ـ

ـ

ـ

مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وقولوا للناس حسنا

اتصل بنا

اطبع الصفحة

أضف موقعنا لمفضلتك ابحث في الموقع الرئيسة المدير المسؤول : زهير سالم

الأربعاء 02/08/2006


أرسل بريدك الإلكتروني ليصل إليك جديدنا

 

 

إصدارات

 

 

    ـ القضية الكردية

 

 

   ـ أبحاث    ـ كتب

 

 

    ـ رجال الشرق

 

 

المستشرقون الجدد

 

 

جســور

 

 

التعريف

أرشيف الموقع حتى 31 - 05 - 2004

ابحث في الموقع

أرسل مشاركة


 وثائق وقضايا 

في القـاع ..سنتان في سجن تدمـر –4

إلى تـدمـــر

إعداد الدكتور  خالد الاحمد*

كان إخواننا المعتقلون في سجن تدمر، يوصي بعضهم بعضاً بأن ينقل المحكومون بالبراءة ما يجري لهم في سجن تدمر، في حال الإفراج عنهم، ومن يتمكن من تسريب بعض المعلومات عن الجرائم التي ترتكب بحقهم في سجن تدمر، فليفعل، وقد أذن الله بالإفراج عن الأخ صاحب هذه الذكريات، وهو لا يزال يذكر وصية إخوانه المعتقلين له، بأن يعمل على فضح هذه المخازي والجرائم، في سائر الأماكن التي يمكنه الوصول إليها،

 

وإننا بإصدار هذه الذكريات عن سجن الموت في تدمر، ونقل معاناة أولئك الأحرار الأسرى، نريد أن نشهد العالم أجمع، نريد أن نشهد الدنيا بأسرها، على جرائم حافـظ الأســــد ، لعل الحسّ الإنساني يتحرك فيهم، فيبادروا إلى فعل حاسم يجتث هذا السرطان من جسم أمة العرب، لينقذوا العرب والمسلمين من خبائثه وجرائمه..

خالد فاضل     25/8/1985م

ـــــــــــــــــــــــــــ

 

امتلأت الغرفة (6) إلى آخرها وصعب التحرك والعيش، ففيها (37) شخصاً رغم صغرها (5×5م) وفي منتصف ليلة 30/8 – 1/9/1980 جاء السجانون فأخرجونا من الغرفة مع أغراضنا القليلة إلى ساحة المعتقل حيث وضعوا في أيدينا القيود. تمكنت خلال خروجنا من رؤية أبي سعيد، فودعته ومن رأيت من الشباب، وكأنما أودع العالم كله، فلا ندري إلى أين مكان سوف يذهب بنا.

وضعنا في باص صغير (37) شخصاً حشرنا فوق بعضنا البعض، وتربع في المقعد الأمامي شخصان مسلحان وفي آخر الباص آخرون والويل لمن يقترب منهم، وانطلقت بنا السيارة تحت الحراسة المشددة حيث كانت تتقدمها سيارة أو اثنتان وتتبعها أخرى. وتعطلت إحدى السيارات في الطريق، فتوقف الركب حتى أبدلت ثم انطلقوا بنا.. كنا نرى الشاحنات وبعض السيارات الأخرى منطلقة في الليل ومع الفجر إلى هدفها، ونظرت باستغراب وأسى إلى هذه الدنيا أهي لا تزال كما هي؟ الناس يغدون ويروحون لا يدري بحالنا أحد، ألا يدري هؤلاء السائقون بما يحمل هذا الباص الصغير من بشر حجزوا عن الدنيا ومنعوا من كل شيء، وعذبوا أشد العذاب وهاهم ذاهبون إلى المجهول ربما إلى تدمر ألا تدرون؟ هكذا في جنح الظلام يتحرك الركب المسلح يقود أشخاصاً ليسوا والله بمجرمين، هل من مخبر للأهل بما جرى ويجري؟ هل من قائل إلى أين يذهب بنا؟ تجرأ أحد المعتقلين وسأل: إلى أين تذهبون بنا؟

فقال له عنصر المخابرات مشفقاً: بعدين بتعرف، وتذكر أبا سعيد فقد قال بعد عودة عناصر المخابرات من توصيل المجموعة السابقة: إنهم كانوا متضايقين جداً من إعادة تسفير المعتقلين إلى تدمر، وأنه بدا عليهم الوجوم والحزن وأسر بعضهم بعد العودة لأحد المعتقلين: اليوم الواحد بستين.. ولم أحفل بالأمر كثيراً كما لم أعره كبير اهتمام (ويا خبر بفلوس بكره يجيك ببلاش) كما يقول المثل الشعبي، فغداً نعرف وإن غداً لناظره قريب.

 

اليوم الأول في تـدمـر :

أشرقت الشمس ونحن سائرون وقد تحول اتجاه السير من شمال شرقي إلى شرقي تماماً، وغزا الأرض نور الصباح، فأي صباح صباحنا؟ (رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين) أي حال سوف تكون عليه بقية اليوم؟ أبداً لم نكن نتوقع ما كان ينتظرنا من أهوال.. وهكذا بدت المعسكرات على الطريق، ثم شارفنا تدمر ودخلناها مع أول النهار، وشاهدنا عن بعد الآثار الرائعة لمدينة تدمر التاريخية، وذكرت زيارة بعيدة لهذه الأماكن أين أنا الآن منها؟ مررنا بسوق تدمر وإذا الناس يغدون ويروحون وقد فتحت المحال أبوابها والمقاهي وغيرها، وكنت أنظر من نافذة السيارة (وهذا أمر نادر الحدوث ومعاملة لم يحلم بها المعتقلون بعد ذلك، حيث كانوا يجبرونهم طول الطريق على طأطأة رؤوسهم حتى يضعوها على أرض المقعد الذي يجلسون عليه وضرب الخيزرانة والكبل مستمر طوال الطريق، وقد بقي رأس أحدهم ينزّ قيحاً ودماً شهرين كاملين بعد تلك الرحلة الرهيبة. كنت أنظر إلى الناس يغدون ويروحون وكأني أقول لهم: ألا تعرفون ما تحمل هذه السيارة؟ نحن معتقلون جدد قادمون إلى سجن مدينتكم هذه.

ووصلنا إلى مدخل يحرسه عسكري بالقبعة الحمراء والسلاح الكامل.. أوقفت السيارات ولم يسمح لهذا بالتقدم حتى تقدم مساعد يضع القبعة الحمراء ويزيّن عضده بثلاث نجوم على رقعة حمراء كالدم، فتفحصّ الأوراق ثم ذهب إلى الحرس فأمره بفتح الباب وركب في السيارة الأمامية، ودخل رتل السيارات معتقل تدمر العسكري أو مركز التطهير الوطني لتصفية الإخوان المسلمين.

كانت لحظات فاصلة بين مرحلتين مرحلة الاعتقال والتحقيق وسجون المخابرات وزنازينهم الرهيبة، ومرحلة السجن العسكري الذي لم نكن ندري عنه شيئاً (والذي فاق بهوله كل وصف) سمعت من البعض ومن أبي سعيد (وما أدراك ما أبو سعيد) إن المعتقلين في سجن تدمر يوضعون في مهاجع ضخمة في كل مهجع (100) معتقل وقال: إذا كان الأمر كذلك ففي هذا تسلية لنا حيث نتعرف على الناس ونسمع مشاكلهم فيمضي الوقت، وما درى أبو سعيد أن الكلام في سجن الموت جريمة لا تغتفر، وأنه سوف يجلس بل نجلس جميعاً صامتين وجلين يشغلنا الرعب والفزع والعذاب عن كل أمر سواه..

كانت هناك قوات عسكرية تحيط بالسجن من الخارج، معها المصفحات والأسلحة والعتاد وحولها الأسلاك الشائكة، وهم باللباس المبرقع الخاص بسرايا الدفاع.

 

مع العذاب في سجن تدمر العسكري

 

دخل رتل السيارات باب الثكنة العسكرية بعد أن أذن لهم ورافق السيارة الأولى المساعد ذو القبعة الحمراء وسارت السيارات إلى الأمام شمالاً مسافة (150م) ثم دارت نصف دورة إلى اليسار ووقفت أمام باب ضخم حائل اللون. كانت الأرض أمامه مفروشة بالإسفلت الأسود والجدران ترابية مغبرة ومن الباب الحديدي كانت تبدو درجات نازلة وأمام الباب كان يقف نفر من الجنود بالقبعات الحمر (لباس الشرطة العسكرية) أمرونا بالنزول فقمنا إلى مصيرنا نحمل أغراضنا القليلة.

وقف عناصر دورية المخابرات التي قدمت بنا وأخذ مسؤول منهم بمفتاح صغير وأخذ يفك قيودنا ويوجهنا إلى مدخل السجن، فيشير لنا الشرطة بالدخول (كانت لحظات حاسمة ودعنا فيها الدنيا والناس والحياة خارج السجن.. ونحن لا ندري).

انطلقنا راكضين حتى دخلنا غرفة إلى يسار المدخل، ووقفنا نتأمل في هذه الغرفة في جدرانها التي كانت بيضاء، فإذا هي كأنما طليت بألوان شتى: السواد – القذارة، وهناك شعارات منها: نعم لبطل تشرين والجولان.. وصرخ أحدهم بصوت قاس وتلاه بسباب وأمر حاسم بالوقوف إلى جانب الجدران، فوقفنا..

ودخل نفر من الشرطة وأخذوا يضربوننا ضربات عنيفة كانت تسمع هبداتها، كما رأينا بعض إخواننا يقعون على الأرض، وأخذنا الألم والرهبة من هذه البداية الرعيبة.

تكامل دخول الدفعة وصرخ فينا صوت يقول بحقد وزجر وسباب: ولك يا.. كل واحد يسمع اسمه يقول (حاضر) ويرمي أغراضه لهون (وأشار إلى الجهة اليمنى) ويخرج فوراً وبسرعة.

وبدأت قراءة الأسماء، وسمعت اسمي.. واندفعت ألقي بأغراضي إلى الجهة التي أشار إليها، وعدوت خارجاً. كان هناك جلاد على الباب وبيده كرباج يوجه به ضرباً إلى غرفة مقابلة. دخلت الغرفة المقابلة، كان هناك اثنان من المساعدين أمام كل منهما دفتر، ومع أحدهما ورقة يقرأ فيها الأسماء، وسجل أحدهما اسمي وعملي وعنواني، وكان قبلي شاب طالب هندسة وقد سأله المساعد الثاني عن مهنته فقال: طالب هندسة بالجامعة، فأغاظه ذلك وأثاره، وقام يزعق، فدخل عسكري بكرباج وانهال على الشاب ضرباً، وخرجت أعدو كما أمروني ووجهني حامل الكرباج إلى باب في زاوية المكان ضمن سياج حديدي وعليه جلاد كان يضرب بكرباجه كل داخل وأكلت نصيبي من الكرباج ودخلت، فإذا نفر من الجلادين إلى يمين الباب يتلقون الداخل وبأيديهم الكرابيج فيصرخون فيه ويضربونه ويأمرونه: غمض عيونك، افتح ايديك، ويغلظ فيضربونه أكثر، ثم يصفونه مع غيره إلى الحائط، ويتناولون القادم الجديد. لم أفهم شيئاً، كان رأسي يدور بألف سؤال: لم كل هذا الزعيق والأوامر: أغمض عينيك مد ايديك.. روح تعال.. وكيف يتحرك الإنسان وهو مغمض عينيه؟ هذا ما يجب أن نتعلمه، وكيف يكون التعلم؟ بالضرب الرهيب والصراخ المرعب، كانت الضربات أليمة قاسية ولكن.. والخوف من المجهول كان أكبر من الألم.. كنت أقول: (يا رب ماذا يريدون ولم كل هذا؟) ويا ويل من يأتي بحركة أو ينبس بحرف يا ويله.. ولجهلي حركت رأسي ومددت يدي أمسح عيني فانقضّ عليّ عسكري يصرخ بي مالا أفهمه وكلما نظرت إليه زاد في الصراخ، وتناولوني بالكرابيج ضرباً، وصراخاً.

 

حفل عذاب الاستقبال

 

ولما اكتمل العدد ساقونا في صف طويل متعرج لا يتركونه يسير إلا بالضرب حتى دخلنا إلى باحة كبيرة مفروشة بالإسفلت وصفونا على الجدار واحداً واحداً، وأمرونا أن نخلع ملابسنا كنا في آب فصل الحر الشديد، لذلك كانت الثياب خفيفة جداً فنزعناها بسرعة..

وجاء شخص يسمونه (البلدية) فجمع أحذيتنا وأخذها وبدأ عندها التفتيش أمسك أحدهم بشعر لحيتي ينتف منه ومن صدري الخصلة تلو الخصلة، ولما تأوهت لكمني على وجهي.

أمرونا بإنزال اللباس الداخلي ففعلنا وسلقونا بالكرابيج على مؤخراتنا مع البصق والكلام الفاجر، وبدأت الحفلة الرهيبة تشكلت مجموعتان للتعذيب وفرقة جوالة والكل مزودون بالكرابيج. أوقفونا واحداً واحداً ووجوهنا إلى الجدار وتنقض المجموعة على الواحد بالضرب الرهيب وتقوده إلى الدولاب فيضعونه فيه ويضبطون رجليه بعصا الفلقة ومن ثم ينهال عليه ثلاثة جلادين بالضرب الشديد على رجليه فكأنها النار المحرقة تكوي العظام، ويشتد الألم ويتعالى صراخ المعذب ويتأوه متألماً شاكياً، ولكن الضرب يشتد على المعتقل في دولاب التعذيب والكرابيج تطحنه فيصيح ملء الفم زعيقاً وعويلاً هو أبعد ما يكون عن صوت البشر وينفتح الفم إلى آخره فيقلمونه الحذاء ويدسونه في فمه، فإذا أبعد وجهه ركلوا رأسه وداسوا رقبته، ويعلو الزعيق والصراخ من شدة الألم والعذاب في تلك الباحة حتى يضج به المكان فينبري الرقيب العتيد يصرخ زاجراً ناهياً بصوت مدو يأمر بالسكوت: (سكوت ولك) وكأنه قائد أوركسترا يضبط النغم في حفلة صاخبة يستعمل الصراخ الناهر بدل عصا الأوركسترا فيلجم الخوف الأفواه وتختنق صرخات الألم.

تذكرت في ذلك الموقف أصحاب الأخدود والنار ذات الوقود وإلقاء المؤمنين في وقدة النار وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، كانت عناصر الفرقة الجوالة تطوف على الواقفين المنتظرين بسيل من الضربات العارمة تجعل الواحد يحن إلى دولاب الموت أن يدركه، فسمع صوت الكرباج الثقيل (وهو عبارة عن قشاط دبابة) ينهدّ على ظهر المعذب أو على رأسه فيرتجف ويكاد يصعق، ويئن ويصرخ بالصوت المخنوق المرة تلو الأخرى.

كنت أقف ووجهي إلى الجدار أنتظر دوري في الدولاب الرهيب، وأناجي ربي: يا سميع يا بصير يا من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يا رب رحمتك غوثك.. هاهم الجلادون المجرمون جنود الشيطان ينقضون على عبادك المستضعفين بالعذاب.. يا الله يا الله..

وجاء دوري وطحنني الجلادون بكرابيجهم وأنزلوني في الدولاب واشتد البلاء بضرب رهيب وثلاثة من الجلادين عاري الصدور والظهور وبأيديهم الكرابيج كأنها اللهب، يقف الواحد منهم مباعدا رجليه جاثياً على ركبتيه رافعاً يده بالكرباج إلى الأعلى والوراء، حتى ترى عفرة إبطه، وينزل به كأنه الصاعقة الماحقة، تريد أن تدمّر وتحطّم ولكن لطف الله أعظم.

ويصرخ الواحد منهم بأعلى صوته وكأنه يحارب في معركة قد حمي فيها الوطيس، واحمرت الحدق، ونحن، عبيد الله المستسلمين لقضائه، لا ترحمنا سياطهم ولا ترأف بنا قلوبهم/ وكأنهم جنوا وركبتهم العفاريت والشياطين فانقضّوا علينا وقد فقدوا العقول فلا عقول.

كان الشاب الصغير إسماعيل يصرخ متألماً باكياً شاكياً مستغرباً يقول: إيش بتريدوا دخيلكن؟ أما نبيل فقد كان يعلن براءته مالي علاقة والله ما عملت شيء دخليكن أنا بريء، وهم يزودونه بالكرابيج ويلكمونه ويرفسونه ثم ألقوه أرضاً وأوسعوه ركلاً وضرباً حتى سالت الدماء من وجهه وشفتيه وغاب عن الوعي أو كاد فأدخلوه في الدولاب وأذاقوه من العذاب ثم أقاموه بعد أن تعبوا وكلّوا وأنهكوه ووجهوه إلى الجدار حيث العصا الرهيبة في الانتظار تفلق الرؤوس وتحطم الظهور وتدفع من انتهى أجله إلى القبور.

صبرت قليلاً على الضرب والتعذيب ولكن رجلي أصبحتا وكأن فيهما جمر نار يحرق العظام، فنفد الصبر وضاق بي الأمر وكدت أغيب عن الصواب وصرخت مرة ومرات ثم انفتح فمي الزعيق فما شعرت إلا وحذاء ضخم يصك أسناني ويكاد يسد حلقي ولكني كنت في شغل عنه وغبت عن الوجود، فما دريت إلا وأنا أساق دفعاً وركلاً إلى مكان ما وأبصرت أمامي نفراً من إخواني بعضهم واقع على الأرض، والبعض يقفز أو يتحرك في حال مأساوية، دماء نازفة ووجوه ملأى بالجروح وأرجل قد تمزقت وسالت منها الدماء وصراخ يقطع الأكباد.

وصرخ فيّ عسكري جلاد، وانقض آخر بعصاه فحطم بها ظهري فوقعت بين الموت والحياة وصرخت صرخة انطلقت مخنوقة من صدري الذي ظننته قد انشق نصفين (يا الله يا الله) وبادرني آخر بالزعيق لكي أستجيب وأقوم فما استطعت ولكن الركل والضرب أجبراني على القيام فقمت وكنت أظنني لا أقوم. وجاء شخص بالماء فرشقنا به وإذا بي قرب نبيل وهو يبكي ويتمسك بي قائلاً:

- سلّم لي على أهلي أنا بدي أموت..

فقلت: اصبر يا رجل..

وإذا بالصراخ يأخذنا من كل جانب.. واستدعانا الرقيب الكبير فإذا به جالس على كرسي في الظل بارز الصدر مستقيم الظهر منفوش كالديك فأخذ يستجوبنا:

- إيش كنتو عم تحكو يا.......؟

كان عقله المريض يصوّر له أشياء غريبة، لابد أننا نتآمر عليهم أو على سلامة النظام. قلت: إنه يقول لي أنا بدي موت سلّم على أهلي.

فصرخ بغضب: (كذاب ولك) إيش كنتو عم تحكوا؟

قال نبيل: والله يا سيدي هيك قلتلو..

- كذابين ولك حقراء..

ثم أشار للجلاد وقال:

(سلخن لها الكلاب..) وانهال علينا مارد عاري الصدر نحيل الوجه مليء الجسم، فكان وجهه وجه فأر وجسمه جسم حمار وإنها لسحنة معروفة ولهجة غير خافية وهو يقول: (متحكوا يا حقيرين يا.......) وانهال عليّ ضرباً حتى وقعت على الأرض أصرخ، فلم يتركني حتى شفى غيظه وحقده مني وأعادني إلى مكاني مع نبيل بعد أن ضربه أيضاً ضرباً شديداً.

وجاء من يرش الماء علينا ويسمونه (البلدية) كان كما علمنا بعد ذلك، سجيناً قضائياً من سجن العسكريين يعمل هنا في الخدمة التي يسمونه (البلدية) ولا أدري ممن بدرت بادرة خير ولعلها من نوع الرأفة بالحيوانات فقال أحدهم للبلدية: اسقيه.

كانت شفتاي مشققتين من الضرب، وحلقي جافاً من العطش، والصراخ واللهاث وحالي بالغة السوء، فناولني (البلدية) سطلاً من البلاستيك فيه ماء قذر وسخ قائلاً: تفضل.. فاندفعت أشرب منه بضع جرعات ولم أعده إليه بل ناولته لنبيل فشرب وسقى شخصاً آخر أو شخصين. ثم أخذوا الماء ولم يسقوا الباقين، وكنا بلا طعام ولا شراب منذ أربع عشرة ساعة تقريباً. كانت كلمة (تفضل) ترن في سمعي وصوت واجف يقولها وكأنه يقول: اشرب يا أخي فداك روحي.

أربع ساعات من القهر والعذاب والتحطيم لا يعلم ما قاسينا فيها إلا الله والذي عاشها من نزلاء تدمر، وكل معتقل يأتي تدمر لابد أن يطبق له الاستقبال اللعين فتطحنه رحى العذاب ويذوق الموت في ذلك الدولاب، وينظر بوحشية بني البشر التي فاقت وحشية وحوش الغاب سوءاً وضراوة وغدراً.

أربع ساعات مرت والموت يحوم فيها فوقنا تصك آذاننا أصوات غريبة رهيبة، كرابيج تعوي وتصفع الأقدام والرؤوس والظهور بلطمات هائلات يلقي صوتها الرعب والهلع في قلب أشجع الشجعان.

وساقونا بعد ذلك في صف طويل متموج واحداً واحداً ونحن منكسو الرؤوس محنيو الظهور، وهم يضربوننا بالكرابيج. أدخلونا بعد سين وجيم مهجعاً طويلاً فاندفعنا فيه إلى أقصى مكان نتزاحم على الحائط أو الزوايا البعيدة بعد أن وضعنا الجرحى جانباً، وأغلق الباب وسمعنا صوت قفله وتنفسنا الصعداء وثبنا إلى أنفسنا وأخذنا نجول بأبصارنا في أجسامنا وفي جنبات المكان. وتعالت تنهدات وآهات وتوجعات وتكلم البعض، وإذا بصراخ مخيف يأتي من جهة الباب:

- ولك يا حقيرين يا....... بدون صوت ولك يا........ بلا صوت والله لندبحكن ونشرب دمكن يا....... بلا صوت..

وانكفأنا مبتعدين خائفين، وخمد الكلام في الأفواه وصبرنا وقتاً أطول واجمين هلعين. نظرت فيمن حولي.. كان كل فرد في حالة رهيبة من الألم والتعب والإرهاق، وإذا بأحدهم يضم آخر ويبكي بكاء مراً فانهمرت من عيني الدموع، وأمسكت بمن كان قربي ونظرت في وجهه، كان وجهاً دامياً باكياً فناديته هامساً:

- يا أخي..

كان ذاهلاً فأخذته وضممته إلى صدري. إنها الرحمة التي أودعها الله في قلوب عباده..

وناجيت ربي قائلاً :

- يا رب إن كانت عواطف الخير والرحمة قد عدمت وجفّت ينابيعها في قلوب الناس، فها هي قلوبنا تملأ الدنيا بحب الخير والشوق إليه وإلى عدالتك.. يا رب السماء وإلى رحمتك يا إله العالمين، وإن غفلت عنا الدنيا ولم يعرف بأمرنا الناس ولم يرحمنا البشر فأنت يا رب بحالنا عليم، ورحمتك أوسع لنا يا أرحم الراحمين.

 

التعليمات.. أو خطبة المساعد

 

لم نلبث إلا قليلاً حتى جاؤوا.. سمعنا صوت المفتاح في قفل الباب، فاندفعنا إلى أقصى المكان نحتمي ببعضنا بعضاً وقد أخذ الخوف مأخذه منا، وفتح الباب واندفع الجلادون إلينا يصرخون بحقد وجنون وانهالوا علينا ضرباً رهيباً بالكرابيج حتى كلّت أيديهم وحتى علا الصراخ واشتدّ الكرب وجاء صوت رفيع يأمر قائلاً:

- يكفي شرطة ثم تابع: الجميع واقفاً.

فوقف كل من له رجلان فالخوف فوق الألم، وكنا ندير وجوهنا إلى الحائط وظهورنا إليهم، وجاء الأمر: وراء در، وأمر آخر لم نطعه لغرابته: فتح عاينك، تطلع لهون، ولكن مع تكرار الأمر فتحنا عيوننا ونظرنا فإذا بضعة عشر جلاداً باللباس العسكري والقبعات الحمراء والكرابيج في أيديهم وكان المتكلم يلبس بدلة عسكرية مكوية وعلى رأسه القبعة الحمراء أيضاً وعلى عضده نجمات ثلاث، وتكلم بصوت مدو فقال:

- انتو جيتو لهون باجريكن ما حدا جابكن يا حقراء يا... بتعرفوا وين هون؟ ما بتعرفوا.. هون سجن عسكري، يعني نظام عسكري يعني بدنا نفطركم قتل، ونغديكم قتل، ونعشيكم قتل، مسموح لنا نقتل (20) منكم (كان هذا فعلاً على أقل تقدير كما تبين لنا فيما بعد) يا حقراء.. يا.. ممنوع الكلام الصوت ممنوع، الكلام مع الشرطة ممنوع، تفتيح الأعين ممنوع، السهر ممنوع، بدكن تستلموا الحكم ما هيك استلموا البطانيات يا حقراء، لولا سباط الحزب (يعني حذاء الحزب) ما شبعتوا الخبز.

- ثم أعطى بعد ذلك تعليمات معينة مؤادها أن نرفع رؤوسنا ووجوهنا إلى السقف وأن نغمض أعيننا ونقف باستعداد كلما فتح باب المهجع، وفي حضرة الشرطة والرقباء. ووضعوا لنا رئيس مهجع من العسكريين المعتقلين معنا. فإذا سمع صوت المفتاح في القفل فإنه يصرخ: انتبه.. وعندها يسارع كل واحد إلى مكانه بأقصى سرعة ويقف بحالة انتباه ويعطي رئيس المهجع إيعاز: استاعد.. فيستعد الجميع، فيقدم رئيس المهجع الصف قائلاً: المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب، ويكون الجميع بوضعية الاستعداد والوجه مرفوع للسقف والأعين مغمضة.

أنهى المساعد خطبته والتفت إلى ما حوله فأيده الجلادون بكرابيجهم وزمجرتهم وسبابهم ثم خرجوا.. كنا في موقف لا نحسد عليه، ولم يكن لنا إلا خيار الانفلاق على حسب رأيه ولكني كنت أفكر: هل مات الضمير؟ هل فقد العقل وتحطم المنطق؟ هل انعدمت القيم كل القيم؟ ولم يبق شيء.

بعد مضي حوالي الساعتين تقريباً، عاد إلينا الجلادون أيضاً وصرخ أحدهم بصوت مرعب: ولك حقراء.. وأخذوا يسبون ويشتمون.

وسارعنا نطبق تعليمات رئيس الجلادين، وذلك بأن سارعنا إلى أماكننا ووقفنا باستعداد، ورفعنا رؤوسنا إلى الأعلى وأغمضنا أعيننا!! وسلمنا أمرنا لمن بيده الأمر.

وقدم أحد المعتقلين وهو الذي سموه (رئيس المهجع) الصف قائلاً: استارح.. استاعد المهجع جاهز للتفتيش حضرة الرقيب.. وهكذا بدأت في حياتنا تلك الجملة المكررة الرهيبة حين دخول الجلادين وحين خروجهم، ورافقت هذه الجملة بعد ذلك طوال مدة وجودنا في سجن تدمر الرهيب تتكرر في الصباح والمساء، والضحى والظهر والعصر والليل والنهار.. وما أن نسمعها من بعيد حتى يسيطر علينا الخوف ويهيمن الرعب والفزع، فننطلق ضارعين متوسلين مستغيثين..

كان معنى هذه اللازمة أن جلادي سجن الموت قد جاؤوا أو قل جاء الشر والقهر والعذاب في صور غير معلومة.

ثم ما لبث أن اندفع الجلادون إلى الداخل كالوحوش الضارية يصرخون ويشتمون ويأمروننا بفتح أيدينا للضرب، ويضربوننا عليها بالكرابيج بقسوة، مع الأمر بتغميض العيون. وتعالى الصراخ من الجلادين بالنهر والسباب والزجر، ومن المعذبين بالشكاية. وكان الجلادون خلال ذلك لا يرحمون مريضاً أو طريحاً لا يستطيع القيام بل يضربونه بالكرباج بقوة وقسوة ويأمرونه بالقيام مع السباب فإذا رأوه بين الموت والحياة زادوا عليه ضرباً وركلاً وأظهروا التشفي ويصرخون:

- موت يا حقير.. الله لا يرحمك.... فطوس يا كلب..

ووقع بعض المعذبين على الأرض فلم يتركوهم بل اندفعوا يضربونهم ويرفسونهم ويأمرونهم بالقيام.

وقرع الباب.. قرعة الرقيب حامل المفاتيح، واستدعى الجلادين، فخرجوا وهم يشتمون ويكفرون ويسبون الله ومحمداً والدين والإسلام والمسلمين، وقبل أن يخرجوا عادوا وكأنهم تذكروا شيئاً فطلبوا رئيس المهجع وأمروه بالوقوف باستعداد رافع الرأس مغمض العينين، فوقف أمامهم كذلك، فاندفع إليه العسكري الجاهل الحاقد فصفعه على وجهه بقسوة ولكمه في بطنه، وانقضّ الجلاد الآخر عليه بالكرباج يضربه بقسوة حتى ألقوه أرضاً، حدث ذلك في وقت قصير، حيث أنهم اندفعوا يضربونه بسرعة وقسوة وهم يصرخون ويزمجرون وتركوه ملقى على الأرض وخرجوا فرحين هازئين. وكان هذا الشاب مثقفاً يحمل شهادة عالية في الأدب الإنكليزي، وهو أيضاً ضابط مجند في الجيش، أديب كريم ذو رجولة وأخلاق، ولكن ماذا أقول؟ إنما هي محنة وبلاء من الله يمتحن به هذه الأمة. كان هناك طعام قد أدخل ولكن لم يلتفت إليه أحد.

*كاتب سوري في المنفى


أعلى الصفحةالسابق

 

الرئيسة

اطبع الصفحة

اتصل بنا

ابحث في الموقع

أضف موقعنا لمفضلتك

ـ

ـ

من حق الزائر الكريم أن ينقل وأن ينشر كل ما يعجبه من موقعنا . معزواً إلينا ، أو غير معزو .ـ