الشمولية
تدمّر الوحدة الوطنية
علي
العبد الله*
مع كل انعطافة
سياسية أو مأزق وطني يثور
الحديث عن الوحدة الوطنية:
معناها، أسسها، تجلياتها، من
منطلق أهمية تحصين الوضع
الداخلي ومستدعيات هذا
التحصين، أدواته وآلياته. وقد
ثار هذا الحديث في سوريا مؤخرا
في ضوء الضغوط الأميركية على
النظام، ومتطلبات التحقيق
الدولي في اغتيال الشهيد رفيق
الحريري ومترتباته المحتملة.
فالنظام الذي يواجه مشكلات
محلية وإقليمية ودولية، يسعى
إلى التخلص من مفاعيلها من دون
تقديم كشف حساب لمواطنيه ومن
دون اعتراف بأخطاء ارتكبها أو
الاستعداد للدخول في حوار وطني
كمقدمه لإعادة نظر في بنيته
وسلوكه السياسي على طريق إصلاح
مسيرة خاطئة ومدمرة والتمهيد
للانتقال إلى نظام ديموقراطي.
لجأ النظام السوري
في مواجهة هذه الضغوط إلى
القيام بحملة دعائية مرتكزها
عملية مطابقة بين النظام
والدولة من جهة واعتبار الدولة
هي المستهدفة من وراء الضغوط
الأميركية من جهة ثانية لتبرير
زج البلاد في مواجهة مع المجتمع
الدولي. وراح، عبر إقامة ما
أسماه <<خيمة وطن>> في عدد
من ساحات العاصمة وتوزيع
الأعلام والصور في الشوارع وعلى
الشرفات والسيارات وتجميع
الأتباع والأنصار في الساحات
وأمام مكاتب الأمم المتحدة
والمفوضية الأوروبية وجمع
التواقيع على العرائض لرفعها
إلى الأمم المتحدة احتجاجاً على
الضغوط الأميركية، راح يعبئ
المواطنين ويشحن مشاعرهم
بإثارة مخاوفهم من القادم الذي
يستهدفهم ويستهدف وطنهم، في
مسعى واضح لتحقيق هدفين في آن
واحد: دفع المواطنين، تحت ضغط
الخوف، إلى الالتفاف حوله من
جهة والإيحاء للخارج بأن الشعب
يقف وراء النظام في ظل وحدة
وطنية متماسكة ومتينة من جهة
ثانية.
فهل تعيش سوريا في
ظل وحدة وطنية حقيقية، وهل من
طبيعة النظام الشمولي
الاستبدادي توليد وحدة وطنية؟
لم يقنع المشهد
المسرحي المواطنين لا بصدقية
النظام ولا بوجود وحدة وطنية بل
تحول إلى حافز لأسئلة من الوزن
الثقيل، أسئلة تتناول
المصداقية في ضوء الممارسة
العملية التي يتبعها النظام،
وطبيعة الوحدة الوطنية التي
يتغنى بها وصولا إلى شرعية
استمرار نظام شمولي في القرن
الحادي والعشرين.
فالنظام الشعبوي
الذي يحكم سوريا منذ أكثر من
أربعة عقود قفز إلى السلطة عن
طريق انقلاب عسكري وثبت نظامه
بالحديد والنار وكرس سلطته بفرض
حالة الطوارئ واعتماد سياسة
أساسها أمني. وأقام عشرات
المنظمات المؤسسات مثل: اتحاد
العمال، اتحاد الطلاب، الاتحاد
النسائي، اتحاد الفلاحين... الخ.
منظمات/ مؤسسات لا تسهم البتة في
تمثيل المجتمع في مواجهة السلطة
بل تستتبع المواطنين من خلال
عملية تأطيرهم. لقد أقام سلطة
حاكمة مكونة من تحالف غير مقدس
ضم السلطة والحزب والمنظمات
النقابية والشعبية في مواجهة
المواطنين لتقييد مشاركتهم في
تسيير شؤون البلاد وقدرتهم على
المطالبة بحقوقهم. ووضع دستوراً
وقوانين تتسق مع خياراته
السياسية والاقتصادية
والاجتماعية، وتقيد حركة
المجتمع وتحد من حريته في نقد
هذه الخيارات ورفضها وتغييرها.
وروج، في سجالاته حول الشرعية
ومدى مشروعية <<الشرعية
الثورية>> التي يبرر بها
وجوده وبقاءه، لشرعية الإنجاز.
من دون الاعتداد بآليات شرعية
الإنجاز التي تستدعي التدقيق في
هذا الإنجاز، بطرح أسئلة حول
صدقيته بالمقارنة مع الشروط
الموضوعية التي أفرزته وتقييم
حجمه ونوعيته في ضوء الوسائل
المتبعة والإمكانيات المستخدمة
والثمن الاقتصادي الاجتماعي
الذي دُفع لقاءه، أي تحديد
جدواه في ضوء الشروط والمحصلة
والثمن.
لقد أفرز هذا
السلوك القمعي الاستبدادي
مناخاً سياسياً اقتصادياً
اجتماعياً محطماً، فقد أدت
الممارسات القمعية التي سادت،
خاصة بعد المجابهة الدامية بين
السلطة و<<الطليعة المقاتلة>>
التي انشقت عن حركة الإخوان
المسلمين في الفترة من 1977 إلى 1981،
إلى إضعاف الحركات السياسية
المعارضة عبر الملاحقة والسجن
لفترات طويلة بعد محاكمات أمام
محاكم استثنائية غير دستورية،
وإنهاء كل ملامح الاستقلالية في
أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية
التي يقودها حزب السلطة، نشير
هنا إلى ضرورة التمييز بين حزب
السلطة كما هو حزب البعث، وسلطة
الحزب التي تجسدها التداولية
حيث تنبثق سلطة الحزب من
اختيارات المواطنين عبر
انتخابات حقيقية كما في الأنظمة
الديموقراطية، ناهيك عن العمل
المنهجي الذي قامت به الأجهزة
الأمنية لتفتيتها، والى تكريس
ثقافة الخوف في المجتمع عن طريق
إلحاق الأذى بالمواطنين
استناداً إلى وشايات المخبرين
والعملاء وتسليط عقاب جماعي على
الأسر التي يخرج منها معارض،
والتي ثقافة الخوف أفرزت خراباً
نفسياً وأخلاقياً وانهياراً
روحياً تجلى في استقالة المجتمع
عن لعب دور في الشأن العام،
وسيادة عقلية الخلاص الفردي،
حتى لو جاء على حساب الأهل
والأقارب والأبناء، بتداعياتها:
فساد أخلاقي (ممارسة المداهنة
والتزلف والوشاية والرشوة)
وإعلان الولاء الكاذب وتناقض
ظاهر الفرد وباطنه والذي ولّد
حالة انفصام شخصية.
كما قاد طول فرض
حالة الطوارئ والأحكام
العرفية، وما شهدته الحياة
اليومية من بطش مباشر وضغط نفسي
على المواطنين، ومن تركيز سياسي/
إعلامي على عقولهم بدءا من
الطفولة المبكرة (الطلائع،
الشبيبة، الحزب) والضخ السياسي
اليومي عبر آلة الإعلام الكبيرة
ومركزة الحياة الوطنية حول
الرئيس/ القائد، جرت عملية
تهميش منهجي لكل الشخصيات
الوطنية في التاريخ السوري
لصالح إبراز دور الرئيس حافظ
الأسد، وقهر اقتصادي عبر إقامة
تكتل من السلطة والحزب
والمنظمات الشعبية في إطار ما
يسمى الدولة الكوربوراتية،
لضبط إيقاع حياة المواطنين
الاقتصادية وجعل لقمة عيشهم بيد
قوى السلطة، كي تسيطر على ردود
أفعالهم، وهذا رتب تنميط ردّ
فعل المواطنين السياسي،
وأفقدهم حماستهم وتحفزهم
الوطني، بعد أن تلاشى الإحساس
بالارتباط المباشر والذاتي
والحر، وتآكل، لطول إخراج
المواطنين في مسيرات تنظمها
السلطة بصورة قسرية، الدافع
الذاتي الذي كان يدفعهم إلى
النزول إلى الشوارع عند كل حدث
وطني أو عربي، فقد خرجوا في حرب
السويس وحرب تحرير الجزائر،
بينما تجمّدت الآن مشاعرهم
الوطنية، حيث تمر صور القتل
الوحشي الذي تمارسه إسرائيل ضد
الفلسطينيين والولايات المتحدة
ضد العراقيين، بشكل يومي، ناهيك
عن تجمد عواطفهم خلال اجتياح
إسرائيل واحتلال بيروت عام 1982
والعدوان الأميركي على العراق
عام 1991، دون رد فعل شعبي يناسب
هذه الأحداث الجسام، وحتى زلزال
العراق واحتلاله عام 2003 لم
يستطع أن يخرجهم من حالة
الاستقالة والموت السياسي،
فأغلبية المواطنين غارقة في
الاغتراب، الذي انعكس بين أبناء
الطبقات العليا والوسطى بتطليق
الحياة العامة والانغماس في
حياة يومية هامشية، وبين أبناء
الطبقات الشعبية بممارسة العنف
الاجتماعي.
أما حال القوى
السياسية فحدث ولا حرج، فقد
تلاشت حركات بكاملها تحت الضغط
المباشر (الإخوان المسلمون
والقرار 49 الذي يحكم على من يثبت
انتسابه لحركة الإخوان
المسلمين بالإعدام. والحزب
الشيوعي السوري المكتب السياسي
وحزب العمل الشيوعي بزج معظم
كوادرهما في السجون لفترات
طويلة) بينما أخذت بقية الحركات
تطحن نفسها باجترار مقولاتها (الحركات
الناصرية)، وهذا أدى إلى فقدان
عوامل القوة التي كانت تمتلكها،
فتحولت إلى مزق وحلقات مغلقة
ومعزولة. سخر السيد فاروق الشرع
من المعارضة قائلا: << إنها لا
تستطيع إدارة مدرسة ابتدائية>>
دون أن ينتبه إلى أن ذلك الضعف
بعض بركات السلطة وثمرة قمعها
ووحشيتها، وأن هذا في التحليل
الأخير دليل ضعف السلطة ذاتها.
لقد تدمرت الحياة
السياسية وساد الصوت الواحد،
بإخراج السياسة من المجتمع، بعد
ضرب كل تعبيراته المستقلة، ما
أفقد الحياة الوطنية توازنها
وحوّل الوطنية السورية إلى حالة
هلامية مبهمة.
ومع غياب القانون
والمراقبة البرلمانية
والمحاسبة القضائية بسبب تغول
السلطة التنفيذية على السلطتين
التشريعية والقضائية حصلت
عملية نهب منظم للمال العام،
بطرق وأساليب عديدة، وأفسح في
المجال لممارسة عملية ابتزاز
المواطنين من قبل أجهزة الأمن،
في إطار مكافأة أو رشوة هذه
الأجهزة على دورها في قمع
المواطنين، وموظفي الدولة: شرطة
السير، الشرطة البلدية، موظفي
المالية والضرائب... الخ. في إطار
عملية تتخلص بها السلطة من
تبعات تدني رواتب العاملين في
مؤسساتها وإلقاء عبء حل تبعات
ضعف رواتبهم في مؤسسات الدولة
على عاتق المواطنين الذين
يعانون بالأساس من تدني قدرتهم
الشرائية، ما رتب حالة تعميم
الفساد والإفساد بين المواطنين
وخلق تشققات في النسيج
الاجتماعي.
وهذا إلى جانب
انهيار قواعد النظام الاقتصادي
بفعل سيطرة عدد محدود من أبناء
المسؤولين وأقاربهم على الدورة
الاقتصادية حيث لم يبق لصغار
المستثمرين والتجار دور في
الحياة الاقتصادية في البلاد،
قاد إلى إفقار قطاعات واسعة من
المجتمع لم تعد تملك القدرة على
تلبية مستلزمات حياة عادية
بسيطة، فانقسم المجتمع إلى
أغلبية فقيرة وأقلية تلعب
بالملايين، وهذا أدى إلى تشويه
الهرم الاجتماعي حيث أصبح،
بتآكل الطبقة الوسطى التي
انخفضت من 65% إلى 35%، ضيقاً في
الوسط عريضاً جدا في القاعدة.
كما أدى الظلم الذي
وقع على المواطنين السوريين
الأكراد، إن في مسألة الحرمان
من الجنسية أو مصادرة الأراضي
لإقامة الحزام العربي، أو منع
تسجيل ملكيات عقارية، والإبعاد
عن الوظائف العامة وعرقلة تسجيل
المواليد...الخ، إلى حصول انقسام
عمودي عميق بين أبناء الوطن
الواحد، تجسّد في تشكيلات
سياسية خاصة، حيث لم يعد وجود
السوريين العرب والأكراد في حزب
واحد أمراً واقعاً، أكدت أحداث
القامشلي 12/3/2004 وتبعاتها عمق
الشرخ الوطني بين العرب
والأكراد.
لقد أدت السياسة
التمييزية التي ترافقت مع القمع
السياسي والاجتماعي، إلى
انكماش المشاعر الوطنية والى
عودة المواطنين إلى مواقع ما
قبل وطنية، مواقع طائفية
وعشائرية وعائلية ومناطقية.
وهذا قاد إلى انكماش المجال
السياسي إلى حدود العصبيات
القائمة على الانغلاق على
الذات، ما رتب كبح وحجز التطور
الاجتماعي وحوّل المجتمع
الواحد إلى مجتمعات متصارعة
تنفي بعضها بعضاً.
توج ذلك بإعادة
صياغة النخبة الوطنية في
الإدارة والتعليم والمؤسسات
الخدمية عن طريق اعتماد قاعدة
الولاء لا الكفاءة، وهذا قاد
إلى ترهل كل مناحي الحياة
الوطنية، ظهر أثر ذلك واضحاً في
مجال التعليم حيث باتت الجامعات
السورية، بسبب المدرسين <<الأكفاء
جدا>> والمصنعين في دول تبيع
شهادة الدكتوراه لمن يدفع،
تخرّج طلبة شبه أميين في مجال
اختصاصهم، بسبب وضع الإنسان غير
المناسب في مكان الإنسان
المناسب.
فكك سلوك النظام
السياسي والاقتصادي والاجتماعي
الاجتماع السوري، وطنياً
واجتماعياً، وولد أزمات سياسية
واقتصادية وخدمية خانقة، يشعر
المواطنون بأن السلطة تتجاهلها
وتتركها تتفاقم باتجاه المزيد
من الاختناق المعيشي والخدمي،
وكأنها ترى فيها وسيلة لشل
المجتمع وجعله في حالة انعدام
وزن عبر تركه يتمزق في دائرة
الاحتياجات اليومية، على طريق
تأبيد الخوف والحذر
الاجتماعيين، ودفع المواطنين
إلى مواجهة بعضهم بعضاً تحت ضغط
الحاجة ونتيجة عملية تذرر
اجتماعي.
كل هذا جعل حديث
النظام السوري عن الوحدة
الوطنية حديثاً مجانياً
ووهمياً، حيث لا وحدة وطنية دون
عدل ومساواة ولا عدل ومساواة
دون سيادة قانون ولا سيادة
قانون دون شرعية دستورية ولا
شرعية دستورية دون انتهاء
النظام الشمولي. وجعل المشكلة
الرئيسة التي يواجهها الشعب
السوري مشكلة قطيعة بين المجتمع
والسلطة من جهة ومشكلة غياب
الاندماج الوطني أو الوحدة
الوطنية من جهة ثانية، وهي حالة
خطيرة تنذر بانفجارات سياسية
واجتماعية ما لم تجرِ معالجتها
بسرعة وعمق، إنها قنبلة موقوتة
وقابلة للتوظيف من قبل قوى
خارجية في اتجاهات خطيرة عبر
تفجير صراعات دامية وتوظيفها في
برامج تمزيقية.
لقد غدت المهمة
الرئيسة، التي يجب أن يعمل
عليها الشعب السوري وحركته
الديموقراطية، إقامة وحدة
وطنية حقيقية عبر استعادة
الشرعية الدستورية وتطبيع
العلاقات بين المواطنين بتكريس
سيادة القانون وإقامة العدل
والمساواة في الحياة الوطنية
على طريق قيام اندماج وطني،
والتأسيس لوحدة وطنية حقيقية،
تختلف عن وحدة السلطة القائمة
على صمت المواطنين المذعورين
والمستسلمين، عبر حوار وطني
شامل يهدف إلى إقرار تفاهم حول
المستقبل والسعي إلى إقامة دولة
الحق والقانون على طريق قيام
نظام ديموقراطي والتأسيس لعقد
وطني جديد.
*كاتب
سوري
السفير 19/01/2006
المقالات
المنشورة تعبر عن رأي كاتبيها
|