ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الخميس 07/07/2005


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ أبحاث

 

 

    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 

 

تدمر في الذاكرة :

شبح عون المخيف 1989 (4)

حسن الهويدي*

بينما كنا نفض خلافاً كان قائماً داخل المهجع على أثر نقاش سياسي دار بين البعثيين "تيار العراق" والإخوان المسلمين، وصل إلى مرحلة الضرب والشتائم، اذ فُتح باب المهجع وطُلب منا الخروج إلى الباحة وبسرعة. ودون أن يبقى أحد في الداخل!

خرجنا جميعاً، رؤوسنا منحنية إلى الأرض كالعادة، وطلبوا منا أن نجثو ووجوهنا باتجاه الجدارالمقابل لنا. كان السكون يخيم على المكان، عناصر من الشرطة والبلدية متواجدون في المكان ولكن بأعداد قليلة، وبعد دقائق حضر أحدهم وقال: الكل يفتح أذنيه ويسمع، بالرغم من أن معظمنا قد لا يسمع شيئاً نتيجة تمزق في غشاء الطبل الناتج عن الضرب والصفع على الرأس، كان صوته غريباً عنا فلم نعتد على سماعه من قبل. ثم صمت وكانت اللحظات تمر ببطء شديد بانتظار ما سيقول (سيبشرنا أو سينذرنا أو ربما سيحكم بتصفيتنا جميعاً).

بالصدفة كنت بين المحاذين للشرطة، أعصابنا مشدودة، دقات قلوبنا متسارعة وكأنها تنوي الخروج من مكامنها. في هذه الأثناء كان أحدهم يغني من على سطح المهجع أغنية لمطرب شعبي يسمعه العسكر بشكل دائم "مجاريح" بصوت شجي وجميل، يئن ويتنهد وكأنه عاشق ومشتاق لرؤية من يعشق، وبعد لحظات، بدأ يسب ويشتم بصوت هادىء ويتوعد بنا الويل والثبور وأن "يضاجع" نساءنا وبناتنا، ويبتكر فنون جديدة لتعذيبنا وفق كلامه. وهو يتابع كلامه صاح به أحدهم:

- هيه .. هيه .. وصل.

ثم عاد صاحب الصوت من جديد ليكرر: الكل يسمع.

صاح بالحرس وأبلغه أن يكون متيقظاً، و يرصد أي حركة تصدر عن أي سجين:

بيان

قامت فئة ضالة من عصابة الغدر والخيانه بقيادة الخائن عون باحتلال رموز السيادة في لبنان الشقيق بإيعاز من الدول المعادية للمنطقة، وعلى رأسها العدو الاسرائيلي والحركة الصهيونية المدعومة امريكياً، وبدعم من النظام العراقي العميل الذي يمده بالمال والسلاح عن طريق البحر، ولذلك ننظر بأهمية بالغة لما يحصل في لبنان كون لبنان جزءاً من الوطن العربي، ونرى من الواجب الوقوف بوجه العملاء للحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها، وجيشنا الباسل سوف يدافع بكل ضراوة وتصميميم من موقفه القومي عن لبنان حتى إعادة سيطرته على كامل أراضيه، وإن النظام العراقي له مصلحة في التوتر القائم في المنطقة لإرضاء أسياده، وعلى سبيل المثال حربه المجنونة على إيران البلد المسلم والجار الذي يحمل همّ الأمة الإسلاميه والقضية الفلسطنية. وإن "إسرائيل" وأمريكا لا تريد لهذه الأمة سوى الموت والهلاك .. وفرض سيطرتها على المنطقة ونهب خيراتها ..

وأنهى كلامه.

ثم تلاه أحدهم بصوت هادىء مرتجلاً كلامه فيما نظن: إن ما يحصل في لبنان الشقيق لن يمر بهذه السهولة، ونحن متيقظون تماماً لما يحصل، وسوف نضرب بيد من حديد لكل من تسوّل له نفسه المساس أو النيل من كرامة هذه الامة، وبحكم موقفنا القومي العربي لن نرحم هؤلاء، ولا كل من يساندهم من الأنظمة العربية المتخلفة والرجعية والعميلة للاستعمار وأعوانه، ونضالنا لأجل هذه الأمة، وأهدافنا هي الحفاظ على كرامة الموطن العربي من المحيط إلى الخليج ..

مفهوم هذا الكلام يا بني .. صمت قليلاً ثم قال:

- أدخلوهم.

- واحد .. واحد إلى المهجع وبدون ازدحام قالها بلطف .. أحد العساكر.

هنا دخلنا دون أن يمسّنا أحد؟! وبطريقة سلسه إلى الداخل!

وجوه مبتسمة وأخرى حزينة والفكرة ما بين الشد والجذب. البعثيون الموالون للعراق ارتسمت على وجوههم بارقة أمل، بدأ رئيس المهجع يتمختر وسط المهجع ويده خلف ظهره يتساءل: من لديه أي تعليق على ما سمع، وهذه المرة الأولى التي يستمع فيها رئيس المهجع "للرأي العام" داخل المهجع وعلى الملأ ..

صاح الرفيق حمود. هذا أبو عدي ولم تلد نساء العالم مثيلاً له، ولن يخرجنا من هذا السجن سواه. (يا حوم اتبع لو جرينا. ها. ها أخو .. هدلة .. جاها من مغرّب والبحر سباحه مثل ما قطع النهر سباحة، هذا الفارس المغوار حامي البوابة الشرقية أبو عداي ما بعدك رجال)(1) فردَ عليه رئيس المهجع قامعاً: إياه اصمت يا فهيم. ولكن كان كلام الرفيق حمود رسالة موجهة مباشرة للإخوان، وكرد عملي على ذلك الشجار الذي كان قائماً بينهما، وهو يشرّح البيان دعماً لكلامه. فردّ أحد "الإخوة" وبصوت هادئ وواثق: يا رب الطف بنا وخلصنا، فأنت الوحيد المخلص المنجد، الأمور سيئة يا شباب والأسوأ سوف ندفع نحن الثمن غالياً، فما علينا سوى الدعاء وكثرة الصلاة على الرسول، فقد يخفف ذلك عنا العذاب القادم ..

رد عليه الرفيق حمود: دائماً أنتم متشائمون .. معقدون .. رجعيون .. متخلفون. والزبد يتطاير من فمه وكأنه ثور هائج. ارتفع الصوت داخل المجهع نتيجة الأحاديث والسجالات الجانبية، مما اضطر المسؤول الصحي للتدخل وإنهاء الفوضى، خوفاً من أن تعود المشاجرات التي حصلت قبل ذلك مما يؤدي إلى انقسام داخل المهجع، واستغلال الطفلين للحدث.

نظرت للركن الجنوبي داخل المهجع .. أبو غسان يسرّح حاجبيه الطويلين بإصبع يده اليمنى، نظر وهزَ لي رأسه مرات عديدة، وكأنه يبلغني رسالة. فهمت من ذلك أن القادم إلينا من المجهول أعظم من كل تلك الخلافات والمشاجرات التي لا جدوى منها، الآن بعد قليل بعد ساعة اواكثر سوف تختلط الدماء.

"سمرْ" "طوغى" "سداحْ" تلك الاسماء (من أسماء الكلاب) هي لسجناء، ولكنهم أصحاب نفوس ضعيفة، ودائماً يُلقون بظلالهم المخيفه علينا ويحاولون دائماً الحصول على امتيازات داخل المهجع، ومنها إعفاؤهم من الحرس الليلي وسخرة الطعام والخروج إلى الباحة في الحالات العادية، صاروا يلمحون لما حصل وجعله مادة دسمة يعتاشون عليها. وهؤلاء ليس لهم أية علاقة بالسياسة لا من بعيد ولا من قريب، ولكنهم فروا من الخدمة العسكرية ولجأوا إلى العراق، وعندما طلبت منهم الحكومة العراقية الذهاب إلى الجبهة العراقية الإيرانية، عادوا فارين إلى سورية وأودعتهم السجن السياسي.

اشتد غضب الرفيق بهم، وتوعدهم بالعقاب عندما يخرج إلى فضاء الحرية. عادت الفوضى من جديد، والبعض من السجناء حزم أمتعته الخاصة يستعد للخروج!

بنى البعض على حسن المعاملة التي حصلت أثناء خروجنا إلى الباحة ودخولنا منها دون ضرب أحد منا، و(إطلاق) أحدهم لفظ كلمة "يا بني"، ظناً منهم أن شيئاً يحصل في الخارج لصالح السجناء. ولكن، خاب الظن بعدما سمعنا عند الساعة الثالثة بعد الظهر بعض الصراخ القادم إلينا من الباحة الأولى يصحبه صوت السياط، سكن الجميع وارتخت عزائمهم، الخوف سكن المكان فهو لم يغادره، الصراخ يقترب منا شيئاً فشيئاً، وبدأ الازدحام على دورات المياه للتبول، الفرحة عند البعض لم تدم، والذين راهنوا خسروا، فريق الاستطلاع والاستكشاف الخاص بالمهجع يرصد الأصوات وقربها من الباحة، ورئيس المهجع يرتدي درعه الخاص المصنوع من القماش وأكياس النايلون.

صمت .. وخوف .. وانتظار .. وأطراف ترتعش، وعيون تمنع الدمع، وقلوب دقاتها متسارعة، وأنفاس تحتبس، لكأنها اللحظات الأخيرة من عمر البشرية، اقترب الصوت وأصبحت معالمه واضحة. صاح رئيس المهجع محشرجاً: الكل جاهز في حال طلبوا منا الخروج؟ الصوت يقترب. ويقترب حتى انفتح باب المهجع.

صاح أحدهم فرحاً: اخرجوا يا أولاد "القحبة" .. اخرجوا يا "عرصات" .. بحظي سوف يكون يومكم أسود، يا عملاء الأمريكان ..

خرجنا جميعاً تائهين تلعب بنا الجهات ولا ندري أين نجلس، صاح بنا: اجلسوا يا حمير، "ما حلكم" تتعملوا أين تجلسون؟ الكل يجلس مكانه ودون أية حركة، فكل حركة ستدفعون ثمنها.

رئيس المهجع يا "عرصة" عملهم كيف يجلسون .. حاضر سيدي .. الكل باتجاه الحائط .. الكل يجلس ويديه خلف ظهره بسرعة .. بسرعة الصف جاهز حضرة الرقيب.

الكل جلس، الكل ينتظر، والصراخ من المهجع الآخر يعلو ويتصاعد، وأصوات السياط اختفت، يا هل ترى ماذا يحملون بأيدهم؟ يا إلهي خفف عنا العذاب واجعلنا من الناجين يا أرحم الراحمين .. رتلها الذي يجلس بجانبي.

كثر صياح الشرطة في الباحة وهم يمرون من خلفنا، نجفل من وقع خطواتهم. صاح الحرس من أعلى سطح المهجع الذي تقع على رأسه هذه البحصة هو الرقم الأول ("معلًّمْ"، وهو السجين الذي يضعون عليه علامة يخرج للتعذيب كلما طلبوه) يقف باستعداد ويذهب إلى حضرة الرقيب أول، وكان ذلك أول الغيث، وباشر يرمي بحصاه بحصة تتلو الاخرى والعدد في ازدياد، وكان الأول تحمله عناصر البلدية وعددهم حوالي ثلاثة، يحملون السجين من يده ورجليه ثم يلوحون به في الهواء ويتم قذفه عالياً، بحيث يقع على الأرض بقوة ولا نسمع له صوت سوى صوت جسده عندما يصطدم بالأرض، وبعدها يتجمعون حوله ويتم سحله في الباحة لعدة مرات وهو فاقد اَلوعي، وبعدها يأتون بالماء البارد ويصبوه عليه، وإذا لم يصحُ يتابعون ضربه، بحيث يتأكدون من أنه أصبح جثة هامدة. ثم يأتون بالآخر يبطحونه أرضاً، ويطلبون منه حبس أنفاسه، ثم يتم ضربه بين كتفيه بعصى غليظة وتركه في المكان.

جاء أحد الرقباء واستنكر قائلاً: هذا هراء وليس هو المطلوب، دللوهم واسقوهم كاسة متة أو فنجان قهوه، بلدية "عرصات" تعالوا جميعاً وهاتوا العدة. جاءت العدة، وكان وصولها واضحاً، حيث أصوات الدواليب والقضبان المعدنية والسياط يصطدم بالأرض تاركاً وراءه لحنا ينذر بالمصاب الأعظم. ثارغضبهم علينا، وثارت معهم أدواتهم، فبدأوا بالضرب العشوائي من كل جانب، بحيث لم يسلم أي سجين منا على الإطلاق، ثم جلبوا المياه الباردة وصبوها علينا وفي أرض الباحة، وطلبوا منا الزحف لمرات عديدة حتى تمزقت ثيابنا المهترئة، وطلبوا منا أن نكون عاري الصدر، ثم انبطحنا ثانية، وجاء أحد العناصر وبدأ يختار أصحاب الأجساد البيضاء وتجميعهم في زواية الباحة. كان عددهم حوالي الثلاثين سجيناً، طلب منهم أن يجلسوا القرفصاء، وباشروا بجَلدهم على ظهورهم بالسياط .. صراخ واستغاثات تتوسل الإله أن يخفف الألم والقهر والذل. جلدوهم حتى انقطعت أصواتهم وانفجرت ظهورهم تسيل منها الدماء وتنصب في المجارير لتغطي المياة الآسنة، وأثر السياط رسمت لواحاتها بكل الألوان، حيث الأجساد البيضاء أصبحت زرقاء خضراء داكنة، يتلبد فيها الوجع ليفزع صارخاً، ولكن دون أن يسمع به أحد، تركوهم في المكان وعادوا إلى بقية السجناء مرة ثانية، بدأوا بضربنا بوسائل جديدة تترك فينا ألماً شديداً، وخاصة عندما تقع الضربات على الرأس. أصبحنا أكثر طفولة، وأكثر هرماً، وأكثر تحملاً للضربات التي تقتل. أحدهم يحمل بيده قضيباً معدنياً طوله حوالي النصف متر، و له من الأمام نتوءات حادة كالشفرة، يستعمله للضرب على الرأس، حيث تسيل الدماء بغزارة لم نعتد على رؤيتها بهذه الكثافة، والشفاء منها يستغرق وقتاً طويلاً.

ولم يسلم أحد، لا الذين فقدوا وعيهم ولا من كان لدية نصف وعي، النار تأكل الجميع وتجعل الأجساد خرقاً، بحيث يحرق بعضها البعض، وأي رجل أطعموه الفأر والرجل الذي سلخ رأسه، والذين نزفت دماؤهم وليمتزج دمهم بينابيعنا الدافئة الرائعة. وهكذا .. الضرب والتعذيب يصل إلى حدود اللامعقول، والشيء الذي حصل لن يستوعبه عقل بشر.

قبيل المساء أدخلونا إلى المهجع، والكثير لا يقوى على الحركة .. الدماء التي نزفت على التراب لا زالت تنزف بين الثياب، والوجوه ليست بوجوه، والأجساد أصابها التعب والإرهاق. "معاز" فقد عقله و"أبو فيصل" قد يرحل عنا قريباً، والذين ينتظرون قدوم الملك كُثر.

أيمكن أن أتوهم أنني عشت في حين يقترب مني الموت؟ أم أن الموت عدوي؟ أم انه الوجه الحقيقي للذعر الذي يمزق أوصالنا؟ طلبوا منا النوم، وكان ذلك في الساعة السادسة مساءً. الكل نام تحت الألم والوجع والجوع، و"معاز" يطلق صرخاته بين الفينة والأخرى، يبث فينا فزعاً آخر. وبعد ساعة من النوم، عادت الدورية من على سطح المهجع، وطلبوا من رئيس المهجع صب المياه في أرض المهجع والناس نيام، حيث المياه جرت وشربتها البطانيات العسكرية وثيابنا المهترئة، وهو يقول: سوف ندفنكم في هذا المكان يا أذناب العملاء.

هكذا كانت ليليتنا، ندفع ثمن الصراعات والأحداث من عون إلى العراق إلى .. قضينا الأيام ونحن نعيش الأسوأ إلى أن رحل عون ورحل الكثير معه من السجن، ونحن بقينا ننتظرالمجهول بين الجدران ندفع الثمن.

* كاتب سوري وسجين سياسي سابق

---------------

(1) الكلام باللهجة المحكية.

 

أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ