تدمر
في الذاكرة ...
ليلة
من 2000 يوم وليلة (5)
حسن
الهويدي
شارفت الشمس على
المغيب، والبرد القارس يقتحم
الشبابيك التي تلفها القضبان
المعدنية متقاطعة بشكلها
العشوائي، حيث يأتي دون أن
يستأذن الدفء، ليجلس بين الجسد
الهزيل، ليخبرنا عن يومٍ الحزن
الشريك. والموت رفيق الأحياء
يتربع بين جدران المهاجع يرعبنا
بين الفينة والأخرى، وصوت
الجلاد صارخاً ترتعد المهاجع
بسجنائها مر تعبة تتراعش
أطرافها وتهتز، وكأنه الزلزال
المنذر بالدمار .. ليل قادم من
ليالي تدمر التي بيننا وبينها
المجهول، قف أيها النهار واجعل
نورك سراجاً لنا في عتمة
الدهاليز المجهولة يد البطش،
والموت فوق رؤوسنا في اللحظة
التي تليها لحظة أخرى، أما قلبي
فقد انثالت عليه نفسي الذكر
وأجهشت عينيّ بالبكاء، لا ترحلي
ودعيني أنام على ذراعيك وأتوسد
الأمان، فأنا مرتعب حتى الموت
من ذلك الغول الذي يسكن
الصحراء، يختبىء تحت الرمل
ليفزعني في عتمة الليل، وجسدي
هزيل لا يقاوم وقلبي يكاد أن
يخرج من بين أضلعي، بينما كنا
نودع أبا الحارث الذي عذبوه حتى
عمده المرض وأضنته العلة ..
وعيناه الشاردتان شاخصتان إلى
السماء، وجبينه الشاحب من عرق
الموت بين المد والجزر، وأنت
واقف عاجز حيال ذلك، لا تستيطيع
أن تفعل له شيئاً فتذهب نفسك
حسرات.
ارحل أيها الملاك
الكريم، فإنك جليل عظيم، نعم
أنا شاكِ باكِ حزين .. اذهب أنت
بسلام أيها النور الصامت الهادئ
فمرقدك مضيء .. وداعاً يا أيها
الرجل، فلنتذكر أغانيك
وأناشيدك الصوفية .. أخرجوك
يحملونك على بطانية عسكرية،
ويتهمونك لأنك أنت السبب في
موتك، بينما كنت تغتسل في
الحمام، حيث قدمك زلت بالماء
والصابون ووقعت صريع الموت على
رأسك! لن ترى بعد اليوم الحارس
الملثم الذي يراقبنا من على سطح
المهجع يتربص بنا ليختار
فريسته، لن يرعبك طعام العشاء ..
بطاطا مسلوقة بماء عكر ومعجون
بالوحل ليضف الكثرة على القلة،
حصتك سنوزعها على المرضى، وقد
تكون من نصيب أخيك العليل
الحزين، وأما ثيابك المهترئه
فستكون من نصيب العراقي الذي هو
بحاجة إليها، والذي سيترحم عليك
لسترة عورته.
صوت مؤذن نكاد
نسمعه بلهجة مكية ينادي لصلاة
المغرب، ويخبرنا بمغيب الشمس
التي قد لا تشرق غداً. انتهى
الجميع مما بين أيدهم استعداداً
للنوم، والكل يتضرع إلى الله كي
يحميهم من المجهول، والحرس
الليلي بداخل المهجع تبدأ
مناوبته عند الساعة الخامسة
مساءً .. كان دور "اللبناني"
أبو محمد الذي سلمه رئيس المهجع
المسؤولية كاملة، وأمر الجميع
أن يعصب عينيه ويمتنع عن أية
حركة، ويمنع الخروج ليلاً
لدورات المياه مهما كانت
الأسباب. الجميع جمد في مكانه،
حيث الأنفاس شبه مقطوعة،
والأجساد ترتجف من البرد، ففصل
الشتاء لن يرحم العراة، والشرطي
الملثم المكلف بحراسة المهاجع
يسب ويشتم كلما مّر بنا على سطح
المهجع. وعند الساعة السابعة
مساءً، جاءت الدورية وطلبوا
الحارس الليلي، وأمروه بخلع
ثيابه كاملة ثم الانبطاح على
الأرض المبللة بمياه الصقيع،
فدرجة حرارة طقس منخفضة جداً.
ونادى أحدهم برئيس المهجع وأمره
بصب الماء على جسد الحارس
الليلي الممدد الذي اتهمه
بالنوم، وكلف رئيس المهجع أن
يبقى على وضعه حتى الصباح. وبعد
أن تُسلّم حارس آخر مكانه في
الساعة الثامنة، وابتعدت
الدورية تسلل البعض منا إلى
دورات المياه والتناوب على
مكانه كي نخفف عنه البرد الذي
نتقاسمه كما نتقاسم العذاب، قف
.. قف .. صاح بصوته .. إنه "أبو
كاسر" الشرطي الجلاد الذي
لايمكن أن تكون بعد ضربته
الحياة إلا من رحمه ربه. وقف عند
"الشراقة"، وهو يزمجر
غاضباً، ونادى بالحرس الليلي
وهو يطلق عنان كلماته البذيئة
عليه، ثم طلب فصيلة الحيوانات،
وهي عبارة عن مجموعة من السجناء
أوكل لكل واحد منهما دور حيوان
يقلده السجناء .. "الجدي" هو
العجوز أبو محمود .. "الحمار"
هو العجوز أبو فيصل .. ثم القط ..
الكلب .. الخروف .. والديك ..
الفأرة والجردون .. وأبو الحصين
.. تم تجميعهم في دورات المياه،
وطلب من الجميع أن يقلدوا
الأصوات مجتمعين، وأخذت
الأصوات المقلدة تخترق الجدران
في سكون الليل الوحشي، وأحد
السجناء ممدد على الأرض، وجسده
عارٍ يرتجف، والشرطي يسلط ضوء
مصباحه على مؤخرة السجين
الممدد، ثم يأمر الحمار العجوز
أن يتقدم نحو السجين العاري،
ويطلب منه خلع ثيابه، وأمر
الآخر بتصحيح وضعيته، وأن يقف
على رجليه ويديه كما يفعل
الحمار، وطلب من العجوز الحمار
أن يضاجع الحمارة، والاثنان
معاً عراة. امتنع العجوز في
بداية الأمر عن فعل ذلك، ولكن
أدرك في النهاية أنه إن لم يفعل
فسيكون الموت المؤكد نصيبه،
كونه يرفض الامرالمقدس الصادر
من الشرطي الذي يتلذذ بما يفعل
وضوء مصباحه مسلط نحو الأعضاء
التناسلية للعراة!
كان منظراً تقشعر
له الأبدان، ومن في داخل المهجع
دموعهم الخفية تكاد تفجر الأعين
التي لا تستطيع رؤية ذلك ..
السماء تبكي غاضبة .. بدأت
الرياح تعصف بشدة، ونأمل أن
يغادر الحرس "الشراقة"
ويختبىء بمحرسه، ولكنه أصر على
البقاء مستمتعاً بالمشهد،
وتحمل تساقط المطر والريح
العاصفة شديدة البرودة على
جسده، وطلب خمسة سجناء من داخل
المهجع إلى دورات المياه
لينضموا إلى مجموعة الحيوانات،
وأعطاهم دور الصيصان، وأمر
الدجاجة أن تجر صيصانها الخمسة
نحو فتحة المرحاض وإخراج "البراز"
من الفتحة وإطعامها لصغارها،
والديك أمره أن يصعد على الحائط
الذي يعزل الحمام عن مدخل
المهجع، ثم يصيح بأعلى صوته، ثم
ينقض بعد ذلك على الدجاجة
ونقرها على رقبتها تمهيداً
لمعاشرتها جنسياً، والصغار
مازالوا يتناولون طعامهم من
الأوساخ. وبقي حال الجميع هكذا
حتى منتصف الليل. وقبل نهاية
مناوبته، أمر الجميع بالدخول
إلى المهجع والنوم شبه عراة،
بما فيهم الحرس الليلي الذي
أقدم حارس آخر على تعذيبه. وفي
الساعة الواحدة ليلاً على وجه
التقدير، قدم أحد الحراس إلى
الشراقة المطلة على ساحة
المهجع، وطلب من رئيس المهجع
الذهاب إلى دورات المياه ومعه
"الجدي العجوز أبو محمود"
وعندما وصل إلى هناك بدأ يكلم
الجدي بصوت هادئ. وبينما كان
الشرطي مشغول بحديثه، اندفع
البعض منا (الذين أماكنهم
بالقرب من دورات المياه) للتنصت
على الحديث الذي يدور بين "الجدي"
والحارس الشرطي، وهو يأمره أن
يقلد له كيف كان يمارس الجنس مع
زوجته! ولكن أبا محمود استطاع أن
يقنع الشرطي أنه أعزب، ثم طلب
رئيس المهجع لتأكيد ذلك فأكد له.
لكن الشرطي طلب من رئيس المهجع
أن يقلد له كيف يمارس الجنس مع
زوجته، بالرغم من أن حارس
المهجع ليس متزوجاً، ولكن الخوف
دفع به أن يقلد ذلك وبدأ .. يتأوه
.. ويتنهد ويتأفف .. أوه .. أه ..
وكأنه بحالة جماع جنسي حقيقي،
وهذا جعل الشرطي يطلب تكرار ذلك
لعدة مرات منه. وتبين لنا أن
الشرطي كان يمارس العادة السرية
بالتوازي مع تأوهات رئيس المهجع
الجنسية! وبعدها أمره بمغادرة
المكان والاحتفاظ "بالجدي"،
وطلب منه خلع ثيابه كاملة، ثم
الاستلقاء على ظهره باتجاه
الشراقة، وبدا لنا أن الشرطي
يسلط ضوء مصباحه نحو "عضو أبي
محمود الذكري" .. هكذا نتبادل
الأدوار طوال الليل وهم
يتبادلون الأماكن. وكان صوت
المؤذن البدوي الذي ينقطع
أحياناً كلما اشتدت سرعة
الرياح؛ ليخبرنا بقرب طلوع
النهار .. الدماء تجمدت في عروق
العراة تستنجد بدفء خلايا النور
لتستمر الروح في البقاء ليوم
جديد يحدد قد مصيرنا.
وبقي الكلب من
فصيلة الحيوانات ينبح، حتى أمر
رئيس المهجع الجميع بالنهوض
ورفع البطانيات، والجلوس ضمن
نسق موازي لجدران المهجع، ورؤوس
الجميع منحنية نحو الأرض، بناء
على التعليمات الصادر من إدارة
السجن وحراسه، والعجوز الذي
أكلت من عمره السنين ها هو بين
أعمدة التاريخ يصرخ للحرية،
الأوامر دائماً نافذة .. الأبيض
أسود والعكس تماماً .. صوت
الحارس الذي يعذبنا قوي دائماً
وأصواتنا بالكاد تسمع، وأيدينا
مجتمعة رغم كل الجراح التي
أصابت خوالج الكرامة، جسد بلون
صحراء المنفى نتقاسم رغيف الذل
والعذاب، يسحب العريف العملاق
مصراع الباب الذي يرسم ويصدر
صوتا راعداً والبرق فيه مجهول ..
وإن الضربة الاولى على رأسك
بسوطه القاسي تنتشر في جميع
تضاريس جسدك نهشاً ورعباً،
لتصبح بين الحاضر والماضي
وتختلط الأزمنة.
وغداً يوم آخر ..
* كاتب سوري – سجين
سياسي سابق
|