انشقاق
خدام وتصدع النظام
نبيل
شبيب*
عبد الحليم خدّام
شاهد على نفسه فيما أدلى به من
مواقف من منفاه الاختياري في
فرنسا، قبل أن يكون شاهدا على
سواه.
وردود الفعل
العنيفة والسريعة داخل سوريا،
لاسيّما من جانب أعضاء المجلس
النيابي السوري غداة نشر أقواله
في فضائية العربية، شاهدة على
الواقع الداخلي في سوريا قبل أن
تكون شاهدة على ما وصفته
بالخيانة العظمى من جانب النائب
السابق للرئيس السوري.
الركن الأوّل في
تصدّع النظام
لم يكن توقيت
مطالبة لجنة التحقيق الدولية في
اغتيال الحريري بمساءلة الرئيس
السوري بشار الأسد ووزير
الخارجية فاروق الشرع مستغربا،
في أعقاب ما صدر عن عبد الحليم
خدام من أقوال ضدّ نظام الحكم
السوري.
فخدّام لم يكن
بيدقا من البيادق كالشهود الذين
استعان بهم ميليس في تقريره
الحافل بالإدانات للنظام
السوري، دون أن يكون في صياغة
التقرير ومضمونه ما يمكن أن
يقنع بنزاهة تحقيقٍ فعلي على
مستوى دولي في جريمة كبرى من
مستوى اغتيال الحريري.
ولئن لم يكن
باستطاعة أركان الحكم القائم في
سوريا أن يتجاوزوا تصريحات
خدّام بأسلوب مماثل لِما كان في
تعاملهم مع الشاهديْن
الرئيسيين في تقرير ميليس، فإن
الطريقة التي اتّبعت على عجل في
جمع مجلس الشعب في جلسة
استثنائية ودفع أعضائه إلى
الإدلاء بكلماتهم المكتوبة
ليلا، بمضامين متشابهة في
الحملة على الرفيق المنشقّ، لا
تدلّ على حنكة سياسية، أو حتى
حنكة إعلامية، بقدر ما تكشف عن
أنّ مجلس الشعب نفسه موضع سؤال
وجواب، مثله مثل ما كان عليه وضع
خدّام من قبل إزاحته مع أنصاره
خلال آخر مؤتمرات حزب البعث في
سوريا.
خدّام كان ركنا
أساسيا من أركان الحكم السوري
طوال عهد الرئيس السابق حافظ
الأسد، وركنا أساسيا في عملية
نقل السلطة إلى الرئيس بشار عبر
قانون صادر بتوقيعه بتعديل
دستوري يذكّر بأسلوبِ عقد مجلس
الشعب لتمريره آنذاك أسلوبُ عقد
الجلسة الطارئة لإدانة خدّام
الآن بالخيانة العظمى، كما بقي
خدام لعدّة سنوات أحد أركان
الحكم السوري في عهد بشار الأسد.
الحدث أعمق مغزى
وأبعد مدى من قابلية تمريره كما
كان مثلا عند الإعلان عن انتحار
رئيس الوزراء السوري الأسبق
محمود الزعبي قبل سنوات عام 2000،
والإعلان عن انتحار وزير
الداخلية السابق كنعان قبل
أسابيع عام 2005.
وفي مقدّمة ما يكشف
عنه انشقاق خدام –حسب وصف
فضائية العربية لموقفه-
وبالتالي ما يمكن أن ينبني عليه
داخليا من تطوّرات:
1- انكشاف واقع
تركيبة الحكم السوري نفسه،
وكلمة انكشاف لا تعني ظهور أمر
مجهول قدر ما تعني هنا استحالة
التغطية عليه بأساليب التمويه
السابقة، فأعضاء المجلس
النيابي لم يطّلعوا بين ليلة
وضحاها على معلومات جديدة كشفوا
عنها، بل كانوا يعلمون كلّ ما
ورد على ألسنتهم عن خدّام، طوال
سنوات وسنوات ماضية، ولم يدلوا
به علنا إلاّ بعد أن وجّه خدّام
سهامه للنظام.
فما الذي يعلمونه
ويسكتون عنه إذن عن أركان أخرى
ما زالت موجودة في نظام الحكم
القائم، ولا يبدو أنّهم على
استعداد للحديث عنها إلاّ في
وضع مشابه لما كان مع خدّام؟..
2- انكشاف شعار
مكافحة الفساد المرفوع منذ
سنوات.. فإذا صحّ أنّ خدام كان
أحد أقطاب الفساد، بدليل ما كان
يتسلّط عليه مع بعض أفراد
أسرته، مثل أبنائه والشركات
التي يملكونها، فهل يمكن
استثناء أمثاله ممّن لا يزال
موجودا في الطبقة العليا من
السلطة، ويُعتمد عليه اعتمادا
رئيسيا، ويملك مع بعض أفراد
أسرته شبيه ما تسلّط خدّام
عليه، قبل أن يصبح من المغضوب
عليهم؟..
3- لقد انتقل خدّام
من موقع إلى موقع في الأجهزة
الرسمية، منذ أن كان محافظا
لمدينة حماة وهو في الثلاثين من
عمره إلى أن شغل منصب نائب
الرئيس الابن بعد الرئيس الأب
وقد بلغ 73 عاما من عمره.
وكان من أركان
الفساد وأركان التسلّط وأركان
قهر اللبنانيين أثناء مسؤوليته
عن الملفّ اللبناني حتى عام 1998،
فكيف يمكن الاطمئنان إلى نظام
الحكم القائم، وعلى أركان لا
يزال يرتبط بعضهم ببعضهم الآخر،
مثلما كانوا يرتبطون بخدّام
ويرتبط بهم من قبل؟..
إنّ أهمّ المؤشرات
المستقبلية لانشقاق خدّام
وأسلوب التعامل مع الحدث، هو
مؤشّر حتميّة الانهيار الذاتي
داخليا بعد أن تأخّر صانع
القرار السوري تأخرا لا يُغتفر
عن تنفيذ الإصلاح السياسي
الداخلي الموعود، وبعد أن تحوّل
واقعه علنا من صراع على الإصلاح
مع حرس قديم كما كان يتردّد، إلى
صراع داخلي بين أركان حرس
النظام القائم، بغضّ النظر عن
قديمهم وجديدهم.
اتّهامات أم
اعترافات؟
لقد كان معظم ما تمّ
الإيحاء به قبل المؤتمر الأخير
لحزب البعث في سوريا عام 2005 هو
أنّ العقبة الرئيسية أمام
الإصلاح الداخلي السياسي
الحقيقي تتركّز على بقايا الحرس
القديم، حتى إذا أعلن خدّام
وعدد من المرتبطين به
الاستقالة، إثر إخفاقهم في
استمالة غالبية أعضاء المؤتمر
لصالحهم، بدا أنّ العقبة
الرئيسية قد زالت.
والواقع أنّ الذي
زال هو آخر الذرائع أو أهمّ
الذرائع التي كانت تموّه على
عدم وجود برنامج حقيقي -ناهيك عن
إرادة سياسية صادقة- للإصلاح
السياسي، سواء كان على مراحل
متتابعة يظهر ما يراد أن تصل
إليه في النهاية، أو على أساس
تحوّل حقيقي جذري وفوري لا يوجد
قطعا ما يمنع من الإقدام عليه لو
توفّرت الإرادة السياسية له.
والردّ على
الاتهامات بالاتهامات أسلوبٌ
معروف، ربّما يصلح جزئيا عندما
يكون تبادلها بين طرفين منفصلين
عن بعضهما بعضا، أمّا في حالة
خدّام ومن يردّ عليه، فالأسلوب
ينقلب إلى ما يمثّل الردّ على
اعترافات باعترافات.
والحصيلة تشمل
الجميع دون استثناء، فالجميع
يكوّنون جهازا واحدا مسؤولا عن
سائر ما شهدته سوريا على مدى
أربعين عاما، فلا يمكن مثلا فصل
قضية التعامل مع لبنان عن الوضع
الداخلي.
ويشهد على ذلك أنّ
خدّام الذي حمل المسؤولية عن
ملفّ لبنان سلّم المسؤولية
واقعيا للرئيس السوري بشار
الأسد قبل استلامه منصب
الرئاسة، وأنّ وزير الداخلية
غازي كنعان الذي أُعلن عن
انتحاره في إطار معمعة التحقيق
في اغتيال الحريري، كان من قبل
مسؤولا عن المخابرات السورية في
لبنان، عندما كان الملفّ في يد
خدّام ثمّ في يد الأسد الابن على
السواء.
كما أنّ الفساد
بكلّ جوانبه لم يكن مقيّدا
بالحدود اللبنانية السورية، بل
بات لصيقا بالسلطة من رأس الهرم
إلى القاعدة، حيثما كان للسلطة
سيطرة جغرافية وأمنية وسياسية.
إنّ التعامل مع
لبنان بسائر ما انطوى عليه سلبا
عبر إعطاء قوّة المخابرات
والترهيب الأولويّة تجاه
الاعتبارات السياسية، وإيجابا
عبر الحيلولة دون انسياق لبنان
في طريق الهرولة نحو ما يُسمّى
"التطبيع"، جميع ذلك كان
جزءا لا ينفصل عمّا يقرّره جهاز
السلطة في دمشق، بمشاركة خدّام
في سائر المواقع التي شغلها،
فما يعترف به الأخير ويحاول أن
يلقي بمسؤوليّته على سواه يُكمل
ما يعترف به الآخرون من خلال
إلقاء المسؤولية عنه على خدّام.
أعباء جديدة على
المعارضة
إلى وقت قريب كان
يُرجى أن يستدرك صانع القرار في
دمشق –أيا كان الاسم الذي يحمله-
ما فات ويستفيد من فرصة وقوف
معظم أطياف المعارضة وقفة
مشتركة في مواجهة الأخطار
الخارجية، مع الاستعداد للصفح
عما مضى، فيخرج بنفسه من
المصيدة التي وضع نفسه فيها،
داخليا ودوليا.
ولكنه لم يصنع ذلك،
وإنّما بقي مستمرّا على سياسة
الهروب إلى الأمام دوليا،
وسياسة ادّعاء الرغبة في
الإصلاح دون ممارسته داخليا،
غافلا عن المتغيّرات الدولية
والداخلية في وقت واحد.
إنّ الزلزال
السياسي الذي صنعه انشقاق
خدّام، لا يتمثّل في خيانة عظمى
لسوريا البلد والدولة، إنّما
تمثّل هذه الأقوال "خيانة
عظمى" للنظام على وجه التخصيص.
والإدانة بمثل هذا
الاتّهام من اختصاص القضاء
المستقل النزيه فقط، ويمكن أن
يجد القضاء في ماضي خدّام، أي في
ماضي أحد الأركان الأساسية
للنظام الحاكم، أضعاف ما يمكن
استخلاصه من أقواله الموجّهة
فجأة إلى رفاق دربه الآخرين من
أركان النظام المشترك.
وكون هذه الأقوال
"خيانة عظمى" للنظام هو ما
يجعلها ذروةً مبدئية أولى من
زلزال سياسي يصيب النظام
ويصدّعه تصديعا.
ولا يعطي ردّ الفعل
المتسرّع على الحدث ما يشير إلى
استيعاب ذلك، لإنقاذ ما يمكن
إنقاذه بالفعل، إنّما يؤكّد
الأسلوب المتّبع أنّ التصدّع
بات محتّما، قد يظهر للعيان جزء
فوري منه عبر حملة تطهير ذاتي
تتناول البقية الباقية من
الركائز التي كان خدّام يعتمد
عليها أو يتفق معها.
وقد يتزامن مع تلك
الحملة المرجّحة أو يليها مزيد
من "الانشقاقات"، فليس من
المستبعد أن يظهر من يسير على
هذا الطريق ممّن أُوصدت الأبواب
الخارجية في وجوههم دوليا
وإقليميا، وأوصدوا بأنفسهم
الأبواب الداخلية أمام القوى
الشعبية والوطنية وهي الركيزة
الوحيدة التي لا غنى عنها في
مواجهة أخطار خارجية.
فما صنعه خدّام لا
يعدو شكلا من أشكال تأمين نفسه
ماليا، ومحاولة تأمين نفسه
سياسيا بالانقلاب على رفاق
دربه، فلا يُستبعد تقليدُه بعد
أن كسر الحاجز النفسيّ وقضى على
عنصر الثقة بين أركان النظام
أنفسهم، وهم يرون واحدا منهم قد
انفصل عن السرب مع الاستعداد
للتضحية بهم، لا بالشعب والدولة
فحسب.
وليس في سائر ما سبق
ما يمكن وصفه بأنّه كسب للقوى
المخلصة في مختلف أطياف
المعارضة السورية في الداخل
والخارج، فتصدّع النظام على
النحو الذي بدأ ظهوره في حالة
خدّام، لا يكاد يخرج عمّا تعنيه
مقولة "عليّ وعلى أعدائي".
والخسارة الأكبر
ليست أمام الخطر الخارجي،
فالعدوان بمختلف أشكاله هو
الخاسر في نهاية المطاف، إنّما
هي الخسارة أمام الإرادة
الشعبية لمواجهة العدوان
الخارجي والاستبداد الداخلي في
وقت واحد.
ومن لا يدرك هذه
المعادلة ويضع نفسه في المكان
الصحيح في الوقت المناسب، يساهم
من حيث يدري أو لا يدري في أن
يكون الثمن فادحا، ناهيك عن
الإسهام في تصعيد معاناة الشعب
في سوريا عموما، وتلك جريمة
يُسأل عنها من يتردّد عن
التحرّك في الطريق الصحيح.
وإذا كان من عُرفوا
بالتلاقي على إعلان دمشق مع
المنضمّين إليه، قد أصبحوا
محورا رئيسيا للوجهة المطلوبة
على طريق الإصلاح، فلا بدّ في
الوقت الحاضر بالذات من
الانتقال من التنظير إلى
المبادرات العملية، ومن العمل
على توثيق الأرضية المشتركة
والتلاقي على الضمانات
والآليات المطلوبة لمرحلة
انتقالية محتّمة بين الوضع
الراهن ووضع مستقبلي مستقرّ،
مهما تعدّدت وجهات النظر بشأن
ملامحه النهائية.
وقد تضاعفت أعباء
مواجهة العدوان الخارجي
والاستبداد الداخلي في وقت
واحد، وباتت تفرض بإلحاح البعد
عن المواقف الانفرادية والحرص
على المشترك، بما يجمع على منهج
التغيير وإن تباينت مناهج ما
بعد التغيير.
فتعدّد المنطلقات
معروف للجميع، وكان الالتقاء
على إعلان دمشق انطلاقا من
وجودها لا تجاهلها، ومن
الاعتراف المتبادل بحقّ كل طرف
أن يتبنّى ما يراه، والاستعداد
المشترك للاحتكام إلى إرادة
الشعب عندما تأتي مرحلة قادمة
تشهد تجاورَ مناهج متعدّدة،
قابلة لتشكيل ائتلافات
تنفيذية، وقابلة لوجود جهة أو
جهات حاكمة وأخرى معارضة، مع
قابلية التداول على السلطة،
وبالتالي قابلة للتنافس النزيه
على كسب تأييد نسبة أكبر من
أصوات الشعب، صاحب السيادة
الحقيقية في أرضه.
ويبقى اعتقادنا
الجازم أنّ الشعب سيختار
بغالبيّته الكبرى المرجعية
الإسلامية، القادرة على
استيعاب الجميع، وضمان حقوق
الجميع.
*كاتب سوري
المصدر:
الجزيرة 03 / 01 / 2006
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|