال نصف القرن
الأخير إعطاء الأولوية لتحرير
بلدانهم من التدخل الخارجي في شؤونهم
الداخلية على حساب حرية
المواطنين، فكانت النتائج
مخيبة للآمال، فلم يبق
إلا إعطاء الأولوية للتخلص من
الاستبداد والانتقال
للديمقراطية
التي ثبت حتى الآن أنه لا يمكن
لأي مجتمع إنساني أن يتجاهلها
أو يؤجلها بأي ذريعة كانت، وإلا حصد الكوارث
والتبعية وتعميق التخلف.
السبت
25 أيلول 2004ـ فلسطين الإلكترونية
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|