أول
ضوء في نهاية نفق مظلم
بثينة
شعبان
بعد ثلاث سنوات من
الحظر الذي فرضه الرئيس بوش على
الصحفية الأمريكية من أصل عربي،
هيلين توماس، وفي أول مناسبة
سمح لها بتوجيه سؤال في مؤتمره
الصحفي، انبرت أشهر صحفيي
وصحفيات البيت الأبيض لتوجّه
للرئيس بوش سؤالاً يسبب له أكبر
إرباك شهده في مؤتمراته الصحفية
كلّها. وقبل أن تسأل السؤال
حذرته أنه سيندم، ولكن الرئيس
بوش أثنى عليها آملاً، ربما،
أنها سوف تبتلع سؤالها، كما
يبتلع قادة كثيرون آراءهم
الحقيقية أمامه، وسمح لها بأن
تسأل فسألت: «قرارك غزو العراق
سبّب موت آلاف الأمريكيين
والعراقيين، وأصبح واضحاً أنّ
كلّ سببٍ أعلنته لغزو العراق لم
يكن صحيحاً.. سؤالي هو: ما هو
السبب الحقيقي لشنّ الحرب؟».
وفي معرض تهربه من
الإجابة قاطعته هيلين ثلاث
مرات، فحين اعتبر غزو العراق
جزءاً من حماية الشعب الأمريكي،
قاطعته قائلة «لم يفعل
العراقيون أي شيء ضد وطننا».
وحين تهرّب ثانيةً من الإجابة،
سألته هيلين ثانيةً «لماذا
أعلنت الحرب؟». وأعاد الثناء
على هيلين، وقال مازحاً إنه لم
يتأسف تماماً لرفع الحظر عن
هيلين والسماح لها بسؤاله، مع
أنه «تأسف جزئياً»، لكنّ الرئيس
بوش ربما لم يدرك أنّ سؤال هذه
الصحفية العريقة والجريئة،
والتي أصبح اسمها فخراً لمهنة
الصحافة الواعية والمسؤولة، هو
سؤال تسأله مئات الملايين من
البشر من استراليا والصين
واندونيسيا إلى أوروبا وأميركا
نفسها: ما هو السبب الحقيقي وراء
شنّ الرئيس بوش حرباً على
العراق بعد أن أصبح واضحاً
للملأ أن كلّ الذرائع لشنّ هذه
الحرب هي ذرائع وهمية لم تثبت
صحة أي منها، وانّ العراقيين
اليوم يعانون القتل الجماعي
والحرب الأهلية والخطف والدمار
والتعذيب وانعدام الأمن
والتفرقة الطائفية والتخلّف
الاقتصادي؟.. ولم يكن بوسع
الرئيس بوش أن يجيب عن سؤال
هيلين لأنّ الإجابة عن هذا
السؤال تتطلب بحثاً واعياً
ومتأنياً وموثقاً، وهو ما قام
به الباحثان جون ميرشيمار من
قسم العلوم السياسية من جامعة
شيكاغو وستيفن والت من جامعة
هارفارد بعنوان «اللوبي
الإسرائيلي والسياسة الخارجية
الأمريكية»، والذي نُشر في
الشهر الحالي، كما نشر ملخص عنه
في أسبوعية «لندن ر?يو إف بوكس»
23 مارس (آذار) الحالي، وهو متاح
على www.Irb.co.uk حيث يستعرض الباحثان كلّ
آفاق وأبعاد العلاقة
الاستثنائية بين أميركا
وإسرائيل والتي لا ينطبق عليها
قانون أمريكي، ويحرّكها ذراع
المؤسسات الصهيونية في أميركا؛
وعلى رأسها آيباك طبعا،
وبطريقةٍ تتعارض في الكثير من
الأحيان مع المصلحة الوطنية
الحيوية للولايات المتحدة
ذاتها!
تبدأ الدراسة
بالمعونات الهائلة التي تُقدّم
لإسرائيل 3 مليارات دولار
سنوياً وعدم تطبيق أي شرط من
شروط المعونات عليها، مما
يمكنها من استخدام المعونات
لبناء المستوطنات وتطوير
أسلحتها للدمار الشامل، وتنتقل
إلى استخدام أميركا حق الفيتو
ضد مصالح الشعب الفلسطيني
وحقوقه حيث استخدمت أميركا منذ
عام 1982 الفيتو 32 مرة ضدّ قرارات
ناقدة لإسرائيل بما فيها
ارتكابها مجازر وحشية، وهذا
العدد يفوق استخدام جميع أعضاء
مجلس الأمن الآخرين لحق ال?يتو
خلال الفترة ذاتها. وفي موضوع
الحرب على العراق تشير الدراسة
إلى أنّ «الحكومة الإسرائيلية
والمجموعات المؤيدة لإسرائيل
في أميركا عملت معاً لصياغة
سياسة الإدارة الأمريكية حيال
العراق وسورية وإيران وأيضاً
خطتها الضخمة لإعادة صياغة
الشرق الأوسط». ويضيف الباحثان
أنّ «الضغط من إسرائيل واللوبي
الإسرائيلي لم يكن العامل
الوحيد خلف القرار لمهاجمة
العراق في مارس 2003، ولكنه كان
عاملاً حاسماً. ولا يوجد أي دليل
يؤكد أنّ هذه الحرب كانت من أجل
النفط كما يعتقد بعض
الأمريكيين، بل إنّ الدافع
الأساسي للحرب هو الرغبة في جعل
إسرائيل أكثر أمناً».
وتمضي الدراسة
لتوضيح أنه في 16 آب 2002، أي قبل أن
يُطلق ديك تشيني حملته لشنّ
الحرب بأحد عشر يوماً نشرت «واشنطن
بوست» أنّ «إسرائيل تحث
المسؤولين الأمريكيين بألا
يؤخروا الضربة العسكرية ضدّ
عراق صدام حسين». وحسبما قال
شارون، فإنّ التعاون والتنسيق
بين إسرائيل وأميركا كانا قد
وصلا (آفاقاً غير مسبوقة) وكان
مسؤولو المخابرات الإسرائيلية
قد قدّموا لواشنطن تقارير مرعبة
حول برامج أسلحة الدمار الشامل
العراقية. وكما قال لاحقاً
جنرال إسرائيلي متقاعد: «كانت
المخابرات الإسرائيلية شريكاً
كاملاً للصورة التي قدمتها
المخابرات الأمريكية
والبريطانية عن القدرات
العراقية غير التقليدية». في
الوقت ذاته، نشر ايهود باراك
مقالاً افتتاحياً في «نيويورك
تايمز» قال فيه «إنّ الخطر
الأكبر يكمن في عدم التحرك نحو
العراق». كما نشر بنيامين
نتنياهو مقالاً في «وول ستريت
جورنال» بعنوان (قضية إزاحة
صدام) قال فيه «اليوم لا شيء أقل
من إزاحة نظامه سوف يفيد». وأضاف
«أعتقد أنني أتكلم باسم
الغالبية العظمى من
الإسرائيليين في دعم ضربة
وقائية ضدّ نظام صدام»، كما جاء
في جريدة «هآرتس» في فبراير (شباط)
2003 «أن القيادة العسكرية
والسياسية تتوق للحرب على
العراق». في الوقت ذاته كتب
الصحفي غيديون ليفي أنّ «إسرائيل
هي البلد الوحيد في الغرب الذي
يدعم قادته الحرب بدون أيّ
تحفّظ وحيث لم نسمع رأياً
مخالفاً لذلك». وفي الحقيقة «كان
الإسرائيليون يدقون طبول الحرب
بصخب وحماس بحيث نصحهم أصدقاؤهم
الأمريكيون بأن يضبطوا
تصريحاتهم كي لا يبدو الأمر
وكأنّ هذه الحرب تُشنّ لصالح
إسرائيل»، هذا ما يردده
الباحثان في جامعة هارفارد
وشيكاغو.
إنّ ما شهدناه حتى
اليوم من لغةٍ طائفية مدروسة
وتفجير للكنائس والجوامع
والأوابد التاريخية وقتلٍ
للعلماء والأطباء والمتميزين
وسرقة للمتاحف وآثار حضارة ما
بين النهرين يُثبت بدون أدنى شك
أنّ هوية العراق وتاريخه هما
الهدف كجزءٍ من تحويل هذه
المنطقة إلى كيانات عرقية
وطائفية وتجريد العرب من
أسلحتهم بحيث تبقى إسرائيل
القوة الوحيدة المهيمنة في
المنطقة. ولا يمكن فصل ما يجري
في فلسطين وما يُحاك ضدّ سورية
ولبنان عن هذا المخطط الذي يتخذ
عناوين الديمقراطية والحرية
لينفذ على الأرض خطف نساء
عراقيات وبيعهن. وفي أزمة
العراق، التهمت إسرائيل أخصب
أراضي الضفة الغربية وأغناها
وغور الأردن، وها هي تصريحات
أولمرت تُنذر برسم الحدود كما
تراها إسرائيل. كما بدأ
العنصريون الإسرائيليون بوضع
الملصقات ضدّ فلسطينيي 1948 وبدأت
استطلاعات الرأي تُري أنّ 68% من
الإسرائيليين لا يرغبون بالسكن
في بنايةٍ يقطنها العرب و48% من
الإسرائيليين يريدون لعرب
إسرائيل الرحيل. كما يتم تسريب
الأخبار بحفر نفق قرب حائط
البراق والتكتم على حفر أنفاق
تمهيداً لهدم المسجد الأقصى،
وها هم قادة إسرائيل يعلنون
القدس عاصمةً لهم ويعلنون ضمّ
الكتل الاستيطانية ويهجّرون
العرب، مسيحيين ومسلمين، من
القدس بينما ينشغل بعض العرب
بتطبيق قرارات «الشرعية
الدولية» في مقارعة حماس
ومحاولة نزع سلاح حزب الله،
الفصيلين اللذين يتشبثان بحق
العرب في مقاومة الاحتلال
واستعادة الحق العربي في الأرض
والحرية والكرامة.
إنّ دراسات أخرى
مكملة لهذه الدراسة مثل دراسة «الاختراق
النظيف، إستراتيجية جديدة
للسيطرة على المنطقة» المنشورة
عام 2000 تحدّد بعض أدواتها من
العرب المؤمنين (بإسرائيل
وسيطرة إسرائيل)، وتؤكد
الاستفادة منهم لخرق الصفوف
العربية وكسر الرؤية الموحدة
للصراع العربي ـ الإسرائيلي.
المدهش في الأمر
أنّ مثل هذه الدراسة التي قام
بها الأستاذان جون ميرشيمار
وستيفن والت لم تلق مساحات في
الإعلام العربي، ولم تثر الضجة
التي تستحق وكأنه لا يكفي أن
العرب لا يبحثون ولا يكتبون
بشكلٍ مؤيد لقضاياهم وبشكل مقنع
للآخرين، بل أصبحوا لا يجرأون
حتى على ذكر وترويج أبحاث
لأساتذة مرموقين تفضح المخطط
الصهيوني ضدّ العرب وتلوم الصمت
العربي. لقد بدأنا نقرأ أخيراً
في الإعلام العربي أن «أميركا
وإسرائيل تحذران حماس»، وكأنّ
العرب استكانوا بأنّ أميركا
وإسرائيل فريق واحد. وها هم
أساتذة أمريكيون يصرفون الوقت
والجهد، وربما يغامرون
بمواقعهم الجامعية، لينشروا
بحثاً كنا جميعاً نرى دلالاته
من دون أن نمتلك وثائقه ومؤشرات
تغيراته الحقيقية، ومع ذلك لم
يحتف الإعلام العربي بهما ولا
ببحثهما، وهذا مؤشر خطير يُضاف
إلى مؤشر ضعف المرجعية والرؤية
المدافعة عن الحق العربي وكثرة
السهام الموجّهة إليها من
الداخل والخارج بدعاوى حرية
واستقلال وديمقراطية، ولكن
هدفها الأساسي دقّ أسفين خطير
في قلب وحضارة وحقوق ومستقبل
هذه الأمة العريقة. هل يحق لنا
أن نطمح لأن يمتلك العرب الجرأة
لرفع صوتهم على الساحة الدولية
ضدّ الظلم الفادح الواقع عليهم
بعد أن يوحدوا الرؤية ويؤمنوا
بوحدة الهدف والمصير؟، وهو أن
يكونوا جزءاً فاعلاً في الأسرة
الإنسانية لإحقاق حقوقهم وكلّ
الحقوق ولنصرة كرامة العرب
والمسلمين كجزء لا يتجزأ من
نصرة الكرامة الإنسانية على
مستوى العالم؟ لقد بدأ الباحثون
ومحبو السلام في
الغرب برفع أصواتهم بجرأة ضد
الظلم الواقع على العرب في
العراق وفلسطين وضد السياسة
الأمريكية المنحازة تماماً
للمشروع الصهيوني ضد العرب، فهل
يمكن للعرب أن ينتصروا لأنفسهم
وأن ينفضوا غبار الخوف
والاستكانة، ويمسكوا بزمام
قضاياهم على أسس الشرعية
الدولية والعدل والكرامة.
الشرق الأوسط
27/03/2006
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|