تدمر
في الذاكرة ...
طبابة
متميزة (3)
بقلم
: حسن الهويدي*
يتعب الجسد
أحياناً، وجسد السجين متعب
ومتألم دائماً، وعندما يكبر
الألم فما عليك سوى أن تستجيب له
أو تتخلص من مسبباته. والعيادات
الخارجية في تدمر تكلف السجين
الكثير من الدماء، وغالباً ما
تكلفه حياتة التي هي رهينة
للموت. وآلام الأسنان التي تصيب
السجناء في سجن تدمر تتعبهم
كثيراً، وخاصة الألم الناتج عن
اللكم والرفس على الوجه
والفكيين من قبل عناصر الشرطة
وأعوانهم "البلدية"،
وأغلبهم يرتدون أبواط عسكرية
تحمل في مقدمتها "نضوة" وهي
قطعة معدنية على شكل هلال
ويحملون في أيديهم قضباناً
معدنية، وعندما يتعرض السجين
للضرب بها يحدث تهشم في الأسنان
وكسور في الوجه والفكين،
وأحياناً تحدث جروح عميقة ينتج
عنها انسلاخ اللحم عن العظام.
مرة من كل عام
تتكرم إدارة السجن بالخروج
للسجناء لمراجعة العيادة
السنية، صاح أحدهم بنا من
الخارج بمراجعة العيادة السنية
يكون مستعداً، وطلب من رئيس
المهجع عددهم، وكنا خمسة سجناء
نستعد للخروج بالرغم من نصائح
البعض بعدم الخروج؛ لأننا لن
نستفيد شيئاً سوى العذاب. خرجنا
كما هي العادة المتبعة في تدمر
أعيننا مطمشة وتقودنا البلدية
برتل أحادي مروراً بمهاجع أخرى،
إلى أن وصل عددنا إلى 25 سجيناً.
وطلب أحدهم من البلدية أخذنا
إلى باحة الطعام، جمعونا هناك
إلى أن وصل عددنا إلى حدود 60
سجيناً، وطلبوا منا الركوع على
الأرض باتجاه الحائط وعدم النظر
إليهم. ركعنا وركع كل شيء من
حولنا.
بدأ أحدهم برفسنا
من الخلف، ويطلق بنا من الألفاظ
كل ما حفظه في حياتة البذاءات
والألفاظ الدنيئة، مرة ينعتنا
بالخونة ومرة أخرى بالزناة
والصراصير، وهذا كان من ألطف
الألفاظ التي سمعتها في سجن
تدمر، من سوء حظي الطميشة التي
وضعوها على عيني كانت مثقوبة من
العين اليمنى بقدر 4 ملم، بحيث
استطعت أن أشاهد بعض الأشياء (الطميشة
هي عبارة عن قطعة من البلاستك
الأسود المطاطي مصنوعة من أطار
عجلات السيارات يضعها السجين
على عينيه طوال فترة وجوده في
السجن وخاصة أثناء النوم ليلاً،
وهذه تجعل السجين في حالة
متوترة بشكل دائم، وهي من
الأساسيات بالنسبة للسجين
والسجان، وشيء مقدس لا يمكن
الاستغناء عنه أبداً، حيث أصبحت
جزءاً من حياة السجين، وعندما
تضعها تنقلك إلى عالم الظلمات
وتعزلك عن كل شيء صامت ومتحرك من
حولك، ومحاولة إزالتها أو
تحريكها تكلف السجين الكثيرمن
الدماء ولأيام طويلة، وفقد
العديدون أعينهم نتيجة تبلي
عناصر الشرطة بتحريكها).
أمرنا أحدهم
بالوقوف والاصطفاف رتلاً
أحادياً. ومن المضحك المبكي أن
يكون السجين معصوب العنين أن
يصطف برتل أحادي، وكيف يستطيع
أن يميزالجهات الأربعة أو يدرك
ما يدور من حوله؟! البعض منا ذهب
يساراً وآخرون يميناً وإلى
الوراء والأمام. أشتد غضبهم
علينا، وغضبت السياط والعصي
معهم، ومن سوء حظي أيضاً بما
أنني أرى بعض الأشياء التي تحدث
انتابني خوفٌ مزدوج، إذ كيف لي
ان أتصدى لأحدهم وهو قادم إليّ
ويرفع سوطه إلى الأعلى.
طلبوا منا الجلوس
أرضاً كلّ في مكانه دون حركة،
طلب أحدهم من البلدية بأن يساعد
على اصطفافنا في رتل الموت. نظرت
من ذلك الثقب اللعين، فشاهدت
أحدهم يرتدي ثياباً أنيقة يجلس
على كرسي وأمامه طاولة خشبية
يضع فوقها حقيبة سوداء، ونادى
به أحدهم: الكل جاهز يا دكتور.
هذا هو الطبيب، وقف وهو يضع يديه
حول خصره، وقال: كلكم يا أولاد
"القحبة" مصابين بألم
الأسنان؟ صاح بالممرض، فذهب
إليه وسلمه ملقطاً معدنياً.
وقال له: ابدأ من أول الصف. بدأ
والصراخ ملأ المكان، حاولت أن
أسترق النظر قدر المستطاع، وأن
أجس بعض الأشياء بالرغم من حالة
التوتر التي أعيشها، فشاهدت
السجين الأول من الصف مقيداً من
قبل عناصر البلدية، والممرض يدس
ملقطه المعدني داخل فم السجين
بطريقة متوحشة، وعندما ينتهي من
قلع ضرسه تجره البلدية الى
الجدار المقابل وتأمره بالجلوس
وعدم الحركة، ويأتي دور من بعده.
وأنا أنتظر ولا أعرف كيف سأعيش
تلك الحالة وكيفية التعامل
معها، فوجدت الممرض قريباً مني.
بقيت بالانتظار إلى أن وصل إليّ
وطلب مني فتح فمي إلى أقصى حد،
فعلت ذلك وأنا أرتجف من الخوف،
وخوفي أن يدس ملقطه في عنقي،
ونادى بالبلدية فبصق بفمي وقال:
هذا هو المخدر، ومسك بذراعي
بشدة من الخلف، وطلب أن أرفع
رأسي إلى الأعلى، وهذه هي المرة
الأولى التي أرفع فيها رأسي في
سجن تدمر. ثم جاء آخر وأطفأ
سيجارة على رقبتي، وقال لي هذا
سحب العصب ولن تؤلمك أسنانك بعد
اليوم يا ابن الزانية. أحسست
بآلة معدنية تتحرك داخل فمي
يصدر منها أصوات الطقطقة، أحسست
بألم شديد جداً، بحيث أجبرت
للقيام ببعض الحركات الممنوعة
لأتخلص من الذي أنا فيه، ولكن
شعرت بضربة قوية على رأسي من
الخلف، ولم أعد أحس بأي ألم ولم
أعد أسمع شيئاً من قوة الضربة
التي تلقيتها، وبعد ذلك وجدت
نفسي جالساً بين البعض من
السجناء مقابل جدران أحد
المهاجع. حركت لساني داخل فمي
للتأكد من الضرس الذي آلمني،
ولكن اكتشفت أن هناك مساحة
كبيرة من الفك السفلي خالية من
الأضراس تم قلعها. وبعدما
استعدت جزءاً بسيطاً من وعيي،
أدركت بأنه قد تم قلع أضراس
الذين من قبلي بالملقط ذاته
بدون تخدير للمنطقة المصابة،
وهذه كارثة؛ لأن أغلب السجناء
مصابين بداء السل الرئوي
والتهاب الكبد المعدي!! همس أحد
الذين يجلسون بجانبي يسألني من
أي مهجع أنا، فلم أرد عليه،
تصورت أنه من عناصر الشرطة أو
البلدية يجلس معنا ليتجسس
علينا، فرد قائلاً لطمأنتي: أنا
من الباحة السادسة، البارحة كان
عندنا في الباحة تنفيذ أحكام،
هل خرج أحد من مهجعكم؟ رددت عليه
بهمس شديد: لا. وحوّل حديثة إلى
الذي بجانبه، وبدأ يتجاذب معه
أطراف الحديث وبصوت مسموع
أحياناً، وبدا لي يسأله عن
البعض هل يعرفهم، ومن ثم انتقل
إلى الآخر. وتبين لي أنه قادم
للتعارف والتقاط الأخبار، وليس
كما ظنتتة لمرة الأولى، وها هو
يضحي بحياته من أجل خبرٍ أو
معلومة قد تفيده، وفهمت أيضاً
أنه سجين قديم منذ عام 1981. وفجأة
وبشجاعة مني سألته: ماذا يعني
تنفيذ الأحكام؟ فرد من أين انت؟
قلت له: من الباحة الثانية، فقال:
هل مجيئك إلى السجن حديث؟ قلت له
نعم، فقال: تنفيذ الأحكام .. لقد
أعدم البارحة شنقاً حوالي خمسة
سجناء كلهم من الإخوة، والحمد
لله الجنة لهم خالدين فيها بإذن
الله، وأن يطعمنا الشهادة
جميعاً. وبدا لي مسروراً جداُ
عندما يلفظ كلمة الشهادة.
وانتقل بكلامه الى الذي أمامنا،
وبدأ يطرح عليه بعض الأسئلة وقد
ارتفع صوته بعض الشيء، مما جعل
أحدهم يتنصت عليه وطلب منه
الخروج من الصف وسلمه إلى
الرقيب، وأعلمه أنه كان يتبادل
الحديث مع الذي بجانبه. بطحوه
أرضاً، وتجمعوا من حوله والعصي
الغليظة والقضبان المعدنية
بدأت تعزف له لحنها التدمري وهو
صامت لم يصرخ أو يتوسل لهم، مما
جعلهم يستشيطون غيظاً، إذ شعروا
بأنه يتحداهم بصمته، ووضعوه ضمن
دائرة هم يشكلون محيطها بحيث
يتنابون على ضربه إلى أن فقد
وعيه وهم ما يزالون ينهالون
عليه ضرباً، وطلبوا من البلدية
أن يأتوا ببطانية وحملوه لا
ندري إلى أين!
لحظة صمت، الخوف
أبعدني عن اللحظة التي كنت
أناجي فيها الخلاص علّها تبعدني
عن هذا المكان الذي لم يشهد له
التاريخ مثيلاً، وقد لا نجد في
تاريخنا الحديث مثالاً لتدمر،
وقد لا نجد قصة أكثر وحشية
وبربرية من قصصها.
ها قد انتهى
الجميع من "المعالجة".
واقفاً .. صاح أحدهم .. الباحة
الأولى إلى هنا الثانية ..
الثالثة .. إلخ. كنت في أول الرتل
ماشياً، وصاحب البيجامة
الزرقاء يقودني ماسكاً بي من
عنقي الذي لف حوله السوط ليجرني
كما يُجَّر الكلب المريض ..
يرتدي بقدمه بوط عسكري مليء
بالشحار الأسود وتفوح منه رائحة
المازوت، ويطلق عليّ من الألفاظ
ما ربّاه عليه "الجيش
العقائدي" إلى أن وصلنا إلى
باحة المهجع، وصاح برئيس المهجع:
يا ابن العرصة يا ابن "الشلكة"
ألم تسمع كم عرصة خرج من عندك،
فرد رئيس المهجع المسكين قائلاً:
خمسة حضرة الرقيب أول. عدهم يا
ابن .. ابن .. العدد كامل حضرة
الرقيب. عدّنا رئيس المهجع وما
زلنا خارج المهجع، وكأنه فخ نصب
لرئيس المهجع على خروجنا .. كامل
يا ابن القوادة تعال إليّ. هنا
فتح الباب، دخلنا وخرج رئيس
المهجع وبدأو بضربه على جسده
المنهك، وكان ضربهم له رفساً
بأرجلهم وثم رطمه بجدار المهجع،
وهم يحذرونه من عدم تكرار ذلك أو
إبلاغهم عن أي مريض كان. أدخلوه
صريعاً بين الحياة والموت.
الموت في تدمر أمنية في كثير من
الأحيان كما أنه قريب منك جداً،
ولكن عندما تشتهيه يبتعد،
وعندما يغادر أحدهم نحزن ونفرح،
وكلما سمعنا صوت أبو غضب وأبو
كاسر في الباحة نحسب في
حساباتنا أنه قد يرحل واحد منا،
وهم يستخدمون أرجلهم للضرب،
وضربه واحدة بقدم أحدهم كافية
لتجعلك في عداد الأموات.
ويأتي يوم جديد
تدمى فيه الجراح وتثقل الثواني
ويصبح عدها مستحيلاً، حيث لا
حساب للزمن عندما تتحرك السياط
وصوت الجلاد يصطدم مع صوت
الحريه، وأجسادنا الفقيرة
الدامية ستظل ملكهم المشاع
وغبار القوافل ما يزال يمر بنا
دون أن يذكرنا أحد سوى الأحبة،
حيث الأبواب موصدة، وحريتنا
الوحيدة أن نوسّع مكان نومنا
وليس لنا أمل بالخروج من تلك
الأبواب المتراكمة، وكلما حل
بنا الدور لمواجهتهم تتشكل من
حولنا دوائر ضيقة ننظر من
خلالها الى بئر محفور لا ندري
الى أي عمق ويهبط العالم على
صدورنا والدموع تحاول ألا تذرف.
هنا نعيش جميعاً
في ذعر وخوف وليس جبن، إلا من
سولت له نفسه وسلمها رخيصة
ليحقق مكاسب ضيقة على حساب دماء
الآخرين، هم في أغلب الأحيان
يعيشون كنعامة الصحراء ...
________________
*
كاتب سوري - سجين سياسي سابق
|