الأيام
الأخيرة للأنظمة
د.حسن
حنفي
كما أن هناك علامات ليوم القيامة،
اليقيني منها والظني، هناك
علامات أخرى لنهاية أي نظام
سياسي.
فقد كانت هناك علامات في أواخر
الأربعينيات وأوائل الخمسينيات
مثل الحركة الوطنية، النكبة
الأولى في فلسطين، حركة ضباط
الأحرار، حريق القاهرة، سقوط
الوزارات، الحركة الفدائية في
القناة، ضرب الإنجليز لمخفر
الشرطة في السويس على أن ساعة
التغيير حانت. النظام البريطاني
الملكي الإقطاعي ولى، ونظام آخر
جديد بدأ، بعد ثورة يوليو 1952.
وتم التعبير عن مثل هذه الحالات
في عديد من الأفلام حول الأيام
الأخيرة لهتلر أو لنابليون. فهي
مفاصل التاريخ والدالة على
حلقاته ودوراته "وتلك الأيام
نداولها بين الناس".
ومن علامات نهاية الأنظمة فردية
الحاكم وغروره وتجبره بل وتأليه
نفسه. لا يستشير أحدا في قراراته
التي يغامر بها في أواخر حياته.
ويدعي الاعتماد فيها على
الإلهام وهو في طائرة فوق
السحاب، قريبا من الملائكة ورسل
الوحي، بل ومن الله. تأتيه
الرؤى، الصلح مع العدو المحتل
للبلاد على نحو انفرادي.
والحقيقة أنه اتفاق عن طريق
الوسطاء بأسلوب مسرحي وأمام
أجهزة الإعلام بدعوى الصدمات
النفسية مخاطبا الغرب. فالغرب
يعلم منذ عصوره الحديثة أن ما
يتخيل في السماء إنما يحدث على
الأرض أولا وقبل أن يتخيله
الناس في ثقافاتهم الشعبية
ومؤسساتهم الدينية.
من علامات نهاية الأنظمة، أن
يخاطر الحاكم بمصائر الشعوب،
وينفصل عن ماضيها، ويحول
ثوابتها إلى متغيرات،
ومتغيراتها إلى ثوابت، وكأن
السياسات المحلية والدولية
أسرار في ذهن الحاكم، وكأن
الحكم إرث شخصي، وكأن الوطن
ضيعة، وكأن مصير الشعوب للبيع
والشراء.
لا فرق بين من غامر بالحرب وبين من
غامر بالسلام. فكلاهما مغامرة
بالأوطان. وكلاهما تنفيذ لأوامر
السيد الأجنبي، ومظهر من مظاهر
التبعية باسم البطولة. وإذا ما
وصلت الأشياء إلى الحد الأقصى
فالطرفان يلتقيان. لا فرق بين
البطولة والخيانة و"الحلال
بيّن، والحرام بيّن وبينهما
أمور متشابهات". والقطعية في
السياسة تعصب. وتحويل السياسة
إلى دين. لا توجد أحكام قاطعة في
السياسة خصاما أو مصالحة، غلق
الأبواب أو فتح الأبواب. بل هناك
تحليل للمواقف، وحساب للمكسب
والخسارة، وترك العلاقات
الدولية مفتوحة أمام الأوضاع
المتغيرة. فقد ينقلب الصديق إلى
عدو والعدو إلى صديق.
الأحكام القاطعة في السياسة تغلق
الباب أمام البدائل، والرأي
والرأي الآخر. وهي أحد مظاهر
التسلط في الرأي، والتعصب
لأحادية الطرف، وإلغاء
للتعددية السياسية. فالتسلط في
الداخل ينعكس على التسلط في
الخارج. وهو أيضا طلب للشهرة
والإعلام، والرغبة في الدخول
إلى التاريخ ولو من أضيق
الأبواب، كما يفعل المجرمون
ومشاهير اللصوص ومصاصو الدماء.
والذاكرة تحتوي كل شيء، الخيانة
والبطولة، الإدانة والبراءة،
الظالم والمظلوم، الحاكم
والمحكوم.
ومن مظاهر التفرد والغرور والتأله
احتقار المعارضة في الداخل،
وعدم أخذها مأخذ الجد وإن سمح
بها كنوع من زينة المجالس، يفخر
بها أمام الغرب الذي يفرض مشروع
"الشرق الأوسط الكبير"
ويضع برنامجا لإصلاحه في أول
بنوده... الديمقراطية. لدى
الحاكم مجالس منتخبة حتى ولو
كانت مزيفة، وحزبه يتربع على
أغلب مقاعدها.
من علامات نهاية الأنظمة أن ينجح
الرؤساء بالإجماع. مرشح وحيد
أوحد مع أن الوحدانية من صفات
الله. ومن يعارض الرئيس الأوحد
يقبض عليه وعلى آلاف مثله في
ليلة واحدة ...في مذبحة تاريخية
واحدة. يقضي على المعارضة في
الداخل ويحتقر المعارضة في
الخارج، ويعزل القلب عن الأطراف.
عند ساعة التغيير يدخل الحاكم في
حروب وتحالفات مع الأجنبي ضد
ابن بلده، فيسفك العربي دم
العربي كما يفعل الأجنبي.هو
الوحيد العالِم، والآخرون جهلة
أرذال. والثمن بضعة مليارات
لتخفيف الديون بينما أموال
الوطن المهربة الى الخارج أضعاف
الديون.
ومن عظمة التأله لا يكاد الحاكم
يرى، ومن كثرة ما أحيط به من
رجال البلاط يزينون أعماله
ويمدحون صفاته، ويشيدون
بمآثره، يغيب الواقع عنه. لا
يعلم أن المياه الجوفية قد تجرف
البنيان. هو يسخر ممن قبله مؤمن
بأنه لن يأتي أحد بعده سوى وريثه
(ابنه)، والبطانة جاهزة. "مات
الملك، يحيا الملك".
من علامات " الساعة"،
الاحتقان في الشارع الذي يصل
الذروة. وضيق الناس الذي بلغ بهم
حد الانفجار. يشتد الغلاء يوما
وراء يوم. والأسعار ترتفع
والدخول على حالها. وكما يفقر
الفقراء يغنى الأغنياء. وكما
تشقى الجماهير تنعم القلة.
ويصبح الدعم الغذائي لمحدودي
الدخل صوريا. وينتهى عصر
الإسكان الشعبي ولجان تقدير
الإيجار، وتبنى المدن الجديدة
للقادرين، كمستعمرات مغلقة
بحراس شداد لحماية الأثرياء
الجدد. والقطاع الخاص يلتهم كل
شيء. والقطاع العام من قبيل
الذكريات السيئة. والتعليم
الوطني أفرغ من مضمونه لصالح
التعليم الخاص من أجل السوق.
والناس تسخط كل يوم من الصباح
إلى المساء. ولا ضير في السخط
والتبرم.
أما الفعل والتمرد والتظاهر فلها
الأحكام العرفية وقوانين
الطوارئ والاعتقال سنوات
وسنوات دون تهمة أو محاكمة،
كذلك تطول طوابير الخبز بدل أن
تقصر. السرقة في المركبات
العامة والأسواق تفقد "بريقها"
وتصبح المضاربة على أسعار
الحديد والأسمنت وتهريب
الأموال ونواب القروض، وشركات
توظيف الأموال "نجمة المواسم"....وهكذا
من اللص الصغير إلى اللص
الكبير، ومن الجماعات الدينية
إلى ... فساد في الداخل وتبعية في
الخارج، وبطالة وفقر، وضياع
ويأس. يهاجر غير القادرين إلى
الداخل، ويغرقون في المخدرات،
والدين، والجنس، ويهاجر
القادرون إلى الخارج. وتطول
الطوابير أمام السفارات.
من علامات الساعة، أنه كلما ازداد
هاجس الأمن ازدادت العزلة
والتفرد والتأله. وكلما طالت
القامة ضعفت الأرجل ولم يعد
للأرض ولا للناس أي دور. فالأرض
تدفع من أدنى إلى أعلى كما يفعل
النبات والنار.
وقد يحدث زلزال في الأرض فيهوى
الحاكم من حيث لا يحتسب كما تأخذ
الأرض زخرفها وتتزين وتظن أن
أمر الله لن يأتيها.
وتنتظر الناس الخلاص دون مخلص،
إنما تنتظره على أيديها حتى
تسترد مصيرها، وتدافع عن
أوطانها، وتستعيد كرامتها،
وتثق بنفسها. فقد سئمت التأله.
وكما يفعل الشهيد الذي فقد وطنه
وأهله وقريته وصباه وتاريخه،
والمستقبل أمامه معتم كذلك تفعل
الشعوب في هباتها. فتغيير الوضع
القائم أفضل من الاستمرار فيه
أو القيام بمغامرة غير محسوبة
العواقب. فالمجهول أفضل من
المعلوم.
والعهد الآتي خير من العهد الماضي.
وإيقاف الحاكم الحاضر لن يمنع
الشعوب من التمرد نحو المستقبل.
الاتحاد
الاماراتية 12/02/2005
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبها
|