وثائق
وقضايا
تـعذيـب
النسـاء في السـجون السـورية - 13
فـرع
التحقيق العسـكري
إعداد
الدكتور خالد الاحمد*
الشعب
كله متهم في سوريا ، رجاله
ونساؤه ، أطفاله وشيوخه ، كلهم
متهمون ، يجب أن يسحقوا ، وأن
تملأ بهم السجون والمعتقلات ،
ويذبحوا ويتسلى بهم الساديون ،
أزلام النظام الأسـدي ، الذين
نفخ فيهم أسـد الحقـد الطائفـي
، وسـخرهم لذبـح المواطنين
رجالاً ونسـاء ، من جميع
الفـئات ، والأعمـار والأجناس
...
قدم
لنـا الأخ محمد سليم حمـاد (
يحفظه الله ، وجعل ذلك في صفحات
أعماله الصالحة يوم القيامة ) ،
قدم لنا كتاب ( تدمر ، شاهد
ومشهود ) بين فيها صفحة من صفحات
التعذيب الذي
صبـه أزلام النظام الأسدي
على رجال سوريا الأحرار ، على
خيرة أبناء الشعب السوري .
وتـذكر
لنا هذه المـرة ( هبـة الدبـاغ )
يحفظها الله في كتابها ( خمس
دقائق فقط : تسع سنوات في سجون
الأسد ) ، هبـة الدباغ ، الوحيدة
التي بقيت من أسرتها الحموية ،
التي أبادوها بكاملها في عام
(1982) ، ونجت هي لأنها في السجن ،
وشقيقها ( صفوان ) لأنه خارج
سوريا .... وقتل أزلام الأسد
حوالي ( عشرة ) من أفراد أسرتها ،
من الأب إلى الأم ، إلى الأطفال
الصغار ، والبنات الصغيرات ، في
مجزرة حماة الكبرى (1982) التي
عجـز المغول والتتار
والصليبيون والفرنسيون على أن
يفعلوا مثلها ... فلنسمع ماتقوله
هبـة الدبـاغ ( واسأل الله أن
يجعله في صحائف أعمالها يوم
القيامة ) ... فقد قدمت وثائق
نادرة وحقيقية ضـد نظام القتلة
الأسـدي ...
تقـول
هبـة الدبـاغ :
ســجن
التحقيـق العسـكرى
كانت
سيارة المخابرات المدنية التي
أقلتني تنهب الأرض نهباً فيما
كانت رجلي ترتجف من شدة اضطرابي
فتصعد وتنزل بشكل لا إرادي حتى
اضطررت أن أثبتها بيدي الإثنتين
فلا تفضحني ! كنت أحس السيارة
تقفز بنا قفزاً فوق باقي
السيارات من سرعتها ، ورأسي
يرتطم بالسقف مع كل انعطافة
منها أو لفتة ويعود فيرتج بين
كتفي . . فيما تطلق سيارة
المرافقة الأمامية أضواءها
الباهرة وبوقها المرعب فتنفر
السيارات والناس من حولنا
مذعورين ، وتكمل سيارة الحماية
الخلفية المشهد فتزمجر بمحركها
لتزيد الناس إرهاباً وخوفاً . .
وحينما مر موكبنا على "جديدة
عرطوز" حيث المكان المخصص
لإعدامات العسكريين قلت لنفسي :
- إذاً هم آخذينني إلى الإعدام .
لكننا تجاوزنا وقد أطبقت ظلمة
الليل علينا حتى وصلنا فرع
التحقيق العسكري بالـمزة
فاستقبلتنا الأبواب مفتوحة
بالإنتظار ، وسرعان ما ولجت
السيارات الثلاث داخل الأسوار
الشاهقة فلم تعد لي من وقتها صلة
بالعالم في الخارج .
توقفت
السيارة أمام باب المبنى وتقدم
المقدم مني فعصب لي عيني وكبل
يدي إلى الخلف وأنا لا أزال
مكاني، فقلت له : لكنني حتى
أثناء التحقيق الأصلي لم أطمش
ولم أكلبش . فقال وهو يجذبني من
كتفي : القوانين هنا غيرها هناك .
ووجدته يصعدني على درج طويل ثم
لم يلبث أن أنزلني ثانية وعاد
يصعد بي وذلك حتى أفقد القدرة
على معرفة المكان أو تمييز
الإتجاهات . . وبعد رحلة من
الصعود والهبوط زادت من توتري
وإجهادي وأنا لم أتناول شيئاً
بعد الإفطار أدخلني في ممر طويل
وأدارني باتجاه الجدار وقال لي
انتظري ، وبعد خمس دقائق فتح
الباب الذي يليني وسمعت صوتاً
يقول : أدخلها.
فدخلت لا أكاد أدري إلى أين
، ويد المقدم تقودني إلى كرسي
أجلسني عليه فجلست ، ومن طرف
العصابة التي انزلقت عن عيني
بعض الشيء استطعت أن ألمح ظل
طاولة أمامي وهيئة رجل ما يجلس
خلفها ويسألنى : - ماذا ترين
أمامك ؟ قلت له : لاشيء . كان
محدثي هو العقيد كمال يوسف رئيس
الفرع ، وكان أشد ما يخاف على
نفسه ربما لأنه مسيحي لا تحميه
طائفته كأكثر الضباط الآخرين ،
فكان يشدد على أن لا يعرف صورته
أحد . . ووجدته يلتفت على عنصر
معنا ويسأله : - وأين ذاك الآخر ؟
فأجابه من غير أن أدري عمن كانا
يتحدثان : إنه تحت في المنفردة 24
سيدي .. لكن الرعب تملك قلبي من
جديد ، وقلت لنفسي إنه أخي إذاً
وقع بأيديهم وكانوا يحققون معه
للتو . وعاد العقيد فسأل : - وكيف
وضعيته ؟ أجاب الآخر : جالس على
الأرض ومكلبش من يديه ورجليه
للوراء ومطمش سيدي . فلما أحس
أنني تلقيت الرسالة المطلوبة
وأصابني الرعب التفت إلي يقول : -
إي يا ست هبة . . شوفي . . إذا بدك
تحكي معنا الصدق فهناك أمل أن
نخرجك ، وإذا بدك تكذبي فلا مجال
أن تخرجي أبداً . قلت له : بكون
أحسن. قال ببرود : وليش بكون أحسن
؟
قلت
: لأن أي شيء ستسألنى عنه ليست
لدي أي معلومة عنه ، فأنا في
السجن منذ خمس سنوات ، وعلى علمك
أن السجين لا تدخل إليه أخبار
ولا تخرج عنه أخبار . . وأنا حتى
التلفزيون لا أراه . قال : ولا
تعاشري أحداً من السجينات ؟ قلت
له :لا . قال : ليش ؟هل أنت شيء
مختلف عنهم ! قلت له : لا لكن الله
أعطى لكل إنسان طبيعة وأنا لا
أحب أن أتكلم مع أحد . قال : ولا
حتى مع القضائيات ؟ قلت له :
أصلًا أنا القضائيات لا أتكلم
معهن . قال :ليش غير خلقة !
قلت
له : لا ، لكن أنا طبعي هكذا لا
أحب أن أتكلم حتى مع رفيقاتي
اللاتي معي في المهجع .
فقال
لي : لا . . بدك تقولي لي من هو بيت
سرك . قلت : ليس لدي بيت للسر ولا
أحتاجه . ثم ما هو هذا السر الذي
سأخبؤه هنا وهناك . فقال لي : لا
لك . . لا تظني أنني لا أعرف شيئاً
عن السجينات . . صحيح وضعناكم في
سجن مدني لكن أنا أعرف كل شيء
عنكم . قلت له : إذا من هو بيت سري
يا شاطر إذا بتعرف؟ فقال لي :
ماجدة . فلما ذكر اسمها تذكرت
للتو كيف كان ابن خالتي يتضايق
منها عندما يأتي في زيارته
السمجه لأنها كانت تقف قريباً
مني وتشجعني على صده ورده
وتجيبه أحياناً بنفسها وتسأل أن
يدعني وشأني. فيتضايق جداً ، ومن
أجل هذا نقل لهم أنها بيت سري ،
ومن هنا عرفت أنه ذهب وفسد علي . .
فلما تلمحت ذلك في ذهني قلت
للمقدم : -هذه لا بيت سري ولا شيء
. . فقط مجرد واحدة جالسة بجانبي .
لا
أتكلم معها أكثر من البعيدة عني
خاصة وأنها كانت زميلتي في
الجامعة؟ ثم ما هو السر الذي
تتوقع أن أخبئه عنك ؟ فقال لي :
لا أعرف وأنت التي ستقولين لي .
قلت له : أنا ما عندي سر وإذا بدك
رجعني إلى السجن فأنا أحب إلى
قلبي أن أجلس في السجن طول عمري
ولا تتهمني تهمة ليس لها و جود .
فقال لي : طيب أنت من يأتي
لزيارتك ؟ قلت له : تأتي ابنة عمي
- وكانوا يعلمون أنها تدرس الطب
بدمشق وتأتي لزيارتي أحياناً -
وأحياناً في السنة مرة تأتي
عمتي أو عمي. فسألنى : فقط . . لا
أحد آخر؟ قلت :لا. قال لي ساخراً :
وهذا حسني . . ألم يحضر لزيارتك ؟
ولأن اللعبة لم تكن قد اتضحت لي
تماماً ولم أتبين نواياهم وقتها
والدور الذي يؤديه كل منهم فقد
أشفقت أن أذكر اسمه في زيارته
الوحيدة لي فأضره ، لكنه لما
ذكره أمامي قلت له : - أظن أنني
نسيته لأنها المرة الوحيدة التي
زارني فيها . فقال لي : طيب
سأعطيك ورقة لتكتبي فيها من
يأتي ليزورك بدون كذب . قلت له ؟
أنا لا أكذب .إن شاء الله . فأشار
إلى عنصر منهم وقال له: خذها إلى
الغرفة الثانية . وهناك أعطاني
العنصر ورقة وقلماً قبل أن يرفع
الغطاء عن عيني ويمضي . وبعد عشر
دقائق كتبت خلالها نفس الكلام
الذي قلته عاد العنصر ثانية
فعصب لي عيني ثانية وقادني إلى
المقدم الذي سألنى : - خلاص ما
عندك أي شيء آخرتقولينه ؟
قلت له : لا.
فقال له : خذها إلى المنفردة
. ووجدت العنصر يجذبني من جديد
وينزل بي الدرج مطمشة ومكلبشة
إلى الطابق الأرضي ، وهناك عاد
فأخرجني من المبنى وأركبني
السيارة وجعلوا يلفون بي حول
المبنى قبل أن يعيدونني إلى
الباب نفسه وينزل بي إلى القبو
هذه المرة بأربعين درجة !
ليـلة
عيــد . . وقـبرســعيد !
كان
الدرج حجرياً متآكلاً من كثرة
ما تعاقبت عليه الأرجل متقعراً
من شدة ما وطأته الأقدام !
وعندما بلغنا أسفله أدخلوني أول
الأمر على غرفة الإستعلامات ،
وهناك أخذوا مني الساعة التي
جاوز الوقت فيها منتصف الليل
والمشط والنقود التي كانت معي
ووضعوهم في ظرف كتبوا عليه اسمي
والتهمة "إخوان مسلمين " . .
بعدها أدخلني غرفة مكتب صغيرة
وأجلسني على كرسي فيها وهم
بالذهاب ، فقلت له : - ممكن أن
أرفع الطماشة الآن ؟ قال : لا .
قلت له : لكنني عندما أضعها أصاب
بضيق شديد في التنفس . قال : وما
دخل الطماشة بنفسك ؟ قلت :ولو . .
حالة نفسية . فلم يجبني وذهب . .
وبعد قليل دخل عنصر آخر فسألته
السؤال نفسه وقلت له السبب فقال
لي : -بإمكانك أن تلحلحيها
قليلاً إذا أحسست بضيق النفس
فعلاً . كانت الساعة قد جاوزت
الواحدة ليلاً ، لكنني ورغم
الإرهاق والتعب الشديدين فإن
النوم جفاني ، وأعادني السهاد
إلى أحاسيس أول أيام اعتقالي
قبل خمس سنوات ، والتوتر
والتوجس والخوف من المجهول عادت
فبسطت أرديتها الكئيبة على قلبي
الآن من جديد فأثقلته . كنت
أحسهم أمام الغرفة يروحون
ويغدون وهم يحيون ليلة العيد
على طريقتهم مثلما أحيوا ليلة
رأس السنة وقتذاك ، وأصداء
ضحكاتهم الفاجرة
وكلماتهم البذيئة تطرق أذني
طوال الوقت . وكان السؤال لا يكف
عن الدوران على محيط رأسي :
لماذا أحضروني وحدي وبعد كل هذه
السنوات . . ولماذا لم يسألوني عن
أي شيء جاد إلى الآن . . وماذا
ينوون أن يفعلوا بي . . فلما طلع
الصباح وبدأ يوم جديد من الحياة
طلبت أن أذهب إلى الحمام
فأخذوني إلى مرفق يستعمله
العناصر أنفسهم ، لكنني وجدت
بابه مرتفعاً عن الأرض بمقدار
شبر وهم يجلسون أمامه ، فخفت ولم
أحس بالإرتياح وقلت له : - لم أعد
أريد . وعدت إلى الكرسي نفسه
وبقيت على نفس الحال إلى وقت
العصر دون أن يعيرني أحد
انتباهاً أو يسألنى سؤالًا أو
حتى يتذكرني بوجبة طعام . فلما
كان العصر أتاني أحد العناصر
وأخذني عبر الممرات المتعرجة
إلى المنفردة التي خصصوها لي ،
وفي الطريق إلى هناك وجدت
مجموعة من السجناء أخرجوهم من
المهجع بملابس خفيفة وقام عليهم
طبيب وأظنه كان سجيناً أيضاً
كان يفحص لهم دمهم ، ولا أدري ما
الذي كان منتشراً فيهم من مرض أو
فقر دم ، لكنهم وما أن دنوت منهم
حتى انفجرت صيحة السجان فيهم : -
وجهك إلى الجدار . . وفرقع
الكرباج في نفس اللحظة التي
التصقت فيها وجوههم بالجدار دون
أن أقدر على استيعاب ما حدث . .
وعندما وصلنا المنفردة وفتح
السجان بابها الثقيل سألته : - هل
سأبقى هنا ؟ قال وعلى ناظريه
ترتسم ملامح السخرية : - نعم . .
هذه أحسن منفردة وأعلى درجات
المنفردات . . إحمدي ربك أنك هنا !
قلت : ماذا ! أجابني : نعم . . هذه
المنفردات جديدة كلها لم يجلس
فيها أحد من قبل [ ويجب أن نعرف
أن بناء الزنزانات المنفردة
إنجـاز أسـدي لم تشهده سوريا من
قبل ] . .
فاحمدي ربك وأدخلي. ورمى لي
ببطانيتين رثتين ثم أغلق علي
الباب الحديدي الثقيل ومضى . .
وما أن فعل حتى أحسست نفسي أنني
اختنقت . . متر ونصف بمتر ونصف من
الأرض وحسب . . الجدران سميكه
جداً . . والسقف منخفض إلى درجة
أنني كنت أستطيع لمسه . . وفي
وسطه فتحة للتهوية لكنها كانت
عاطلة عندي وليس هناك أي فتحة
غيرها أو شباك . . وبين الباب
والجدار الذي يليه توجد طاقة
عميقة في آخرها لمبة ضعيفة
الضوء بيني وبينها طبقتان من
الشبك فلا تكاد تنير إلا نفسها !
فلما أغلق الباب أحسست أنه
قبرني وذهب . . وشعرت أنني على
بوابة الموت بالفعل . . ولم أعد
أستطيع جذب النفس . . كانت لحظة
صعبة جداً لم أستطع تحملها ، ولم
أعد أستطيع استيعاب ما يجري . .
أو لماذا يفعلون بي كل هذا ! ومن
تعبي ورعبي كأنما ارتخت أعصابي
وخارت قوتي فما شعرت بنفسي إلا
وباب المنفردة مفتوحاً والدنيا
ظلام جدا والعنصر واقف على
الباب يلكزني بعصا يمسكها بطرف
يده ويقول : - قومي . . قومي. فلما
استجمعت نفسي وحاولت استرجاع
الأحداث أدركت أن الليل قد حل
وقد حضر وقت الخروج إلى الخط . .
وقدرت أنني كأنما أغمي علي ،
لكنني وعندما استيقظت ووجدته
أمامي أحسست كأنه عزرائيل . . ولم
أعد أستطيع حتى أن أدرك حقيقة
شعوري : هل أنا متضايقة . . زعلانة
. . خائفة ؟ كله مع بعض ! لم أعد
أحس لا بالزمان ولا بالمكان فلم
تكن معي ساعة ولم أعد أعرف الليل
من النهار . . فلما ناداني نهضت
وأعصابي على أشد ما تكون توتراً
. . فلم أكن أعرف ما الذي يجري هنا
، ولا طبيعة هؤلاء العناصر . .
وتبعته إلى الحمام حيث اقتادني
فوجدته كبيراً جداً . . ووسخاً
إلى أبعد الحدود ، لكنني تمالكت
نفسي وغسلت وجهي وعدت . . فوجدته
أحضر لي طعاماً رددته بلا شهية ،
فلم تكن لي نفس وقتذاك لتناول أي
شيء ، فأدخلني ثانية وأقفل علي .
. فلم أكد أبلغ الأرض وأنا أتلمس
موضعي كالعميان حتى انطلق عنين
صاخب خلف الجدار عن يمين
زنزانتي جعل بدني ينتفض
كالملسوع ، لكنني سرعان ما
أدركت أنه صوت جهاز التكييف
المركزي الذي لم يلبث أن توقف
بعد خمس دقائق كما بدأ فعم
السكون المكان من جديد ، ثم عاد
فانطلق بعنينه الهادر مرة أخرى
فكأنما هو وحش سجين يشتكي عنت
السجن مثلي ، وبقي الهدير على
هذه الدورة المتناوبة يطرق أذني
تارة بعد أخرى فكأنه في كل دورة
له يخرز فيهما خرزا . . حتى بت لا
أكاد أسمع إلا الطنين ، ووجدتني
بذلك ومع عتمة الزنزانة وكأنما
فقدت الحواس ، فعدت إلى ما يشبه
الإغماء ، ولم أصح إلا صباح
اليوم التالي على تكبيرات العيد
!
تكـبيرات
العــيد من زنـزانـة ريـاض
التـرك!
كانت
التكبيرات تنطلق من جهاز راديو
جلس جاري في الزنزانة المقابلة
الزعيم الشيوعي المعارض رياض
الترك يستمع إليه ضمن بعض
الإستثناء ات التي نالها في
منفردته التي أمضى فيها أكثر من
عشر سنين ! كان الممر الذي تقع
فيه زنزانتي يضم أربع منفردات
كل اثنتين منهما تقابلان
الإثنتين الأ خريين ، فكانت
زنزا نتي الأ ولى من اليسار ،
ومجاورتي التي تليها فارغة ،
وفي مقابلها كانت زنزانة رياض
الترك ، بينما كانت الزنزانة
التي في مقابل زنزانتي فارغة في
البداية ثم أتوا بعدها بشاب
وضعوه فيها ، ولم أره إلا مرة
واحدة عندما كان باب زنزانتي
مفتوحاً للتنفس وأتوا بقصعة
الطعام له فمد رأسه ليأخذه ، ولم
أعلم أي شيء عنه إلا أنه كان
يطلب الخروج للوضوء . وأما رياض
الترك فكانت له بعض الميزات عن
السجناء الآخرين ، فبين حين
وآخر كانت تأتيه زيارات من
الخارج ، كما سمحوا له بإحضار
الراديو ، وبطهي بعض الطعام
لنفسه ، وكثيراً ما كان العناصر
يجلسون عنده ليطبخ لهم أو
يأخذونه ليجلي لهم الصحون ! وبعد
مدة جعل رياض الترك كلما طبخ
طبخة سكب لي لقيمات منها ، لكنني
لم أكن آكلها وأعيدها مع العنصر
إليه . كذلك كان يرسل لي محارم
وشايا وأشياء مشابهة . وفي إحدى
المرات التي كان باب زنزانتي
فيها مفتوحاً رأيته وكأنما طلب
من العنصر أن يراني فأذن له ،
فذهب وعاد مرتين من أمامي
استطعت خلالها أن ألمحه لمحاً
لكنه لم يقل أي شيء . . ولأنه كان
صباح العيد فقد انطلقت
التكبيرات من الراديو فصحوت
عليها . . لكن البشريات التي
يحملها العيد للناس انقلبت
حسرات في قلبي وضيقاً وكآبة ،
ووجدتني أنخرط في البكاء دون
إرادة مني . . الناس في الخارج
تعيش بهجة العيد وكل هؤلاء
الذين في السجن لا يحسون للعيد
وجوداً ولا معنى . . ولا يعرفون
حتى الليل من النهار وما هي إلا
برهة حتى فتح الباب علي ووجدت
عنصرا اخر قصير القامة طويل
الشاربين لا يبعث شكله على
الإرتياح ابتدرني بالسؤال : -أنت
ما اسمك ؟ قلت له : لماذا ؟ قال :
أريد أن أعرف لأن واحدة كانت هنا
تشبهك كثيراً . . ربما هي أنت ! هل
سبق لك وأتيت إلى هنا ؟ قلت له :
لا . وكانت رفيقتي ابتسام التي
أحضروها إلى قطنا قبل شهور
قليلة قد مرت على هذا السجن من
قبل فرجحت أنه يقصدها ، ولما
سألته عن اسمها تأكد ذلك ،
فسألنى من جديد : - وما اسمك أنت ؟
قلت له وقد أحسست أنه يريد أن
يتسلى بي وحسب : - وماذا يلزمك
اسمي ؟ إذا أردت فاذهب وانظر
إليه عندكم . فلم يلبث وأن غاب
قليلًا ثم عاد ففتح الباب ثانية
لأجد أمامي المقدم عمر مدير
السجن الذي أحضرني وحوله عناصر
بيد أحدهم طبق فيه برغل ، أدناه
من الأرض فدفعه المقدم برجله
نحوي وهو يقول لي : -وقفي على
حيلك . قلت له :لا أستطيع . . فقال :
ما اسمك ؟ أجبته : ألم تأخذه
بالأمس ؟ قال : جاوبيني . . ما
أوقحك . وجعل يشتمني ويصيح في ،
فتملكني الغضب وصحت فيه : - هل لي
أن أعرف لماذا وضعتموني هنا.
قال : بكره بتعرفي من نفسك.
قلت له :لكنني لم أفعل شيئاً.
قال ببرود : إن لم تفعلي شيئا
غداً يخرجوك.
قلت له راجية : قل لي فقط ما
هي تهمتي . . وإلى متى سأبقى هنا .
. كنت أحس أنني سأجن فعلًا إذا
بقيت هنا . . وجاء جوابه ليعمق في
هذا الشعور . . فقال وهو يغلق
الباب علي :ألا تعرفي حالك أنك
مجرمة . ومضى ليكمل جولة التعييد
على بقية السجناء في الوقت الذي
أحسست أنني على حافة الإنهيار
تماماً ، ولم أجد من سلوى إلا أن
أنفجر بالبكاء في عتمة هذا
القبر الكئيب ، وأتجه إلى الله
بقلبي أتطلع إلى فرجه الكريم .
ولم تمض دقائق إلا والباب يطرق
من جديد . . وأطل على عنصر آخر
يقول لي هامسا : لا تخافي يا أختي
فأنا مثل أخيك . . قولي لي . . كم
تريدينني أن أفتح لك الباب ؟
قلت وأنا لا أكاد أصدق : لو
كان اختياري لقلت طول الوقت . .
فأنا على هذه الحالة لا أستطيع
أن أتنفس ، والمكيف الذي يعن
طوال اليوم بجانب رأسي لا يصلني
من هوائه شيء . فقال لي : كرمال
عينك راح أفتح لك الباب طول
الليل ، لكن لو سألك أي أحد لا
تقولي من فتحه . ثم أعطاني ليرة
معدنية وقال لي : خذي هذه الليرة
، وإذا احتجت أي شيء وقت دفعتي
فلا تدقي إلا دقة واحدة بها على
الباب أكون موجوداً
بعدها عندك ومضى هذا السجان
الذي سأدعوه هنا (س) وترك باب
الزنزا نة مفتوحاً علي ، فكأنما
هي طاقة فتحت بين رحمة الله
وبيني ، وصار "س " يطل علي
في كل نوباته فيفتح لي الباب
ويسألنى عن احتياجاتي ، ولم
يلبث أن جعل يحضر لي زجاجات حليب
يوزعونها على العناصر فيضعها
عند طرف الباب ويذهب ، فصرت لا
أطلب شيئاً من أحد غيره أبداً ،
وعندما يحين وقت نوبته أدق
الدقة كما قال لي فيأتي وأخبره
إن كنت أريد الحمام أو الطعام . .
ولما أحسست بالفعل أنه آدمي
وأمين رجوته مرة أن يحضر لي
مشطاً وقصاصة أظافر ، فسألنى : -ألا
يوجد معك مشط ؟ قلت له :أخذوه مني
. فقال لي قدمي كتاباً للمقدم .
فلما قدمت الكتاب وجدتهم يحضرون
لي مشطاً آخر كأنه من قذارته قد
تمشط به كل المساجين قبلي . .
ولكثرة الوسخ المحشو بين أسنانه
لم أتمكن من تنظيفه بأي وسيلة . .
فلما تقدمت بطلب آخر أتاني
الجواب بالمنع ، لكن حوالي عشرة
أيام كانت قد مضت علي وقتذاك
وأنا لا أستطيع في هذا المكان
الإغتسال أو حتى تمشيط شعري
المغطى طوال الليل والنهار تحت
الحجاب حتى خشيت أن أصاب بالقمل
بالفعل ، فوجدتني أتجرأ وأسأل
"س " عن الإغتسال وأرجوه أن
يحضر لي مشطاً وقصاصة أظافر معه
، فتأسف لي في البداية واعتذر
بأن ذلك الطلب ممنوع ، لكنه ذهب
بعدها وأحضر لي على مسؤوليته
مشطاً رجالياً صغيراً من عند
رياض الترك وقراضة الأظافر التي
طلبت ، وأحضر لي صابونة أيضاً
وشحاطة بلاستيك . . وحوالي
الثانية ليلاً وجدته يطرق علي
الباب ويسألنى أن أتبعه إلى
الحمام التي كانت في منتصف ممر
طويل يحتوي كله على زنزانات
ومهاجع متتالية ، فأحست وهو
يأخذني والسكون يغمر المكان
بالرهبة والرعب ، فلما بلغنا
الحمام وجدت على بابه عنصراً
آخر اسمه ياسين أمره "س " أن
يجلس على الباب فيغلقه من
الخارج ولا يترك أي إنسان يدخل
إليه . ولما دخلت الباب الحديدي
وجدت مجموعة مغاسل وتواليتات
تليها مقاسم لثلاثة حمامات لها
أبواب ولكنها مرفوعة عن الأرض
أيضاً . . فلما دخلت أحسست بقلبي
أن هذا العنصر سيتبعني فلم أخلع
ثيابي ، ولم ألبث وأن سمعت حسيس
خطوات تتقدم نحوي ، فلما نظرت
أسفل الباب رأيت حذاءه بالفعل ،
ففتحت بسرعة وجريت خارج المكان
كله إلى الممر وهو يناديني : -
أين . . إلى أين ؟ قلت له وأنا
أصيح : - أريد رئيس السجن حالاً . .
ماذا تفعل أنت هنا يا قليل الأدب
. . فجعل يجري ورائي ويناديني
لأرجع ويقول : - تعالي . . أنت الآن
تخالفين نظام السجن . . قلت له
وأنا أرفع صوتي أكثر وأتجه نحو
زنزانتي : أحضر لي مدير السجن
حتى لا أخالف النظام فيه .
وكأنما سمع "س " الصوت فحضر
يسأل ماذا حدث ، فلما أخبرته صاح
فيه بغضب : - بدل أن تحرسها كما
قلت لك عملت هذا العمل يا حقير . .
واتجه إلي يعتذر ويقول : -
إمسحيها بذقني هذه المرة يا
أختي وعودي فتحممي . . وأعادني من
جديد فدخلت وأقفلت الباب من
الداخل وبقيت قرابة الساعة لا
أجرؤ أن أخلع ثيابي ، حتى إذا
أحسست بالإطمئنان وتأكد لي أن
لا أحد هناك فتحت الماء علي ،
فلما انتهيت وخرجت وجدت ياسين
هذا مكانه على الكرسي ، ورأيته
ينظر إلي من جديد ويقول بكل
وقاحة : - ألا تريدين رؤية هذا
الوجه الحلو بالمرآة . . إذا أردت
أنا معي واحد ة . أجبته باحتقار:
الله لا يعطيك العافية. ولم يكن
أمامي إلا أن أعود إلى منفردتي
تتعاقب علي الأيام من غير أن
أدري سبباً لوجودي هناك أو
نهاية لحالي . وبعد حوالي عشرة
أيام من وصولي وفي ظهيرة يوم
اشتد فيه الحر في القبو وازدحمت
الأ نفاس وأطبقت علينا رائحة
العفونة مختلطة بالعرق
وبالأنفاس حضر المقدم عمر
فناداني ووضع الطماشة على عيني
ثانية وكلبشني إلى الوراء وجعل
يقودني بين المتاهات هناك
فأحسست أنه خنقني ، فلما سألته
أن يمنحني فرصة أتنفس فيها من
غير هذه العصابة لأنني أكاد
أختنق بالفعل قال لي : -حتى لو مت
بحق فلن أرفعها لك . . هكذا يقول
النظام ! ثم أخذني إلى رئيس
الفرع كمال يوسف مرة ثانية
معصوبة ومكبلة ، لكن ذاك لم يزد
عن أن سألنى : -هل لديك شيء
تقولينه ؟ قلت باستغراب : لا . .
لماذا . فقال له من غيرأن يأبه
لسؤالي : خذها . . وأعادوني إلى
المنفردة كما جئت لأكمل فيها
عشرين يوماً لا أرى فيها الشمس
ولا القمر . . ولا أعرف الليل من
النهار ولا الصباح من المساء
إلا من تبدل الحرس ومن صوت إذاعة
لندن التي تبلغنى من زنزانة
رياض الترك عصر كل يوم !
عســرويــسر.
.
وتظل
رحمة الله أكبر وأوسع ، فما هي
أيام حتى أرسل سبحانه إلي
مجنداً آخر في النوبة الثانية
يؤدي خدمته العسكرية ، صار
يعاملني بشكل جيد أيضاً ويحضر
لي أشياء خاصة ويسمح لي بالخروج
إلى الحمام مرات أكثر لأغسل
وأشرب . . وعندما أخبرته أن
التكييف في زنزانتي لا يعمل ذهب
وأصلحه حتى اشتغل آخر الأمر ،
وكان عندما أخرج إلى الحمام في
نوبته يأتي بسجين آخر ليمسح لي
المنفردة وينظفها وينفض لي
البطانيات ويرتب الزنزانة لي
قدر المستطاع . لكن هذه النماذج
كانت الإستثناء في هذا المكان
الظالم أهله ، وكان سوء الخلق
وانعدام المروءة والكرامة
والأدب هو الأصل الأصيل . .
فالعناصر دائماً يحملون عصياً
أو خيزرانات أو كابلات ، وكان
المقدم عمر يحمل كلبشات وطماشات
باستمرار ، لكنني لم أكن أسمع
أصوات تعذيب هناك لأن غرفة
التحقيق كانت كما يبدو بعيدة .
وفي إحدى المرات جاءني عنصر من
هؤلاء ببقايا صندويتشة فلافل
أكل أكثرها وأبقى الجزء الأخير
لي . . فجاء يقول لي : - ألست جائعة
؟ قلت : لا . . لكن وقبل أن تسألني
هذا السؤال أريد أن أسألك أنا
إلى متى سأبقى أنا جالسة هنا؟
قال : والله لا أعرف . . هذه ليست
شغلتنا . قلت له : طيب . . حسبي
الله . لكنه بدل أن ينصرف تقدم
فجلس القرفصاء أمامي وهو يرتدي
جلابية بيضاء رقيقة تكشف مظهره
المقرف وقال لي : - هل تحبين أن
تخرجي إذا أراد أحد أن يخرجك ؟
قلت له : لا . قال : عجيب . . لم
أرأحداً يحب قعدة السجن غيرك .
قلت له : الحمدلله . قال : لكن
والله أنا مستغرب . . لماذا
أحضروك إلى هنا بعد خمس سنوات من
اعتقالك . . ألم تعرفي السبب ؟
قلت له : لا ،لم أعرف ، هكذا كتب
الله . فقال لي : طيب إذا أخرجوك
الآن . . أنت والله مثل أختي وأنا
أعيش لوحدي عسكري . . وأنت تعرفي
حياة العسكري . . مستأجر غرفتين
بالمهاجرين ، أعطيك غرفة لك
وأنام أنا في الغرفة الأخرى .
قلت له أنتهره وقد بدا لي أنه
يتمادى : وما هي المناسبة؟ قال :
حسبما دريت أنه لا أحد لك . قلت
له : ومن قال لك ؟ قال : أهلك
قتلوا بأحداث حماة . قلت له :
وإذا لم يكن للواحد أهل أما له
الله ؟ أنا لي الله . . فقال لي
وكأنما التأم مني لأني لا
أسايره : يعني ما بتحبي تطلعي .
قلت له : لا . فخرج وأغلق باب
المنفردة علي وجعل يلعب بزر
الضوء الذي ينير الكوة في
زنزانتي حتى أحرقه ، فأحسست أن
في نيته أن يطفئ الضوء علي ليدخل
في العتمة . ووقتها كانوا قد
أعطوني وجبة الطعام في طبق من
بلاستيك ميلامين ثقيل الوزن ،
فأفرغت الطعام منه وحملته بيدي
وصحت : -من هناك . فلم يرد . . وما
وجدته إلا وهو يفتح باب
المنفردة ببطء ويحاول الإنسلال
للداخل . . فطبقته بوجهه بقوة
وصحت له : - والله العظيم إذا لم
تترك الباب فسأجمع عليك العناصر
الموجودة . قال بخبث : ولماذا ؟
أنا أريد أن أدخل وأصلح لك الضوء
. قلت له : وما الذي أدراك أن
الضوء عندي احترق ؟ بقيت تلعب به
حتى حرقته يا سفيه ! وصرت أنادي
على "س " وظللت أصيح وأصرخ
وأطرق بالصحن الذي بيدي على
الباب حتى حضر وعدد آخر من
العناصر يسألونني ماذا حدث . .
قلت : - هذا الحقير ظل يلعب
بالضوء حتى حرقه وقال يريد أن
يدخل بعدها في العتمة ليرى ما
حدث . فأخذوه عني وهم لا يكتمون
شتائمهم له ، لكنهم ذهبوا في نفس
الوقت إلى الزنزا نة المقابلة
وأخذوا اللمبة منها فركبوها لي
، وتركوا ذاك السجين المسكين
هناك في الظلام !
وســاطـة
فـاشــلة
وفي
نفس ذلك اليوم كانوا قد أخرجوا
كل بطانيات الفرع ليعقمونها لا
أدري أين ثم أعادوها إلى الممر
ليوزعونها على السجناء من جديد
، فجاءني أحد العناصر المناوبة
وقال لي : - سأخرجك الآن لتختاري
البطانيات التي تريدينها . وبعد
أن أخذتها وعدت لحق بي وناداني :
-أريد أن أقول لك شيئاً . . إن شاء
الله ستخرجي قريباً لأنهم لا
يأتون بأحد هنا إلا إذا كان على
وشك الخروج ، وأنت حسبما علمت
أتتك واسطة وسيفرجون عنك . قلت
له :إن شاء الله . قال : لكن لا
تقولي لأحد لأنهم إذا دروا أنني
أخبرتك والله بيخربوا بيتى . قلت
له : الله يجزيك الخير . فلما
انصرف وانتهت نوبته وحل الصباح
حضر عنصر آخر كبير الشاربين
جاحظ العينين قصير القامة اعتدت
مشاهدته بين حين وآخر بين بقية
العناصر فأنفر من مرآه ، ووجدته
ومن غير استئذان ولا إعلام يفتح
الباب علي ويسألني : - لماذا
تبكين ؟ قلت وقد أربكتني
المفاجأة : - ماذا ؟ أنا لا أبكي .
. ثم كيف تفتح علي الباب من غيرأن
تعطيني خبراً بذلك ! قال : كنت
ماراً من هنا فأردت أن أرى إن
كان أحد قد ضايقك ! أجبت : لا
شكراً ، ولو سمحت أغلق الباب
فأنا لا أريد رؤية أحد . فقال وهو
يدنو مني خطوة بعد خطوة : - لا
والله أنا حابب أطمئن عليك . .
والله أنا قلبي مشغول عليك . .
كنت جالسة وقتها في زاوية
الزنزانة متكومة على نفسي ،
فلما أحسست بنيته العاطلة نهضت
بسرعة أريد أن أقفل الباب ، لكنه
أمسك بيدي يريد أن يتمادى ،
فاستجمعت نفسي ودفعته وأطبقت
الباب في وجهه وأنا أصيح : - إذا
لم تخرج فسأجمع عليك أهل السجن
جميعاً . . فانصرف لبرهة لم تكن
كافية حتى لالتقاط أنفاسي ، ولم
يلبث أن عاد يقول لي : - هيا جهزي
نفسك والبسي . . هذا آخر يوم لك
هنا . . سيفرجون اليوم عنك . فجمعت
ما لدي من أغراض وكنت بطبيعة
الحال لا أملك إلا الملابس التي
علي ، ولما خطوت خارج الزنزانة
لم أجده إلا خلفي بين الجدار
وبيني يحاول أن يحيط رأسي
بذراعيه ، فانتفضت برعب وغضب
ودفعته عني بقوة وركضت إلى
الأمام وأنا أشتمه وأحقره وهو
لا يبالي يقول لي ببلاهة : -
والله كنت حابب أشرب معاك كاسة
شاي . . والله لهلقا سخنة إذا
بتحبي . فلما دنونا من أحد الأ
بواب دفعني إلى الداخل ومضى ،
وهناك وجدت عنصراً آخر برتبة
مساعد اسمه جلال أجلسني وقال لي
: - هناك واسطة أتتك من التحقيق
العسكري للإفراج عنك لكن فرع
أمن الدولة الذي اعتقلك مانع . .
ولذلك فسوف نعيدك الآن إلى قطنا.
ومن غير أن أجيب بكلمة واحدة
نادى عنصراً آخر أعادنى إلى
الغرفة الأولى التي وضعوني فيها
أول ما وصلت القبو . . وبقيت هناك
من الظهر إلى قرابة العاشرة أو
الحادية عشرة ليلاً ، أخرجوني
آخر الأمر فسلموني أماناتي
وأركبوني السيارة إلى قطنا . .
والذي يبدو أنهم كانوا ينوون
الإفراج عني بالفعل ضمن مخططهم
، فلما أحسوا أنه سيفشل ألغوا
الفكرة وأعادوني من حيث أتيت.
*كاتب
سوري في المنفى
|